الإنسان ذلك التركيب المعقد ما بين الروح والنفس والجسد فهو كتلة واحدة مترابطة متفاعلة أحدثت شكل الإنسان وطبيعته عندما يسعى لتلبية حاجته الطبيعية المشروعة، فالروح سر الحياة وحركة الجسد وإدراكه فإن انتهت من وجودها فقدت الحياة والحركة للتفاعل معها، والجسد ذلك الكيان الذي يجمع الأعضاء المركبة والمتفاعلة لتعطي التركيب الإنساني وهو الجبلة الترابية المتقلبة أو المزاجية، والنفس مختلطة ومركبة ما بين الروح والجسد وتحكمها إرادة العقل والقلب المرتبطة بالجوارح وأدوات الحواس التي تحرك انفعالاتها وتوجه مشاعرها وجوارحها حسب مؤثراتها الداخلية والخارجية.
النفس هي الذات الإنسانية التي تعطي الصفة لثبات الشخصية وبروز صفاتها، وهي المظهر الخارجي للناس بما يحمله بداخله من اعتقادات ومشاعر تظهر كسلوك وعادات وقيم، وهي المتحكمة بجانبها الروحي والجسدي فإما أن تميل وترتقي بروحها لتصل للعلياء بالقيم والسلوك والأخلاق وإما أن تنحدر وتسقط للأرض لتكون عبده لشهوات الجسد المتحكم بإداراتها لتركض وراء تلبية غرائزه المختلفة والتي لن ينتهي منها ما دامت هيمنة عليه وتولت أمر قيادته لذاته.
والذات هي الأنا في علم النفس الواقعة وسط الأنا الأعلى وهي الضمير، والهو هي الأنا السفلى مقر الغرائز والشهوات الجسدية، وحتى تتزن الذات الإنسانية وتقوم على السواء يجب أن تلتزم بميزانها الوسطي وتشبع حاجاتها الغريزية بما شرع لها من العقيدة السوية دون إفراط ولا تفريط لتنشغل للعمل بما هو أسمى وأعلى لوجودها نحو إعلاء الضمير والقيم الراقية القائمة على العدل والحق والذي يكون بتغذية الذات من العلم والمعرفة السوية والسليمة التي تطبق كسلوك ومنهج حياة يحفظ لها عدم انحرافها ويربي فيها ضميرها.
والأنا الأعلى أو النفس اللوامة في القرآن الكريم أو الضمير الإنساني هي من تضبط حركة الهو أو النفس الأمارة أو الموسوسة ومقر الغرائز والشهوات فلا تجعلها تعلو على الذات فتوجه الذات لتسير نحو الطمأنينة والسكينة السوية فتحدث النفس المطمئنة والسوية.
فتربية الإنسان منذ طفولته على علو ضميره أو الأنا الأعلى وسيطرته على سلوكه دون أن يفرط فيه فيصاب بالوسواس القهري أو تأنيب الذات المرضي سيخرج للمجتمع أنساناً صالحاً قادراً على تحمل المسؤولية والأمانة والمحافظة عليها دون استغلالها أو إفسادها وسيحفظ حقوق الآخرين وحرياتهم ويعطي لمن يقع تحت رعيته حقه ويحقق له أمنه وسلامته.
فالإنسان صاحب الضمير والارتقاء بالأنا الأعلى لا يُقدم مصلحة ذاته أمام مصلحة الجماعة والعامة فيكون أميناً على وطنه ودينه وأهله، ولا يستغل منصبه وإدارته ليرهب الضعفاء والمساكين أو يختلس الأموال والرشاوى التي لا يستحقها، ولا يفرط في مهنته أينما وجد سواء كان معلماً في مدرسته أو طبيبا يرعى مرضاه في عيادته أو المشفى أو مهندساً قائماً على مساكن الناس فلا يغش ولا يدلس في بنائه ليحفظ حياة الناس من الهلاك، والتاجر في الأسواق الذي يحفظ أموال الناس بعدم استغلال الأوضاع ورفع الأسعار واحتكار البضائع، والسائق الذي يحفظ للناس أمانتهم ويعطي للطريق حقها ولا يعتدي على حق غيره، والشباب الذي يسير على الطرقات أو يتقلب في سيارته بين الأحياء والشوارع الرئيسية فيطلق العنان لصوت المذياع والأغاني دون مراعاة لحرمة الناس في البيوت والطرقات وتخونه عيناه فيطلق لها البصر ليراقب أعارض الناس ويعتدي عليها بألفاظ السوء، والنزاعات والخلافات بين العائلات والجيران فإما لحدوث طلاق أو ميراث أو اختلاف على أمور تافه، وطالب العلم الذي يسعى لطلب علمه مجتهدا ساهرا عليه دون أن يستخدم البلطجة أو العلاقات الشخصية و الغش لأجل أن يحمل شهادة يتباهي بها بين الناس، ومن يخوضون في أعراض الناس دون حق ولكن بسبب التحاسد والتباغض وغير ذلك كثير من أمراض المجتمع التي تستشري في قلوب بعض الناس لضعف الأنا الأعلى أو الضمير وسيطرة الهو أو الغرائز والنفس الأمارة على الأنا أو الذات والسعي لإرضائها وتلذذ بمتعها غير سوية وضعف الارتقاء الروحي والقيم بالعلم والمعرفة الحقيقية.
وعندما تضعف الرقابة الداخلية لبعض أفراد المجتمع وبالذات عند أصحاب القرار والمسؤولية ومن يتولون أمور الناس أو الحكام والرؤساء عندها سيعم الفساد وينتشر بين الناس لأن الرقابة الخارجية ضعيفة ولا تؤدي عليهم أو غير موجودة أو تغطي وتسكت عما يصنعون فيكون ذلك زيادة في امتداد الفساد وسيطرة الرغبات والأهواء والمصالح الشخصية وطمع الذات وأنانيتها فيقع الظلم والضياع لحقوق الناس والرعية وهي السواد الأعظم من الناس ومن لهم الحق فيما يهيمن عليه هؤلاء المسئولين أو القائمين على أمور العباد.
فإذا وجدت الرقابة الداخلية وتربي الإنسان منذ طفولته على قوتها وهيمنة ضميره الإنساني والأنا الأعلى على ذاته وخوفه من أن تضعف وتميل نحو الانحراف للرغبات وطمع الذات فهذا الإنسان لو وضع في أي بيئة توفرت فيها المغريات ووضعت أمام ناظريه لن يسقط أمامها وينحرف متراكضاً إليها فضميره الحي ورقابته الذاتية أقوى من قوة المغريات وبهرجتها وزينتها وسيكون حريصاً على أن يؤدي أمانته بإخلاص وعدم إيقاع الفساد في نفسه ومن يحيطون به ويحرص على علو قيمه وارتقاه ذاته وروحه لتكون على أحسن الخلق والقيم، فهذا الإنسان جديرا أن يحمل أمانة أمته وأمانة شعبه ووطنه ويدافع عنه ويستحق أن يكون ممن يتولون أمور الحكم والعباد لأنه سيقيم العدل والحرية وحقوق الناس ولن يسمح لذاته أن تعلو عليها شهواتها وغرائزها لتميل نحو البطش والظلم والعدوان وقهر العباد وقتلهم عندما يرفعون أصواتهم مطالبين بصحوة الذات وتحقيق العدالة الشاملة ليعيشوا حياتهم كرماء، فكيف لو وجدت أيضا رقابة خارجية دائمة عليه فسوف يزداد الأمن والأمان وتعم الحريات وتتحقق الحقوق والكرامة الإنسانية.
وكما أن الضمير أو الأنا الأعلى تتشكل في ذات الإنسان الفردية وتظهر نمط الشخصية وسلوكها وميولها كذلك هناك الضمير الجمعي أو الأنا الأعلى الجمعية أو النفس اللوامة الجمعية التي تعمم على جميع أفراد المجتمع ومؤسساته بل تكون منهجاً ودستوراً تسير عليه الدول ليكون ثقافة يتربى عليها الأجيال لتحمي حقوقهم ووجودهم دون أن تسيطر عليها أنا الذات ومصلحتها، فكلما ارتقى المجتمع بتربية الأبناء على الشعور الجمعي بذلك الضمير القائم على القيم والسلوكيات الوطنية والدينية التي تحرص على حفظ الوطن وبقاء هويته ووجوده وسن القوانين الإنسانية التي تحافظ على حقوق الناس كلما ارتقى المجتمع نحو العلياء وسمى ليحقق أعظم الإنجازات الوطنية والسلوكية ليفتخر بها بين الدول.
ومن أهم القيم الوطنية التي يجب أن يتربى عليها الضمير الجمعي الحرص على الوحدة والأخوة والتكافل والتضامن والانتماء الوطني وعدم السماح للخلافات أن تشق صف الوطن الواحد فترهقه بالنزاعات والحروب النفسية والإجتماعية الداخلية فيصاب الوطن بالاضطراب والخلل الذي يصعب الخروج منه.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت