الدولة الإسلامية: إسلامية لا مدنية (الحلقة الخامسة)/مصطفى إنشاصي

بقلم: مصطفى إنشاصي

في الحلقات الماضية حاولنا توضيح الخلل الذي وقع فيه المتغربون من أبناء وطننا عند اتصالهم بالغرب وانبهارهم بمظاهر الحضارة الغربية، ومحاولاتهم نقل تجربة الغرب مع الدين النصراني (حكم الكنيسة ورجال الدين) طوال فترة العصور الوسطى الأوروبية واستنساخها وإسقاطها على الدين الإسلامي دون تمييز لأي فارق بين الدينين، سواء مصدر كل منهما لأنه هناك فرق بين دين كتابه وحي من الله تعالى -الإسلام- وبين دين كتبه ورسائله كتبها البشر –اليهودية والنصرانية- أو بين تاريخهما وممارستهما التي سبق أن ذكرنا بعضها! وأوضحنا أنه يستحيل أن تتطابق تجربة الغرب مع ديننا مهما قدمنا من تنازلات أو حاولنا تجميل عمليات الاستنساخ المشوهة التي شوهت واقع الأمة وعقدت أزماته وعمقت نكباته، لأنهم خلطوا بين الدين والقانون وليس بين الدين والسياسة لأن الدين الإسلامي أشمل من فهمهم المحدود له على أنه مجموعة من الشعائر والعبادات التي يجب أن تصبح على الطريقة الغربية علاقة بين الإنسان وربه فقط، وأوضحنا أن المشكلة ليست بين الدين والسياسة ولكنها بين الدين والقانون! كما أوضحنا أن التعامل مع  المصطلحات والمفاهيم التي تتباين تبايناً جوهرياً في معانيها وأبعادها من منطلق السياسة أو غيرها من المبررات أسلوب خاطئ، لذلك أكدنا على أن الدولة المدنية مرجعيتها البشر أنفسهم وما يتعارفون عليه ويقبلون به وإن كان في ذلك ضرر بالإنسان الفرد أو دمار البشرية لأن الكلمة الفصل فيها للديمقراطية ورأي الأغلبية، في حين أن المرجعية في الدولة الإسلامية مرجعية إلهية ولله وحده حق وضع الشرائع (القوانين أو النظام العام) وفي ضوئها يحق لأهل الاختصاص من المسلمين الاجتهاد في استنباط الأحكام والقواعد التشريعية التي لا تخرج عن مقاصد التشريع الإلهي ما يُصلح حالهم في كل زمان ومكان، وذلك هو الجانب المدني –إن صح التعبير- في الدولة الإسلامية!.


 


أضواء على المحاضرة


والدولة المدنية الديمقراطية هي التي يحكم فيها الناس أنفسهم بأنفسهم وينشغلون فيها بالبحث عن حقوقهم وتحقيق الحرية والعدالة والمساواة بين أفراد المجتمع، ولا يكون فيها الحاكم فوق المحكومين ولكن موظف لدى الشعب فرد من أفراده خادم لهم وليس فوق القانون، والدولة المدنية تحافظ على حقوق المواطنين ولا تسمح بالتجسس عليهم أو الإطلاع وكشف أسرارهم أو الاعتداء أو الإضرار بهم وبمصالحهم وغير ذلك، بمعنى أنها دولة القانون التي تساوي بين جميع مواطنيها بغض النظر عن دينهم أو عرقهم أو طائفتهم على أساس المواطنة وأنهم جميعهم متساوون في الحقوق الواجبات أمام القانون! تعالوا معي في رحلة لنرى أن ذلك وغيره سبق فيه المسلمين الغرب وضربوا فيه أروع وأسمى الأمثلة في تاريخ الإنسانية ولنبدأ من القمة:


 


توفى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولم يسمي خليفة له ولم يحدد آلية لاختياره ولا يوجد في القرآن اسم ولا آلية اختيار أيضاً، فماذا فعل المسلمون؟! أوجدوا آلية للاختيار واختاروا أبو بكر رضي الله عنه خليفة في سقيفة بني ساعدة. ترى هل بمجرد تمت البيعة له في السقيفة أصبحت بيعته نافذة على الأمة؟ طبعاً لا! ولكن تلاها بيعة وموافقة عامة من جميع أو غالبية المسلمين في صلاة الجمعة حيث عُرض الأمر عليهم ليبايعوه وبايع الجميع إلا نفر من المسلمين، لم يمنعهم اعتراضهم على بيعته من الصلاة خلفه وطاعته والالتزام بأمره والنصح له. وفي ذلك دليل على أنه لا يتم تولي ولي الأمر بدون مشورة أو رضا المسلمين به. وكذلك المعارضة لا تكون لأجل المعارضة وتأخذ مواقف مخالفة لموقف الحاكم لمجرد أنها معارضة ولكن تحكم مواقفها ومصلحة الأمة. وذلك كان أول نموذج عملي لتطبيق مبدأ الشورى في الإسلام في اختيار الحاكم والعلاقة بين الحاكم ومعارضيه، يفوق في مزاياه النظام الديمقراطي الذي يطالب به أنصار الديمقراطية والدولة المدنية!.


 


وبعد أن تمت له البيعة لنرى صفته ووضعه إن كان ذي طبيعة إلهية أو نصف إلهية أو معصوم أو فوق الناس أو أنه فرد من أفراد المجتمع، فلقد حدد للمسلمين صفته في خطبته فقال: وليت عليكم ولست بخيركم ..! أي أنه مثله مثل أي مواطن ولم يرى نفسه فوق أحد أو خير من أحد. كما وضع مرجعيته في الحكم وشروط طاعته: أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن توليت لا طاعة لي عليكم! كما أنه كان يعمل مثله مثل أي مواطن كي يعول نفسه وأسرته ولم يكن له لا مرتب ولا بيت أو قصر أو حرس ومرافقين وغيره مما عليه الحال اليوم، وعندما رأى المسلمين أن ذلك لا يليق بسمعة وهيبة خليفة الأمة أن تأتِ الوفود فلا يجدونه في مقره (المسجد) ولا في بيته، ولكن في السوق يبيع ويشتري ويجلسوا ينتظرون أن يذهب أحد للبحث عنه ليحضر لمقابلتهم، وعندما عمر بن الخطاب ذلك رد عليه: أجلس في بيتي أو المسجد ومن أين أُعيل أسرتي؟! وقد كان محقاً فرأى المسلمون أن يخصصوا له راتب سنوي يكفي حاجته ولم يزيد يومها عن حد الكفاف وليس كما هم حكامنا اليوم! هل كان في ذلك نص من قرآن أو سنة أم أن مصلحة الأمة اقتضت؟! وعندما كان على فراش المرض قبل وفاته وسأله بعض المسلمون مَنْ سيولي بعده؟ فاختار عمر بن الخطاب. هل كان ذلك مخالفاً للعمل بمبدأ الشورى؟ أم أن المصلحة اقتضت ذلك حتى لا يختلف المسلمون ويتفرقوا وحروب الردة ليست بعيدة؟! وذلك نموذج آخر لم يكن فيه نص لا من قرآن ولا سنة ولكن اقتضته مصلحة الأمة!.


 


ولا أريد هنا أن أكرر المواقف المعروفة عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه من اعتراض ونقد البعض له في بعض المسائل ولكن فقط تذكرة لدعاة الدولة والحقوق الفردية والمدنية أنه في الإسلام الحاكم فرد من أفراد المجتمع أمام شرع الله:


 


جميعنا يعلم أن عمر كان يقضي الليل يتحسس حاجة رعيته خوفاً أن يُقصر في حقهم فيُسأل عنهم يوم القيامة، وفي إحدى الليالي سمع حركة مريبة في أحد المنازل فقام بتسور سور البيت فوجد رجلان من المسلمين يشربون الخمر، وأراد أن يقيم عليهما الحد في الصباح، فاعترضوا على ذلك بأنهم يشربا في ستر بيوتهم ولم يخرجوا للشارع ويؤذوا الناس وفي حالتيهما ليس من حقه إقامة الحد عليهما شرعاً. ولكنه أصر على ذلك فقالوا: حدٌ بحد! فسأل مندهشاً أي حد يمكن أن يقام عليه؟! فقالوا: أن الله تعالى نهى المسلم عن التجسس وأنت تجسست! ونهى عن دخول البيوت بدون أذن أهلها وهو دخلها بدون إذن!. وأمر تعالى دخلوا البيوت من أبوابها وهو تسورت الجدار! فما كان منه إلا أن عقد معهم اتفاق ألا يقيم عليهما الحد شريطة أن يتركا شرب الخمر! باللهِ عليكم يا دعاة الحقوق المدنية أين هي أمريكا داعية حقوق الإنسان من هذا النموذج وهي التي تتجسس على مواطنيها وتراقبهم عبر هواتفهم وشبكات الانترنت والكاميرات الخفية وغيرها، ونصيب الأقلية الإسلامية الأسوأ؟!.


 


وعندما جمع عمر الناس في أحد الأيام وسألهم: لو قلت لكم أني رأيت فلان وفلانة يمارسان فعل الزنا أتصدقونني؟ فقالوا: نعم! وقد كان عازم الأمر على ذكر أسميهما وإقامة الحد عليهما، فقال له علي بن أبي طالب: أمسك! واستطرد: أربعة شهود أو إقامة الحد عليك. أي حد رمي المحصنات! ولم يكن لديه شهود فسكت! باللهِ عليكم يا دعاة حقوق الإنسان والحقوق المدنية قولوا لنا: كم من المظلومين يقضون في السجون منذ سنوات بدون بينة ولا شهود ولا جريمة أصلاً؟! وكم من الأفراد الذين تنتهك حرماتهم يومياً سواء في بلداننا أو في بلدان الغرب راعي حقوق الإنسان وصاحب الدول المدنية؟! والأمثلة على ذلك كثيرة في حياة الخليفة العادل ولكن الذين أصبحت قبلتهم وقدوتهم هناك في عواصم الغرب عُميت أبصارهم وبصائرهم عن رؤية تلك النماذج وعُقدت ألسنتهم عن المطالبة بحكام يقتدون بها ويطالبون بالنماذج الغربية الزائفة عن الحقوق المدنية والفردية!.


أو قد يكون الأمر استدعى من عمر عندما كان يتفقد رعيته في إحدى الليالي وسمع تلك المرأة التي طال بِعاد زوجها عنها في الجهاد تردد شعراً بمعنى أنها لولا خوفها من الله تعالى كانت ارتكبت الفاحشة، فأسرع إلى ابنته أم المؤمنين حفصة وسألها: كم تصبر المرأة على فراق زوجها؟ فقالت: أربع أو ستة أشهر. فوجه كتاباً مباشرة إلى قادة الجند في كل الأمصار يأمرهم ألا تزيد مدة ابتعاد المجاهدين المتزوجين عن أسرهم أكثر من أربعة أشهر. وهذا النظام تعمل به الآن كثير من الجيوش العربية. أو عندما علم أن النساء يفطمن أبنائهن قبل أن يبلغوا سنتين من العمر لصعوبة الظروف وحاجتهم لحقهم في بيت مال المسلمين، وذلك يضر بصحتهم وبنيتهم الجسدية في الكِبر، فأمر بعدم الفطام قبل بلوغ الطفل سنتين وأمر بصرف حليب ونصيب للأطفال مثلهم مثل الكبار. قد يكون الأمر استدعاه أن يقدم طلباً لسكرتارية أو أمانة سر مجلس الشعب (البرلمان) كي يحددوا جلسة يتم فيها إدراج مثل هذه المسائل الملحة التي فيها صون للعرض وحفظ للنفس لمناقشتها، وتطول جلسات النقاش  ويتخذوا قرار بعد سنوات أو أشهر من الجدل، وقد يتم تنفيذه وغالباً يتم نسيانه كما يحدث في قضايا مصيرية في هذا الزمن وتحتاج إلى حلول سريعة ولكنها تنتظر دورها في البرلمانات العربية، واحسبوا كم من الملايين الذين يتضررون أو يموتون أو يبتلون بأمراض اجتماعية وأخلاقية وهم ينتظر حلول لمشاكلهم، أو قد يكون البعض اعترض على قرارات عمر بأنه لا يوجد نص في القرآن أو السنة يقول بذلك؟ أو اعترض وزير المالية بأن الميزانية لا تسمح أو غير ذلك؟! ومثلها عندما اقتضت حاجة الدولة إلى تشكيل دواوين وإنشاء سجلات لكتابة أسماء الجند والمواطنين الذين يحتاجون إلى خدمات أو حقوق وغيرها من الأمور الإدارية التي احتاجتها الدولة الإسلامية بعد اتساعها وصدرت فيها قرارات وأنشئت احتاجت إلى نص من القرآن الكريم أو السنة النبوية، أو إلى اجتماع أهل الحل والعقد (الشورى) ومناقشة تلك المسائل والجدل والاتفاق أو الاختلاف حولها؟!.


 


أو قد يكون الأمر تطلب نقاش وجدل وأخذ ورد لشهور وسنوات عندما رأى عمر أحد الشيوخ يستطعم الناس (يتسول) على أبواب المساجد فاستغرب أن يكون بين المسلمين مَنْ يتسول، فذلك يعني أن الدولة لم تؤدي له حقه! وعندما قيل له: هذا رجل من أهل الذمة كَبُر وضعف يسأل الناس ليدفع الجزية, ‏وضع عنه وعن ضربائه الجزية، وأرسل إلى خازن بيت مال المسلمين فقال: انظر هذا وضرباءه فوالله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم ‏‏(إنما الصدقات للفقراء والمساكين) والفقراء هم المسلمون، وهذا من المساكين من أهل الكتاب،! وقولته هذه بيان إسلامي عالمي في معنى المواطنة ومسئولية الدولة الإسلامية عن المساواة بين كل مواطنيها بغض النظر عن دينهم أو عرقهم ماداموا قبلوا بعهد المسلمين لهم بأن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين ولم يخونوهم أو يتآمروا عليهم!وفي عقد الذمة الذي عقده خالد لنصارى الحيرة: "وجعلت لهم أيما ‏شيخ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنيا فافتقر، وصار أهل دينه يتصدقون عليه، طُرحت جزيته، وعيل من بيت مال المسلمين هو وعياله! وقصة إعطاء شرحبيل بن حسنة الرهبان من أموال الزكاة مشهورة في التاريخ. بمفهوم العصر وفر لهم حياة كريمة وهم أهل ذمة، أقليات، يا دعاة حقوق المواطنة والدفاع عن الأقليات التي لا يتذكرها الغرب وأمريكا خاصة إلا في وطننا أما المواطنين وليسوا أقليات في دولهم وكثير من حقوقهم مسلوبة ولا يتمتعون بحق المواطنة الكامل لا يذكرونهم!


 


وقصة عبادة بن الصامت الذي دعا نبطياً يمسك له دابته عند بيت المقدس فأبى, فضربه فشجه, فشكاه لعمر بن الخطاب, فأمره بالجلوس ليقتص منه النبطي الذي قبل بالدية. أما قصة القبطي الذي قدم المدينة على عمر بن الخطاب شاكياً بأنه تسابق هو وابن عمرو بن العاص والي مصر فسبقه فقام بضربه وقال له: أتسبق ابن الأكرمين؟! فاستضافهما عمر وأرسل إلى عمرو بن العاص وابنه وعندما حضرا قال قولته المشهورة: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟! وقال للقبطي اضرب ابن الأكرمين!.


 


أم أن دعاة حقوق الإنسان وحقوق المواطنة الذين يريدون دولة لكل مواطنيها لا يرون من الإسلام إلا فرض الجزية على أهل الذمة -التي لا تساوي شيء بالنسبة لمبلغ الزكاة التي يدفعه المسلم– التي تُدفع مقابل إعفائهم من الجيش والخدمة العسكرية وتوفير الأمن والحماية لهم، وفي حال عجز المسلمون عن ذلك لا يأخذوها بل وسبق أن رد سيدنا خالد بن الوليد لأهل حمص ما أخذه من جزية منهم بعد أن تراجع أمام الروم عن حمص، وكذلك فعل سيدنا أبو عبيدة بن الجراح ورد لأهل دمشق جزيتهم عندما لم يتمكن من حمايتهم، وفي الوقت نفسه لم يروا ولم يدركوا معنى أن يقبل عمر بن الخطاب من قبيلة تغلب العربية النصرانية المشاركة في القتال إلى جانب المسلمين مقابل إعفائهم من دفع الجزية لأنهم رأوا فيها تعارضاً مع أنفتهم العربية، كما كانوا موضع ثقة لا يُخشى منهم خيانة للمسلمين؟! كما لم يروا تلك المعاملة الحسنة التي ذكرنا نماذج لها التي تمتع فيها أشقائنا في الوطن من غير المسلمين بكامل حقوق المواطنة مثلهم مثل المسلمين؟!.  


 


ذلك غيض من فيض لمَنْ يريد أن يعي ويفهم ليكف عن مهاجمة الإسلام ورميه بما ليس فيه. نحن في حاجة إلى بساطة الإسلام وسرعة حلوله في هذا العصر لإقامة الدولة الإسلامية الحقيقية التي تحترم حق المواطنة بغض النظر عن الدين أو العرق وبعيداً عن التعقيدات والروتين والبيروقراطية وغيرها من ألوان وصور وأشكال المعاناة التي نعيشها في هذا العصر، والتي تتوفر فيها الحرية والحقوق المدنية الحقيقية وليس الزائفة كما في الدول العلمانية المدنية على الطريقة الغربية.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت