عبد الحميد الحداد ، هذا الرجل العجوز الذي هاجر مع أبيه من يافا ، إلى مخيم خان يونس ليعاني شظف العيش ، ومرارة اللجوء ، ولاطم أمواج الدنيا العاتية ، حتى منّ الله عليه بابنه (محمد) الذي شاركه رحلة الشقاء ، محمد ابنه الأكبر كان ذو ميول فنية ، واستطاع رغم فقر أبيه المدقع أن يلتحق بجامعة الأقصى كليه الفنون الجميلة ، وحصل على بكالوريوس تربية فنية ، وفي عام 2000 التحق بوزارة التربية والتعليم للعمل كمدرس للفنون في مدارس بني سهلية شرق خان يونس ..
وبمساعدة أبيه الذي لم يفارق الفخر محياه ، لأن زهرته قد انبتت معلمًا ، تزوج محمد من (تحرير أبو دان) وأنجبا طفلين (عبد الحميد8 سنوات وسلوى9سنوات ) وبسبب ضيق البيت الكائن في مخيم خان يونس ، ورغم الموت والخطر، صمم المدرس محمد ، أن يسكن في أبراج حي النمساوي غرب خان يونس ، وتحمل صوت وخطر زخات الرصاص ، ليرسم هو ومن رافقه من شباب المخيم أجمل صورة من صور الصمود والتحدي لثكنات الجيش الصهيوني ، وقطعان المستوطنين المتاخمين لأبراج حي النمساوي ، وبعد انسحاب قطعان الكيان من غزة ، شرع محمد عبد الحميد الحداد وزوجته يرسمان مستقبل أفضل لطفليهما ، ولم يضعا في حسبانهما ما يخفى لهم الزمن من انقسام بغيض وتوابعه ، اغتال الزوجين واغتال حلمهما ، وسرق عنوةً البسمة ومعاني الطفولة من طفليهما عبد الحمد وسلوى..
محمد كان يحلم ويصرح لي بحلمه ، أن صفحات الانقسام ستطوي قريباً ، وستطوى معه تبعاته الثقيلة الأخرى ، وعلى رأسها صفحة الانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي ، والتي أصبحت مقززة تشمئز منها النفوس ، وتدهورت القيم الإنسانية ، وتحطمت المعنويات والتواصل والنسيج الاجتماعي في غزة ، بل وتسببت في العديد من الحالات النفسية لدى الأطفال والزهرات ..!
وفى مساء ليلة الخميس 18-1-2012 تبدأ رحلة ابن شقيقتي محمد وزوجته مع الموت ، زوجته تحرير التي أيضا فجعت قبل أكثر من عام بخطف أنفاق الموت في رفح لشقيقها العريس ، وكان الموت القاهر أصبح ملازما لها ولمن تحب ، فلا بأس من موتها وموت كل الشعب ليحيا تجار الموت ..! وفى مساء هذه الليلة المشئومة المصاحبة لانخفاض جوى قبرصي بارد ، ابرد من وجوه الانتهازيين وتجار الموت في بلادنا وعالمنا العربي ، انقطع تيار الكهرباء كالعادة لتنتشر غربان الموت في سماء خان يونس بلد اللجوء ، وأطفال محمد يرتجفون بردا وخوفًا من الظلام ، فما كان من الأبوين إلا البديل الشعبي ، وأشعلا موقد المنزل المتواضع، ووضعوا عليه بضع حطيبات وقليل من الفحم ، وشرع الأبوان ينسجان قصص لإلهاء أطفالهم ، اللذان غالبهم النعاس في شقتهم الصغيرة المغلقة ، ونام الطفلان ، وغطوا في سبات عميق ، وفى الركن الثاني من البيت الصغير ، غلب على محمد وتحرير النعاس ، بعد أن أزاحا الموقد من جوار الأطفال ، وقرباه باتجاههما بعد انتظارهم الطويل ، عسى أن يحن عليهم موزعي شركة الكهرباء في غزة ، ويتجملوا على الفقراء ، بسويعات إضاءة ، لا تغنى ولا تسمن من كهرباء عرجاء لا تسر المنتظرين ..
وكانت الفاجعة ، نام محمد وتحرير، لا يعرفان ماذا يخبئ القدر لهم ،وفى الساعة السادسة والنصف صباحًا – كالعادة – استيقظ العصفوران من نومها ليوقظا أبويهما لإعداد وجبه الفطور ، صرخت الطفلة سلوى ( أمي – أمي ردى عليّ يا أمي ، ثم تحولت إلى الأب وكررت النداء ، ولكن لاحياه لمن تنادى ، لان الموت قد سبقهما ومات الأبوين اختناقاً من غاز أول أكسيد الكربون المنبعث من الفحم ..
وبعد إجراءات وترتيبات دفن المغتالين قصرًا (محمد وزوجته تحرير) ، في مقبرة لا تبعد عن بيته أمتار ، ليسهل على الأطفال أن يسقوا الورد المغروس على قبر أبويهما . وأمطرت سماء خان يونس بعد انحباس الأمطار عنها حزنًا ليس على محمد وزوجته ، ولا على يتم أطفالهما ، بل على ما آلت إليه أحوال ارض فلسطين الطيبة ، حزنا وغضبا على الانتهازيين الباحثين عن مناصب ورقية وهمية ، والشعب يموت ..!!
حزنا على شركة الكهرباء التي تذيل وراء اسمهما كلمة وطنية ، والوطن منها براء ..!!
عشرات الحالات قتلت بسبب الانقطاع غير المبرر للكهرباء ، إما خنقا من الغازات المنبعثة من مولدات الكهرباء أو موتاً وتشويهاً من انفجاراتها ، أو بسبب إشعال شمعة لإنارة بيت أو مطبخ ، وما مأساة عائلة برغوث في دير البلح ، وموت الصيدلي والطبيب في النصيرات وخان يونس ، وانفجار المولدات الكهربائية اليومية ، وحالات الاحتراق للبيوت والمناجر والمتاجر، إلا صورة بشعة وحية لتلك الجريمة المنظمة التي خلفها الانقسام ، وتبعاته من انقطاع الكهرباء وانعدام الغاز وأخواتها ..!
والسؤال المطروح لكافة المستوزرين والباحثين عن الحقائب الخاوية لإملاء كروشهم ، ألم تنزلوا للشارع يومًا ، وتسالوا المعوزين الكادحين اللاجئين الصابرين ، ما رأيهم في انقطاع الكهرباء ؟، ألم تدركوا أن حججكم الواهية باتت لا تطلى على العوام والطفل والشيخ والمرأة ؟ ، ألم تشعروا أن أكاذيبكم قد انكشفت ، عن أي أسباب سياسية تتحدون ؟ وهذا يحمل ذاك المسئولية ، وآخر يدوس على جماجم وجثث الثكلى ، وليموت الشعب ولتبقى أصنامه من اللات والعزي شامخين ..! ، ويهتف كما هتف فرسان الجاهلية الأولى ( اعلوا هبل ومناة )
تأسيسا لما سبق ، ومن واقع مسئوليتي ككاتب ، أطالب بدم ابن شقيقتي وزوجته ، وباسم الآلاف من الحناجر الغاضبة من فخامة شركة الكهرباء، ومن يقف ورائها ، بالتعويض عن دم ابن اختى وتيتم أطفاله ، وباسمكم جميعا ابدأ برفع الدعوة فهل انتم معي يا قوم – الكاتب د.ناصر إسماعيل جربوع اليافاوي - الأمين العام لمبادرة وفاق لشئون غزة
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت