دراسة بعنوان: من مصالحة إدارة الانقسام إلى المراجعة الاستراتيجية‎

 


أعد د.إبراهيم أبراش أستاذ العلوم السياسية بجامعة الأزهر بغزة دراسة حملت عنوان (من مصالحة إدارة الانقسام إلى المراجعة الإستراتيجية).


 


وتناول د.أبراش في دراسته ما وصفها بالحالة المأزومة التي تمر بها حركة التحرر الوطني الفلسطيني المعاصرة سواء من ناحية بنيوية ووظيفية عميقة، أزمة قيادة،أزمة برنامج وطني،أزمة فكر وأيديولوجيا،أزمة شرعية،ثم أزمة انقسام، ووصول الخيارات المعلنة والبرامج الحزبية لطريق مسدود،سواء كان خيار المفاوضات والتسوية السلمية لدى منظمة التحرير وفصائلها أو خيار المقاومة لدى حركة حماس ومن يشايعها من الفصائل.


 


واعتبر أستاذ العلوم السياسية أن هذه الحالة تستدعي مراجعة إستراتيجية شمولية لمجمل الحالة السياسية الفلسطينية سواء للبرنامج الوطني الذي وضع في منتصف الستينيات وكان يقول بتحرير كامل فلسطين من البحر إلى النهر،أو البرنامج الوطني الثاني الذي تم الإعلان عنه في إعلان الجزائر 1988 والذي يقول بدولة الضفة وغزة.


 


وناقش د.أبرش موضوع الدراسة في ثلاثة محاور تناول المحور الأول منها:المشروع الوطني التحرري ضرورة وليس خيارا, فيما تناول المحور الثاني: الانقلاب على المشروع الوطني وتعثر محاولات الإنقاذ, أما المحور الثالث فكان عنوانه: آليات تنفيذ المراجعة الإستراتيجية للمشروع الوطني


 


..........الدراسة


أ-د/إبراهيم أبراش


من مصالحة إدارة الانقسام إلى المراجعة الإستراتيجية


 


مقدمة


تمر (حركة التحرر الوطني الفلسطيني المعاصرة) بأزمة بنيوية ووظيفية عميقة:أزمة قيادة،أزمة برنامج وطني،أزمة فكر وأيديولوجيا،أزمة شرعية،ثم أزمة انقسام ووصول الخيارات المعلنة والبرامج الحزبية لطريق مسدود،سواء كان خيار المفاوضات والتسوية السلمية لدى منظمة التحرير وفصائلها أو خيار المقاومة لدى حركة حماس ومن يشايعها من الفصائل.هذه الحالة المأزومة تستدعي مراجعة إستراتيجية شمولية لمجمل الحالة السياسية الفلسطينية سواء للبرنامج الوطني الذي وضع في منتصف الستينيات وكان يقول بتحرير كامل فلسطين من البحر إلى النهر،أو البرنامج الوطني الثاني الذي تم الإعلان عنه في إعلان الجزائر 1988 والذي يقول بدولة الضفة وغزة.حركة حماس ليست بعيدة عن هذه الأزمة لأنها إن لم تكن جزءا من المشروع الوطني فهي جزء من النظام السياسي،وبرنامجها يعيش نفس أزمة البرنامج الوطني لمنظمة التحرير.حركة حماس تعيد إنتاج تجربة منظمة التحرير ولكن بسرعة اكبر وبخسائر أكثر،فهي اليوم تقف على تخوم برنامج الرئيس أبو مازن،وسواء كان الأمر تكتيكا أم تحولا جذريا فالواقع يقول بان حركة حماس أوقفت المقاومة وتحولت لسلطة وحكومة في قطاع غزة ولديها الاستعداد للبقاء في هذا الوضع لسنوات.


 


إن كان يجوز القول بأن المشروع الوطني الأول الذي صاغته منظمة التحرير الفلسطينية عند تأسيسها 1964 أو الذي قالت به حركة فتح عند انطلاقتها 1965،قد فشل أو تم تجاوزه لأنه مشروع قام والضفة وغزة غير محتلتين،ولأن المكونات العربية والدولية التي كانت تقف وراء تأسيسه تغيرت،فإن البرنامج الذي يقول بدولة على حدود 1967 أصبح أيضا مأزوما نتيجة الاستيطان ونتيجة الانقسام الفلسطيني وبسبب غياب أدوات نضالية وطنية لتحقيقه حيث تم رهن هذا البرنامج بالتسوية والمفاوضات فقط،وما زاد في إزمة هذا البرنامج هذه المتغيرات والتحولات الإقليمية والدولية التي استجدت على مجريات الصراع كصعود الإسلام السياسي وأخيرا التحركات الشعبية الأخيرة والتدخل الغربي السافر في مجرياتها .


 


لا بد من التطرق لملاحظة مفاهيمية .فمع أننا قد نستعمل مصطلحات النظام السياسي والمشروع الوطني والبرنامج الوطني بنفس المعنى حيث يحدث تداخل موضوعي ومفاهيمي بينها في بعض المراحل التاريخية ،إلا أنه يمكن التمييز بين هذه المصطلحات بحيث يمكن القول بأن النظام السياسي الفلسطيني يشمل كل المكونات السياسية سواء كانت سلطة أو معارضة وسواء كانت ممأسسة رسميا أو غير ممأسسة وسواء كانت سياسية أو عسكرية،أما المشروع الوطني فنقصد به المشروع الذي قام بداية مع منظمة التحرير واستمر معها خلال مراحل تطورها وتحولها بما تشمله من أحزاب وقوى ذات توجهات وطنية وقومية ويسارية،وعلى هذا الأساس فإن حركتي حماس والجهاد جزء من النظام السياسي وليسا جزءا من المشروع الوطني،أما البرنامج الوطني فكان بداية يتماها مع المشروع الوطني والنظام السياسي،ولكنه فيما بعد انفصل عنهما عندما تعددت البرامج والاستراتيجيات بعدد الأحزاب والحركات السياسية،بل يجوز القول اليوم بان البرنامج الوطني الحقيقي لم يعد موجودا وبات تطلعا وهدفا يجب الوصول إليه.


سنقارب الموضوع من خلال المحاور التالية:-


المحور الأول:المشروع الوطني التحرري ضرورة وليس خيارا


المشروع (الوطني ) الأول والتباسات التأسيس


من التباس التأسيس إلى أزمة التطبيق والممارسة


المحور الثاني: الانقلاب على المشروع الوطني وتعثر محاولات الإنقاذ


حماس وسلطة أوسلو والانقلاب على البرنامج الوطني


أسباب فشل المراجعات الإستراتيجية


المحور الثالث: آليات تنفيذ المراجعة الإستراتيجية للمشروع الوطني


مرتكزات المشروع الوطني المنشود


من مصالحة إدارة الانقسام  إلى المراجعة الإستراتيجية للمشروع الوطني


خاتمة


 


المحور الأول


المشروع الوطني التحرري ضرورة وليس خيارا


 


لا يمكن أن ينجح شعب خاضع للاحتلال بدون مشروع أو برنامج وطني وثوابت متَفَق عليها تُلهم الشعب وتوحده وتستنفر قواه للدفاع عنها.ما وراء الفشل المتعاظم والتخبط الواضح والتيه المعمم على مستوى كافة نخب ومؤسسات الحالة السياسية الفلسطينية ،يكمن غياب الرؤية أو غياب المشروع الوطني التحرري وتعدد برامج العمل الوطني بتعدد الأحزاب.فشل المفاوضات والخلاف الداخلي حولها،فشل المقاومة والخلاف الداخلي حولها،فشل المصالحة،التحريض والتخوين والتكفير،الصراع على سلطة وهمية،فساد نخب ومجتمع مدني وحكومات،هجرة الشباب والانتقال من المطالبة بحق العودة إلى المطالبة بحق الهجرة،العجز عن القيام بانتفاضة جديدة وحتى عدم القدرة على ممارسة المقاومة الشعبية السلمية  الخ ،ليست هي المشاكل الحقيقية أو جوهر القضية بل هي تداعيات ونتائج لغياب الرؤية أو المشروع الوطني بما يتضمن من ثوابت وطنية وإستراتيجية للتحرير. استمرار التركيز على أزمة السلطة والحكومة و المفاوضات وغيرها، إنما هو هروب من جوهر المشكل وهو غياب مشروع وطني محل توافق الجميع، غياب إما لأن تطورات الأوضاع باتت متجاوزة لمقولات المشروع الوطني أو لعدم قدرة القيادات والنخب على تحمل استحقاقاته ،وفي كلا الحالتين يحتاج الأمر لوقفة جادة.


 


المشروع (الوطني) الأول والتباسات التأسيس


لم يكن المشروع الوطني الأول – م .ت.ف- يمثل الوطنية الفلسطينية تمثيلا صحيحا ولم يكن الميثاق القومي للمنظمة برنامجا وطنيا خالصا،حيث أُسِسَت المنظمة بقرار قمة عربي وكانت خاضعة في تمويلها وسياساتها للأنظمة العربية و للقيادة العربية المشتركة، وهو ما جعل المحددات الخارجية تلعب دورا خطيرا في قيام النظام السياسي- منظمة التحرير- بداية ثم التأثير والتدخل الفج في رسم سياساته وحركاته السياسية لاحقا.هيمنة فصائل الكفاح المسلح على المنظمة عام 1968 حرر منظمة التحرير نسبيا من التبعية العربية الرسمية ثم جاء قرار قمة الرباط 1974 بالاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا ووحيدا ليزيد من هامش الحرية إلا أن البرنامج الوطني  بقي حتى إعلان الدولة في الجزائر 1988 خاضعا ومقيدا بمحيطه العربي.


 


 لم يكن النظام السياسي الفلسطيني - ومنذ أن وجدت القضية الفلسطينية كقضية كفاح من أجل الاستقلال وحق تقرير المصير - هو الفاعل الوحيد في رسم إطار الصراع وتحديد أهدافه وأبعاده، بل كان طرفا ضمن أطراف متعددة عربية ودولية.لا شك أن الشعب الفلسطيني هو المعني أكثر من غيره بالصراع بفعل وقوعه مباشرة في بؤرة الحدث وبفعل كونه الأكثر تضررا من مجريات الأحداث،إلا أن دوره كفاعل كان مقيدا ومحكوما بالفاعلين الآخرين وبموازين القوى التي يصنعونها. وكنتيجة لذلك أيضا، فإن التحويرات التي طرأت على البرنامج الوطني والنكسات والهزائم التي تعرض لها النظام السياسي الفلسطيني عبر محطاته المأساوية البارزة 1967 هزيمة يونيو وضياع الضفة والقطاع ،1970 أحداث الأردن ،1982 الخروج من لبنان،1983 الانشقاق داخل فتح و 1990 تداعيات الغزو العراق للكويت ... لم تكن نتيجة لتقاعس أو تقصير الشعب الفلسطيني ونظامه السياسي،بل كان للأطراف الأخرى العربية والدولية المصنفة ضمن معادلة الصراع دور رئيس في حدوثها وتحمل مسئوليتها، كذلك الأمر بالنسبة للإنجازات السياسية التي تحققت، فلم يكن مرجعها فقط النضال الفلسطيني وفعالية النظام السياسي بل لعبت الأطراف الأخرى دورا في تحقيقها أو في تضخيمها.


ويمكن القول إن البرنامج الوطني الأول اختزل أربع قضايا أو مشاريع أو أنبنى على فرضية انه  مدعوم بهذه المشاريع:


المشروع الأول:المشروع الوطني الفلسطيني الرافض للوجود الصهيوني في فلسطين والمتطلع للاستقلال،إنه المشروع الذي يقف في الصدارة عند الحديث عن القضية الفلسطينية فهو عمادها وجوهرها وعامودها الفقري.وهو تطلع الفلسطينيين للحرية وتحرير بلدهم.


المشروع الثاني:القومي الوحدوي العربي حيث كانت كل القوى والأنظمة القومية تقول بتحرير فلسطين وتعتبر الوجود الصهيوني تهديدا للأمن القومي العربي وعائقا أمام الوحدة العربية،بل إن كثيرا من الأنظمة العربية كانت تعتبر فلسطين من أولى مهامها،وتحت شعار البعد القومي للقضية وقومية المعركة ووحدة المصير كانت الأنظمة- خصوصا القومية والثورية- تتدخل بشكل سافر في حياة الفلسطينيين وفي مسار مشروعهم الوطني.


المشروع الثالث:المشروع الإسلامي.نظريا جمعت فلسطين والقدس الشريف بما تمثلانه من رموز دينية وبما تجسدانه من معان روحية عميقة لدى المسلمين كافة،كل المسلمين عرب وغير عرب،وتضمن خطاب الأنظمة والحركات الإسلامية مما يؤكد التزامها بتحرير فلسطين ورفض الوجود الصهيوني فيها من منطلق ديني،ولكن على مستوى الممارسة تفاوت العطاء وتباينت أساليب التعامل فهناك من المسلمين من اكتفى بالدعوات الصالحات للشعب الفلسطيني وهناك من رأى أن طريق تحرير فلسطين لا تمر القدس بل عبر كابول وكشمير بل حتى نيويورك وواشنطن.واليوم يعلو الخطاب الديني على غيره بعد فوز حماس بانتخابات يناير 2006 وفي ظل صعود الإسلام السياسي في الربيع العربي.


المشروع الرابع:المشروع التحرري العالمي حيث كانت حركة التحرر العالمية تلتقي مع كل من المشاريع الثلاثة على قاعدة معاداة الصهيونية والإمبريالية ومحاربة الاستعمار بكل صوره وأشكاله، وكان على رأس حركة التحرر العالمية الاتحاد السوفيتي والصين وبقية مجموعة دول المعسكر الاشتراكي والتي دعمت ومدت حركات التحرر في العالم الثالث بما فيها حركة التحرر العربية وعلى رأسها حركة المقاومة الفلسطينية بالمال والسلاح ونسجت معها علاقات (إستراتيجية) عسكرية وسياسية اقتصادية وكانت اكبر نصير لها داخل هيئة الأمم المتحدة.


هذه المشاريع الأربعة كانت تتداخل مع بعضها البعض، تقترب من بعضها أحيانا فتقوى النظام السياسي الفلسطيني،أو تتنافر وتتصادم فيتأزم النظام السياسي الفلسطيني وتنتكس القضية الفلسطينية.وبالرجوع إلى الميثاق الوطني الفلسطيني الذي رسم معالم النظام السياسي الفلسطيني،نجد قوة حضور المحددات الخارجية الأربعة سواء عند تحديد الإستراتيجية النضالية، فمهمة التحرير لم تكن مسؤولية فلسطينية خالصة ، حيث نص الميثاق أن الفلسطينيين (طليعة) الأمة العربية والإسلامية وحركة التحرير العالمية في معركة التحرير،وهدف التحرير هدف قومي وإسلامي،حيث فلسطين جزء من الأمة العربية ولم يكن مسموح للفلسطينيين بالتفريط بأي جزء منها حتى لدواعي المصلحة الوطنية الفلسطينية، حتى انه تم التنصيص في الميثاق القومي الفلسطيني على أن لا تمارس المنظمة أي سيادة على الضفة وغزة،وفلسطين أيضا وقف إسلامي لا يجوز التفريط بأي جزء منها.


حتى السلطة التي مارستها القيادة الفلسطينية كانت سلطة معنوية أكثر منها سلطة سيادية،بسبب وجود المنظمة على ارض غير فلسطينية وخضوع الفلسطينيين للاحتلال ،فالسلطة الإكراهية للقيادة الفلسطينية كانت تصطدم بالسلطة السياسية والسيادية لأنظمة أخرى،ولم يختلف وضع المؤسسات السياسية بما فيها التنظيمات المسلحة، كثيرا من حيث ما تمارس من سلطة وسيادية أو من حيث قدرتها على تنظيم الشعب الفلسطيني.


فلا غرو إذن أن النظام السياسي الفلسطيني قبل 1988 كان محكوما بمعادلة معقدة ومستحيلة التحقيق وهي التوافق بين المحددات أو الشروط الأربعة المشار إليها،فأي إخلال بشرط من هذه الشروط أو تَرَجُع أي طرف عن التزامه سينعكس سلبا على النظام السياسي الفلسطيني وبالتالي على إنجاز البرنامج الوطني.


كان توازن هذه المشاريع الأربعة وتوافقها ولو على قاعدة الحد الأدنى هو الذي حكم النظام السياسي الفلسطيني خلال ثلاثة عقود، سواء في حالات احتدام الصراع والحرب أو في مرحلة البحث عن حلول سلمية للصراع، حيث كان لكل طرف مصلحة في استمرارية (التحالف) أو التنسيق فيما يتعلق بالشأن الفلسطيني إما من منطلق المصلحة المشتركة في مواجهة عدو مشترك أو لمصلحة خاصة لكل طرف ، وكانت النظام السياسي الفلسطيني معني أكثر من غيره بالحفاظ على الترابط والتنسيق بين المشاريع الأربعة ولو على قاعدة الحد الأدنى، وكان دائم السعي لتعويض أي نقص في فاعلية أداء أي بُعد من الأبعاد الأربعة بتقوية وتعزيز فاعلية الأبعاد الأخرى.


ارتهان النظام السياسي وبرنامج العمل الوطني للمحددات الخارجية كان جليا في التحويرات التي طرأت على المشروع الوطني حيث كانت كل تراجع لأي من المشاريع المشار إليها أو التصادم معها يؤدي لخلخلة المشروع الوطني وخفض سقف تطلعاته وصيرورته أكثر تطويعا لفكر التسوية وللبحث عن حلول وسط،حتى وصل الأمر لآن بصبح سقف البرنامج الوطني مع أوسلو دون سقف الأنظمة العربية المعبر عنه في مبادرة السلام العربية.


 


من التباس التأسيس إلى أزمة التطبيق والممارسة


مع أن سؤال الأزمة صاحب المشروع الوطني الفلسطيني منذ ولادته إلا أنه  تحول من سؤال حول تحديات تأسيس المشروع الوطني إلى سؤال حول ماهية المشروع الوطني ثم سؤال حول الوجود بحيث يجوز التساؤل اليوم  هل يوجد مشروع أو برنامج وطني فلسطيني؟.


 


قد يتساءل البعض كيف لا يوجد برنامج وطني وعندنا خمسة عشر حزبا و فصيلا لكل منها برنامجها وإستراتيجيتها ونصفها يملك ميليشيات وقوات مسلحة؟ كيف لا يوجد برنامج وطني وكل الأحزاب تتحدث عن المشروع الوطني وتبرر عملياتها العسكرية بأنها من اجل المشروع الوطني والدفاع عن الثوابت الوطنية !، وتبرر قتالها مع بعضها البعض بأنه من اجل المشروع الوطني؟كيف لا يوجد مشروع وطني ولدينا حكومتان وسلطتان لكل منها أجهزتها الأمنية والشرطية ووزرائها وقوانينها وفضائيتها وصحفها وعلاقاتها الخارجية الخ ؟كيف لا يوجد مشروع وطني وقد اندلعت حرب أهلية باسمه ودخل آلاف الفلسطينيين سجونا فلسطينية وقُتل بعضهم في هذه السجون وعُذب وشُبِح  آخرون باسم المشروع الوطني والدفاع عن الثوابت ؟ كيف لا يوجد مشروع وطني وهناك منظمة التحرير الفلسطينية وميثاقها وقرارات مجالسها الوطنية ولجنتها التنفيذية والمجلس المركزي ؟!.


 


وقد يقول قائل إن وجود شعب تحت الاحتلال يعني تلقائيا وجود برنامج تحرر وطني،وهذا قول افتراضي وليس واقعي.صحيح أنه يوجد احتلال صهيوني  ويوجد أكثر من عشرة ملايين فلسطيني يحملون الوطن معهم أينما حلوا وارتحلوا ويربون أبنائهم على حب الوطن و ألتوق للعودة إليه،وصحيح أن قرارات دولية تعترف للفلسطينيين بحق تقرير المصير وبعضها يعترف لهم بالحق في دولة الخ ،ولكن هذه أمور قد تضعف مع مرور الزمن أو تشتغل عليها إطراف محلية أو إقليمية ودوليه وتخرجها عن سياقها الوطني من خلال حلول جزئية وتسويات إقليمية،إن لم يكن للفلسطينيين أصحاب الحق مشروع وطني توافقي يلتف حوله الجميع .


 


 إن كان يوجد برنامج وطني فما هي مكوناته من حيث الهدف والوسيلة والإطار والمرجعية ؟ وإن كان يوجد ثوابت وطنية فما هي؟هل هي الثوابت التي تتحدث عنها حركة حماس ام الثوابت التي تتحدث عنها حركة فتح ام الثوابت التي تتحدث عنها حركة الجهاد الإسلامي الخ؟ أم الثوابت التي يتحدث عنها ستة ملايين لاجئ في الشتات؟.منظمة التحرير لم تعد مشروعا وطنيا ممثلا لكل الشعب الفلسطيني ليس فقط بسبب تآكلها داخليا ولاعترافها بإسرائيل وصيرورتها ملحقا للسلطة واستحقاقاتها الخارجية  بعد أن كانت مؤسِسَة لها،بل أيضا لأنها أصبحت جزءا من الخلاف الفلسطيني ولا تعترف بها حركة حماس والجهاد الإسلامي وتتحفظ عليها فصائل أخرى،غياب توافق وطني حول المنظمة يقلل من أهمية اعتراف كل دول العالم بها،أيضا المفاوضات ليست مشروعا وطنيا،والسلطة و الحكومة ليستا مشروعا وطنيا،ومجرد الحديث عن مقاومة وحتى ممارستها بشكل فصائلي ليس مشروعا وطنيا.


 


لو كان عندنا برنامج  أو مشروع وطني حقيقي لكان عندنا ثوابت محل توافق وطني،لو كان عندنا برنامج وطني ما كان الانقسام وما كان فشل المصالحة وفشل مئات جولات الحوار،لو كان لدينا برنامج وطني ما وُضِعت وثائق متعددة ومواثيق شرف كإعلان القاهرة 2005 ووثيقة الوفاق الوطني 2006 واتفاق القاهرة 2008 ،وورقة المصالحة التي تم التوقيع عليها في مايو 2011 ولم تنفذ حتى اليوم، كثوابت وطنية وكأساس لمشروع وطني،وأجهضت كلها،لو كان لدينا مشروع وطني وثوابت وطنية ما كانت كل المؤسسات القائمة فاقدة للشرعية الدستورية (حسب مقتضيات القانون الأساسي) ولشرعية التوافق الوطني،لو كان لدينا برنامج وطني ما كان هذا التراشق والاتهامات المتبادلة بالخيانة والتكفير ما بين من يفترض أنهم قادة المشروع الوطني،لو كان لدينا برنامج وطني ما كان الإلحاح على إجراء انتخابات لتحسم الخلافات حول الثوابت الوطنية وحول القيادة .


 


إن كان كل ما سبق من تشكيلات سياسية وبرامج حزبية ليس مشروعا وطنيا، فما هو المشروع الوطني ؟.ندرك جيدا صعوبة تحديد المشروع الوطني  في الحالة الفلسطينية والصعوبة الأكبر في وضعه موضع التنفيذ ،نظرا لتداخل الماضي مع الحاضر ،الدين مع السياسة مع الاقتصاد ،الوطني مع القومي مع الإسلامي،الشرعية الدولية مع الشرعية التاريخية والشرعية الدينية،ونظرا لطبيعة الاحتلال الصهيوني الاستيطاني الإجلائي الخ،ونظرا لأن بعض مكونات النخب السياسية الفلسطينية وخاصة نخب السلطتين ،بدأت تفقد إيمانها بعدالة القضية وبدأت حسابات السلطة والمصلحة الآنية تطغى عندها على حسابات المصلحة الوطنية،ومن هنا فإن أي توجه لإعادة البناء النظري للمشروع الوطني ووضع آليات لتنفيذه يجب أن يبدأ كخطوة أولى  خارج حسابات السلطة وخارج ارتباطات الحزبين الكبيرين وخصوصا الاتفاقات الموقعة مع إسرائيل وشروط الرباعية ومن خلال التعامل مع الشعب الفلسطيني ليس كساكنة غزة والقطاع بل كشعب قوامه أكثر من أحد عشر ألف مواطن.


 


إن استمر كل حزب وحركة في التصرف باعتبار أنه يمثل البرنامج الوطني، واستمر في تحميل مسؤولية أي خلل أو تقصير أو عدم إنجاز في مسار القضية الوطنية للآخرين من الأحزاب أو للتآمر الخارجي ،فإن هذا سيؤدي لمزيد من ضياع ما تبقى من أرض وكرامة وطنية. لذا فالأمر يحتاج لتفكير إبداعي خلاق لتأسيس عقد سياسي أو برنامج وطني جديد ،وإن كان الحديث عن برنامج وطني جديد يستفز البعض ممن قد يفسرون الدعوة بأنها إقرار  بفشل وتجاوز الأحزاب والنضالات السابقة ،وهي ليست كذلك ،فلنقل إننا نحتاج لاستنهاض الحالة الوطنية على أُسس جديدة.ومن حيث المبدأ فحتى نكون أمام مشروع وطني يجب توافق الأغلبية على  مرتكزات أي مشروع وطني  وهي : 1) الهدف  2) الوسيلة أو الوسائل لتحقيق الهدف 3) المرجعية  4) الإطار 5)الثوابت.وسنفصل لاحقا هذه العناصر.


 


المحور الثاني


الانقلاب على المشروع الوطني وتعثر محاولات الإنقاذ


 


حماس وسلطة أوسلو والانقلاب على البرنامج الوطني


لا شك أن منظمة التحرير كانت ائتلافا بين عدة فصائل وحركات سياسية بتوجهات متعددة:وطنية وقومية ويسارية،إلا أن التعددية داخل المنظمة كانت في إطار الوحدة وفي إطار نفس البرنامج الوطني أو النظام السياسي – م.ت.ف:وحدة الإطار ووحدة الهدف ووحدة الوسائل النضالية مع اجتهادات وخروج عن الإجماع في بعض الأحيان.لم يتم الخروج عن البرنامج الوطني والمشروع الوطني بما يهدد وجودهما إلا مع ظهور حركة حماس والجهاد الإسلامي ثم مع قيام سلطة أوسلو. 


 


تزامنت الانتفاضة الأولى 1987 ثم الإعلان عن قيام الدولة عام 1988 مع ظهور حركتي حماس والجهاد الإسلامي من خارج إطار النظام السياسي أو المشروع الوطني الرسمي وببرنامج ديني سياسي بمرجعيات وأهداف وتحالفات تتقاطع مع البرنامج الوطني في قضايا دون ان تلتقي معه،وإن كان ظهور هذه القوى عزز من الانتفاضة واستقطب شرائح شعبية داخلية وخارجية داعمة للشعب الفلسطيني،إلا أنها شكلت حالة انقسام حاد في النظام السياسي الفلسطيني مهدت بدورها لانهيار هذا النظام لاحقا.تجسد انقلاب حماس على البرنامج الوطني برفضها منذ البداية أن تكون جزءا من القيادة الموحدة للانتفاضة وان تكون جزءا من منظمة التحرير حيث وضعت لنفسها ميثاقا خاصا بها بمرجعية إسلامية ،ولم تخف الحركة انها امتداد لجماعة الإخوان المسلمين.وبعد تأسيس السلطة رفضت الحركة المشاركة فيها او في الانتخابات النيابية والرئاسية التي جرت حتى 2005 حيث قررت المشاركة في الانتخابات البلدية وتلا ذلك المشاركة في الانتخابات التشريعية في يناير 2006 ،هذه المشاركة كانت قرارا بدخول النظام السياسي وليس البرنامج الوطني ،كما أنها مشاركة جاءت في ظل توجهات دولية وأمريكية خصوصا لدمج الإسلام السياسي المعتدل في الحياة السياسية في العالم العربي.


 


 بالإضافة لظهور الإسلام السياسي الفلسطيني بأجندة مغايرة للبرنامج الوطني فقد أوجد اتفاق أوسلو الذي وقعته منظمة التحرير مع إسرائيل عام 1993 وما أنتج من سلطة، خلخلة في مرتكزات المشروع الوطني بل خروجا عن البرنامج الوطني لعام 1988،فهذا الأخير قام على أساس جميع قرارات الشرعية الدولية ولم يسقط خيار المقاومة ،أما برنامج أوسلو فقام نتيجة مفاوضات سرية بداية وبرعاية  غابت عنها الشرعية الدولية،كما أنه قام على أساس قراري مجلس الأمن 242 و 338 فقط وتجاهل القرارات الأخرى ،كما أن بنود برنامج أوسلو عزز حالة الانقسام الداخلي على حساب شراكة وتنسيق امني مع إسرائيل .بهذين المتغيرين – ظهور حركة حماس وبرنامج أوسلو - حدث انقلاب على البرنامج الوطني.ومع ذلك يجب عدم تجاهل أن وجود سلطة فلسطينية  داخل الوطن وقيادة إسرائيلية آنذاك- حكومة اسحاق رابين- راغبة بتسوية سلمية ونظام دولي انتقالي مفتوح على كل الاحتمالات ،أوجد فرصة لدى الفلسطينيين لو أحسنوا توظيفها بممارسة عقلانية بعيدا عن العنف المسلح وبإدارة جيدة للسلطة لكان من الممكن ألا تكون النتائج بهذا السوء الموجود اليوم.


 


إذن ما بعد أوسلو تم خلخلة للنظام السياسي الفلسطيني وللمشروع الوطني وللبرنامج الوطني بعناصرهم الأربعة المشار إليها – القيادة والإطار والهدف والإستراتيجية – صحيح انه مع تأزم مسلسل التسوية وتهرب إسرائيل من التزاماتها وخصوصا مع انتفاضة الأقصى – سبتمبر 2000- حاول الراحل أبو عمار أن يصحح المسار ويرمرم السفن التي أحرقتها اتفاقية أوسلو،سواء من حيث دعم أو السكوت عن ممارسي العمليات الفدائية،أو من خلال التأكيد على حق العودة وعدم التفريط بالثوابت أو إحياء مؤسسات منظمة التحرير وخصوصا اللجنة التنفيذية والمجلس المركزي والمؤسسات القيادة لحركة فتح ومد جسور مع حركتي حماس والجهاد الإسلامي،ثم إجراء انتخابات بلدية وتشريعية وتشكيل حكومة وحدة وطنية الخ ،إلا أن كل هذه المحاولات لم تفلح في إخراج النظام السياسي الفلسطيني من مأزقه بل وصل الأمر للانقسام الراهن.


 


مع انتفاضة الأقصى وبعد وصول محاولات إعادة الرئيس أبو عمار لطاولة المفاوضات على قاعدة الشروط الإسرائيلية والأمريكية ،بدأت إسرائيل وبشراكة أمريكية وتواطؤ أطراف فلسطينية وعربية مخطط تدمير المشروع الوطني من خلال ضرب أهم مرتكزاته :القيادة ووحدة الجغرافيا ،فبدان حملة تشهير وتحريض ضد أبو عمار لإظهار أبو عمار بالزعيم الفاشل والعاجز وشاركت أطراف فلسطينية في هذه الحملة وقد أدت هذه الحملة لحصار الرئيس واغتياله سياسيا قبل أن تتم عملية اغتياله بالسم .وفي نفس الوقت تم تعديل القانون الأساسي بما يسمح بتقليص صلاحيات الرئيس والحد من تحكمه بالأموال بفرض وزير ماليه – سلام فياض- تم جلبه من واشنطن خصوصا لهذه المهمة،حيث كانت شكوك تدور حول تحويل أبو عمار جزءا من أموال السلطة لدعم المقاتلين وشراء السلاح وتمويل القوات الفلسطينية في لبنان .ولكن الأهم هو تدمير الجغرافيا التي تسمح بقيام دولة المشروع الوطني الفلسطيني،حيث باشرت إسرائيل تنفيذ مخطط سابق يفصل غزة عن الضفة ،وكانت خطة شارون للانسحاب أحادي الجانب من غزة في سبتمبر 2005 بداية تنفيذ إسرائيل للمخطط، وجاء تنفيذ المخطط  في وقت تشهد فيه مناطق السلطة وخصوصا قطاع غزة حالة من الفوضى والانفلات الأمني ،وكانت كل المؤشرات تشير إلى سيطرة شبه كاملة لحركة حماس على القطاع. الانسحاب الإسرائيلي وانهيار أجهزة السلطة في القطاع وقوة سيطرة حركة حماس تبعه مباشرة إجراء انتخابات فازت فيها حماس بأغلبية مريحة أهلتها لتشكيل حكومة ثم تداعت الأحداث لتصل للنتيجة المرسومة والمحتومة وهي فصل غزة عن الضفة وسيطرة حماس على غزة وتشكيلها لشبه دولة ببرنامج وإستراتيجية عمل وقيادة وعلاقات خارجية ومرجعية متعارضة مع المشروع الوطني،دولة تنتظر الاعتراف بها دوليا .  


 


لقد بات واقع الحال يقول بأن المشروع الوطني الفلسطيني بمؤسساته الرسمية وغير الرسمية وبنخبه الحاكمة وغير الحاكمة وما يرتبط به وبها ويدور حوله وحولها من إيديولوجيات وثقافات سياسية وتكوينات اجتماعية وبغض النظر عن الشعارات التي ترفعها :المقاومة والجهاد أو التسوية والمفاوضات ،هذا المشروع يعيش مأزقا وجوديا حقيقيا وخصوصا بعد الانقسام الذي فصل غزة عن الضفة ثم مع وصول حكومة اليمين الصهيوني مع نتنياهو للحكم في إسرائيل وانكشاف وهم المراهنة على الإدارة الأمريكية الجديدة بعد تراجعها عن مواقفها بشأن الاستيطان.


 


لا تقتصر خطورة الأمر على وجود الخلل أو المأزق بل تتجاوزه لما هو اخطر ،فبدلا من أن  تعترف النخب الفلسطينية المأزومة بأخطائها وتفسح المجال لآخرين أو على الأقل تقوم بمراجعة نقدية شمولية تراجع فيها مسيرتها فتصحح ما أعوج من سلوك وتقَوِّمَ ما ثبت فشله من نهج  وتحاسب حيث تجب المحاسبة، بدلا من ذلك، تمارس اليوم سياسة الهروب إلى الأمام بطرح خيارات لا واقعية أو بتحميل كل طرف الطرف الآخر مسؤولية ما يجري ،هذه النخب والأحزاب و بسياسة الهروب إلى الأمام التي تنتهجها تريد أن تبرئ نفسها وتهيئ الشعب ليقبل بتسيدها عليه مجددا في ظل الخراب القائم ولتسوقه نحو عبثية جديدة،عبثية قد تأخذ اسم (كل الخيارات مفتوحة) من طرف نفس النخبة بل نفس الشخصيات التي قادت عملية المفاوضات ثماني عشر سنة بما مكن العدو من تكثيف مشروعه الاستيطاني والتغطية على جرائمه، أو عبثية التلويح بشعار المقاومة والانتفاضة من خلال تطوير حماس للصواريخ وتلويحها بالاستعداد لتحقيق نصر جديد إن حاولت إسرائيل دخول قطاع غزة ،وكأن غزة أكثر قدسية من القدس بحيث لا تجوز المقاومة ولا تُستعمل الصواريخ إلا دفاعا عن الإمارة الربانية في غزة.


 


أسباب فشل المراجعات الإستراتيجية


لا غرو أن تمظهرات أزمة المشروع الوطني وموجبات القيام بمراجعة شمولية كثيرة وعلى رأسها وصول المشروع الوطني ومجمل الحالة السياسية إلى طريق مسدود، وقبل محاولة استشفاف ممكنات الخروج من المأزق لا بأس من تلمس التحديات التي تواجه استنهاض المشروع الوطني وهي كما نعتقد:-


 1): غياب فضيلة وثقافة النقد الذاتي عند الأحزاب والنخب، فهذه الأحزاب باتت ضليعة بنقد الآخرين ولكنها لا تنتقد نفسها ،وإن جرت عمليات نقد فداخل غرف مغلقة وبشكل فردي،وفي كثير من الحالات تتم محاصرة بل وطرد ومعاقبة أي مسئول يجرؤ على نقد الحزب أو الحركة علنا.


2): ضعف مؤسسة القيادة وتآكل شرعيتها خصوصا بعد فوز حماس بالانتخابات التشريعية الأخيرة.ذلك أن وجود خمسين زعيما وقائدا لا يعني وجود مؤسسة قيادة،مؤسسة القيادة هي التي تجسد الوحدة الوطنية وتحتكر وتمثل القرار الوطني المستقل.


3): غياب حالة شعبية ضاغطة على القيادات السياسية.وذلك بسبب الشتات والحواجز وارتباط قطاع كبير من الشعب بالسلطتين وبالأحزاب من حيث الراتب والخدمات.


4):انسلاخ الأحزاب عن منظومة وثقافة وقوانين حركات التحرر الوطني.


 5):فساد السلطتين وتواطؤ النخب ومؤسسات المجتمع المدني.


6):الجهل السياسي وصيرورة الأيديولوجيات عائقا أمام التفكير العقلاني.


7):غياب استقلالية القرار و الارتهان لأجندة خارجية.إسلامية كانت أو عربية أو أمريكية او إسرائيلية.


8):المراهنة على الانتخابات فقط كحل لأزمة النظام.لم يحدث في تاريخ حركات التحرر أن استمد قادة التحرر شرعيتهم من انتخابات علنية تجري في ظل الاحتلال.


9):ضعف دور الانتلجنسيا – مثقفون ومفكرون وقادة رأي عام -.لأسباب متعددة على رأسها لعنة الراتب والتمويل المشروط.


10): تحول السلطتين والحكومتين في غزة والضفة لهدف بحد ذاته وبات هدف الحفاظ على السلطة سابق واهم من الحفاظ على البرنامج الوطني أو الثوابت الوطنية..وهو ما أدى أيضا لتحويل المناضلين والمجاهدين لموظفين .


11):الانقسام الذي فصل غزة عن الضفة وتداعياته.فتوحيد المنطقتين ضمن برنامج وسلطة واحدة بات يحتاج لموافقة إسرائيلية.


12):ظهور جماعات الإسلام السياسي ببرنامج مغاير للبرنامج الوطني.


13):تراجع قوى اليسار وتوجه المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين.


14):تواصل الاستيطان والتهويد في الضفة والقدس.


15):غياب حلفاء دوليين فاعلين ومؤثرين في السياسات الدولية.


16):تخاذل وعجز الشرعية الدولية في تبني مشروع السلام الفلسطيني.


 


المحور الثالث


آليات تنفيذ المراجعة الإستراتيجية للمشروع الوطني


اليوم، لم تعد المراجعة التي تؤسِس لمشروع وطني جديد خيارا من عدة خيارات بل ضرورة وطنية.إن لم تأخذ قوى من داخل النظام السياسي الفلسطيني أو من داخل الحالة السياسية الفلسطينية بشكل عام المبادرة فهناك قوى وأطراف خارجية ستأخذها.منطقة الشرق الأوسط، و القضية الفلسطينية خصوصا، لا تسمح بوجود فراغ سياسي.تاريخيا كانت أطراف عربية وإقليمية تملأ فراغ غياب الفاعل الفلسطيني،ومنظمة التحرير في بداية ظهورها مثال على ذلك،هذا ناهيك أن مشاريع التوطين والوصاية والأردن كوطن بديل تخيم على أجواء الحالة الفلسطينية المأزومة اليوم. سياسة الترقيع والتلفيق والهروب إلى الأمام والتخفي وراء الأيديولوجيات والشعارات الكبيرة الفارغة لم تعد تجدي اليوم،الحقوق الوطنية المسلوبة لن تعيدها واشنطن ولا الرباعية ولا جيوش المسلمين والعرب.نعم الشرعية الدولية ضرورية والتضامن العالمي مهم والأيديولوجيات مفيدة كأدوات للتعبئة والتحريض،إلا أن كل هذه الأمور لا تنوب عن  فعل الشعب صاحب القضية.


 


مرتكزات المشروع الوطني المنشود


المراجعة الشمولية المؤسِسة لمشروع وطني جديد أو المصحِحَة لمسار المشروع الوطني يجب أن تتجاوز إفرازات المشكلة وتتعامل مع جذورها ومسبباتها الحقيقية.الانتخابات و المحاصصة وتنظيم الأجهزة الأمنية ليست حلولا،حتى تشكيل حكومة ليس هو الحل.ما سبق هي حلول للسجين لتحسين شروط العيش في السجن وليس لكسر جدران السجن،وإن بقيت مكونات  النظام السياسي تتعامل مع الأزمة وكأنها أزمة خلاف بين فتح وحماس على الانتخابات والحكومة والأجهزة الأمنية والمحاصصة الوظيفية الحكومية ...فستبقى المعالجات في إطار التسوية واتفاقات أوسلو أو لإدارة الانقسام ،حتى وإن صرحت غير ذلك.


 


إعادة بناء وتأسيس المشروع الوطني يتطلب التعامل مع القضية كقضية شعب قوامه أكثر من أحد عشر مليون فلسطيني في الداخل وفي الشتات، دون تجاهل الأوضاع في غزة والضفة كرفع الحصار عن قطاع غزة ومواجهة الاستيطان والتهويد في الضفة والقدس.مدخل هذا البرنامج ليس بالضرورة الانتخابات التشريعية والرئاسية وليس التوافق على حكومة وحدة وطنية أو حكومة تكنوقراط، بل إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية لتستوعب الكل الفلسطيني،لو تمكنا من بناء منظمة التحرير على أسس جديدة وبقيادة جديدة فسيكون حل بقية القضايا أيسر كثيرا،لن تنجح أية مصالحة أو شراكة سياسية أو مشروع وطني إن بقي أي فصيل فلسطيني خارج إطار منظمة التحرير الفلسطينية المتجددة،لأن منظمة التحرير ليست حزبا أو فصيلا بل الكيانية السياسية التي يعترف بها العالم اجمع. هذا البرنامج الوطني الجديد يجب أن يُعيد الاعتبار للأبعاد القومية والإسلامية والدولية للقضية الفلسطينية على أسس جديدة بحيث تُوظَف هذه الأبعاد لخدمة المشروع الوطني وليس إلحاق المشروع الوطني بهذا البعد أو ذلك.


 


 من حيث المبدأ فالمشروع الوطني التحرري محل النقاش يجب أن يحسم من خلال التوافق في الأمور الخمسة التالية التي  تشكل مرتكزات أي مشروع وطني وهي ما يجب أن تشتغل عليها أية مصالحة وطنية حقيقية :


أ) الهدف


نحن هنا نتحدث عن أهداف شعب خاضع للاحتلال وهي أهداف إستراتيجية  متعالية مؤقتا عن المشاكل الفرعية الناتجة عن الصراعات الداخلية وتعقيدات الحياة اليومية والمناكفات السياسية الناتجة عن الانقسام.الهدف الاستراتيجي هو الإجابة عن: ماذا يريد الفلسطينيون؟ أو كيف يرون حقوقهم المشروعة؟أو ما هو الحق الذي يناضلون من اجله؟.هل يريدون تحرير كل فلسطين من البحر إلى النهر؟أم دولة في غزة والضفة بما فيها القدس؟أم دولة ثنائية القومية على كامل فلسطين الانتدابية؟أم دولة غزة؟أم دولة غزة الموسعة لتشمل أجزاء من سيناء مقابل التخلي عن الضفة والقدس ؟أم دولة مؤقتة على جزء من الضفة وقطاع غزة؟أم تقاسم وظيفي ما بين أجزاء من الضفة والأردن وإسرائيل؟أم اتحاد كونفدرالي ما بين غزة وأجزاء من الضفة وربما الأردن أيضا؟ أم الأردن وطن للفلسطينيين- ؟ وهل يقبل الفلسطينيون مبدأ تبادل الأراضي؟هل يريد الفلسطينيون القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية المستقلة؟ أم يريدونها عاصمة لدولتين؟ هل يريد الفلسطينيون عودة كل اللاجئين إلى قراهم ومدنهم الأصلية ؟أم عودتهم لمناطق السلطة ؟أم حل مشكلة اللاجئين حسب وثيقة جنيف (وثيقة ياسر عبد ربه)  ؟.


الهدف الاستراتيجي يجب أن يجيب عن هذه التساؤلات بدلا من البقاء في حالة تردد وتوظيف خطاب أيديولوجي شعاراتي وعاطفي وانفعالي وساذج ومستفز لا يتناسب مع الممكنات الحقيقية للفلسطينيين ولا تناسب مع المتغيرات التي يشهدها العالم. ليس من مصلحة القيادة الفلسطينية التي تتعامل مع القضية دوليا ترك الهدف مفتوحا حسب التطورات وموازين القوى بحيث يتم الانتقال من هدف لآخر اعتمادا على موازين قوى إقليمية ودولية ليسوا طرفا أصيلا فيها؟.العالم لا يقبل ببرنامج وطني يقول بهدف مرحلي قائم على الشرعية الدولية وهدف استراتيجي معلن يقول بإنهاء دولة إسرائيل. الهدف الوطني يجب أن يميز بين ما نريده كفلسطينيين، وما تريده  أطراف عربية وإقليمية توظف القضية الفلسطينية لخدمة أجندتها الخاصة،لأن البرنامج الوطني لن يكون وطنيا إلا تحت راية الوطنية الفلسطينية:قيادة وهوية وانتماء؟الخ.


ب )- وسائل وآليات تحقيق الهدف


الاختلاف حول الهدف أثر سلبا على وسائل تحقيقه،بحيث باتت الوسائل تتكيف وتتحدد في كل مرحلة حسب الهدف المُعلن أو المُضمر وحسب موازين القوى الداخلية وحسب المصلحة والارتباطات الخارجية لكل حزب وحركة.فهل المقاومة إستراتيجية تحقيق الهدف؟أم التسوية السياسية؟وإن كانت مقاومة فهل المسلحة أم السلمية؟وإن كانت التسوية فهل من خلال التسوية الأمريكية واتفاقية أوسلو والمفاوضات المباشرة؟أم من خلال تسوية قرارات الشرعية الدولية؟.


المشكلة لا تكمن في المقاومة كما لا تكمن في التسوية السلمية من حيث المبدأ، بل من الخطأ وضع تعارض ما بين المقاومة والسلام و التسوية السلمية،لأن المقاومة ليست قتالا من أجل القتال بل نضال من أجل الحق والسلام ،والمقاومة بدون رؤية سياسية وهدف سياسي قابل للتحقيق تصبح نوعا من العمل الانتحاري أو الارتزاق الثوري والجهادي.المشكلة تكمن في غياب التوافق الوطني حول الوسائل واستراتيجيات العمل، فلا يجوز لحزب أو حركة – حماس والجهاد الإسلامي مثلا- أن تنهج نهج المقاومة المسلحة بما في ذلك العمليات الاستشهادية داخل إسرائيل فيما منظمة التحرير تعتمد خيار التسوية السياسية وتجلس على طاولة المفاوضات مع الإسرائيليين لتنفيذ اتفاقات موقعة،كما لا يجوز لفصائل مقاومة أن تستمر في إطلاق صواريخ والقيام بعمليات عسكرية فيما تلتزم السلطة الرسمية بتهدئة مع إسرائيل،ولا يجوز لحركة حماس أن ترفض التهدئة وتستمر بإطلاق الصواريخ وهي خارج السلطة وعندما تصبح سلطة في غزة تعلن وقف إطلاق الصواريخ بل وقف المقاومة. هذا لا يعني رفض الجمع بين المقاومة والسلام بل رفض وجود استراتيجيات متعارضة بشأنهما،لو كانت المقاومة والمفاوضات تمارسان في إطار إستراتيجية وطنية وتحت رعاية قيادة وحدة وطنية لعضدت المقاومة من موقف المفاوض وأضفت المفاوضات شرعية على المقاومة .


ج ) المرجعية


المرجعية هي موئل الحق والهوية والثقافة،ومنها تُحدد الأهداف ووسائل العمل وهي التي تمنح هوية للمشروع الوطني الفلسطيني،هذه المرجعية  إشكال أيضا،بسبب التداخل ما بين التاريخي والديني والسياسي والقانوني الدولي والوطني والقومي والإسلامي،وبسبب الشتات وخضوع أغلبية الشعب الفلسطيني لسلطات غير وطنية لكل منها أجندتها ورؤيتها الخاصة للصراع في المنطقة.عندما تغيب استقلالية القرار وتتداخل الهويات يصبح الحديث عن مرجعية وطنية ومشروع وطني وثوابت وطنية أمرا صعبا.هذا التداخل صاحب مسيرة المنظمة منذ تأسيسها كما أشرنا سابقا وهو تداخل ما زال مستمرا حتى اليوم مع تغير في ترتيب المرجعيات من حيث الأهمية وهو تغير ناتج عن تغير القوى إقليميا ودوليا فحلت واشنطن والغرب محل المعسكر الاشتراكي ،وحلت المرجعية الإسلامية محل المرجعية القومية العربية وزادت المرجعية الوطنية وهنَّا تراجعا.


المرجعية اليوم تحتاج لإبداع خلاق ما بين الوطنية والقومية والإسلام ،وما بين المرجعية التاريخية ومرجعية الشرعية الدولية،وما بين المرجعية الوطنية ومرجعية الأجندة الإقليمية.ولكن هل أن الاتفاق على المرجعية يكون من خلال الإطار القائم وهو منظمة التحرير الفلسطينية ؟أو من خلال حوارات بين المنظمة والقوى خارجها ؟أم يتم الاتفاق عليها من خلال الانتخابات ؟نعتقد أن مجلسا تأسيسيا منتخبا من فلسطينيي الداخل والخارج هو الجهة المؤهلة لصياغة المرجعية والأهداف ومجمل البرنامج الوطني،وبطبيعة الحال سيشكل مؤسسة القيادة.


د ) الإطار أو مؤسسة القيادة


الإطار هو ما  يستوعب ويوجه كل العملية السياسية الفلسطينية في الداخل والخارج ويتصرف ويتحدث نيابة عن الكل الفلسطيني. لا يكفي أن يكون الإطار معنويا كما يقال عن منظمة التحرير بأنها الوطن المعنوي للفلسطينيين،بل يجب أن يكون مؤسساتيا جامعا أيضا.قبل ظهور حركة حماس وقبل تأسيس السلطة الوطنية كانت المنظمة تمثل هذا الإطار وقيادتها قيادة الشعب الفلسطيني ،أما اليوم فالحاجة تدعو إما لإعادة بناء وتفعيل منظمة التحرير لتستوعب كل القوى السياسية الجديدة ليس على مستوى الكم فقط بل أيضا على مستوى الكيف أي على مستوى البرامج والتوجهات،أو التفكير بإطار جديد ينبثق عن مؤتمر شعبي وطني لجميع الفلسطينيين في الداخل والخارج .وجود إطار يعني وجود قيادة واحدة وممثل واحد للشعب الفلسطيني يتحدث نيابة عنهم ويتصرف باسمهم في كافة المحافل الدولية.


هـ )الثوابت


الثوابت كل ما هو محل توافق وطني،في حالة الاتفاق على العناصر الأربعة المشار إليها أعلاه تصبح ثوابت للأمة.داخل الثوابت يمكن للقوى والأحزاب السياسية أن تختلف ولكن لا يجوز لها أن تختلف حول الثوابت ما دام الشعب يعيش  مرحلة التحرر الوطني.بعد إنجاز الهدف وقيام الدولة يمكن للقوى السياسية وللشعب بشكل عام أن يعيد صياغة بعض الثوابت من خلال التوافق أو من خلال الانتخابات والاستفتاء العام .


 


من مصالحة إدارة الانقسام إلى إعادة صياغة المشروع الوطني


ورقة المصالحة التي تم التوقيع عليها في القاهرة ثم التفاهمات بين الرئيس أبو مازن والسيد خالد مشعل في لقائهم الأخير والتي أخذت أسم (الشراكة السياسية) تضع خارطة طريق افتراضية لمصالحة إستراتيجية متدرجة وخصوصا أنه تم التفاهم على شكل القيادة المستقبلية (الإطار القيادي المؤقت) ثم إعادة بناء وتفعيل المنظمة ،كما تم الاتفاق على أسلوب النضال من خلال الاتفاق على المقاومة الشعبية السلمية- بالرغم من غموض هذا المصطلح  وقد لا يكون أكثر من تجميل لقرار التخلي عن المقاومة- ،وعلى الهدف من خلال الاتفاق على دولة في حدود 67 ،.إن كنا نخشى أن يكون التوقيع على الورقة واللقاءات بين فتح وحماس مجرد مهدئات للشعب ومحاولة لكسب الوقت في انتظار نتائج متغيرات عربية وإقليمية ودولية يراهن عليها كل طرف وخصوصا الواقع العربي بعد الاضطرابات التي تشهدها أكثر من دولة عربية،وإن كنا نخشى أن تكون هذه الموقف من حركة حماس مجرد تكتيك لتمرير مرحلة اتضاح الصورة النهائية المتغيرات العربية ،إلا أن ذلك لا يمنع من الاشتغال على هذه التفاهمات في ظل غياب البديل .لا شك أن كل خطوة نحو المصالحة إنجاز ولكن إن لم يتم ربط هذه الانجازات بالمصالحة الإستراتيجية والتي تعني إعادة بناء البرنامج الوطني من خلال التوافق على البنود الخمسة المشار إليها فإن هذه الإنجازات لن تكون أكثر من مصالحة إدارة الانقسام وستعزز مصالح نخب السلطتين والحزبين الكبيرين وليس المصلحة الوطنية. حتى الآن فإن ما جرى لا يخرج عن مصالحة إدارة الانقسام وهذا ليس بالأمر السيئ إن كان مدخلا للمصالحة الإستراتيجية وليس اعترافا بالأمر الواقع .


 


المراجعة الإستراتيجية المؤسِسة لبرنامج وطني جديد يجب أن تشتغل على مستويين و هدفين أحدهم عاجل وقصير المدى والآخر استراتيجي بعيد المدى مع تزامن العمل على المستويين:-


أولا:مصالحة إصلاح النظام السياسي (حكومة وسلطة)


لأننا لا نستطيع أن نتجاهل وجود القوى السياسية القائمة وخصوصا حركتي فتح وحماس، ولا نستطيع تجاهل وجود سلطتين وحكومتين متعاديتين ولا وجود اتفاقات موقعة وارتهان للتمويل الخارجي وشروط الرباعية، لذا يجب العمل على مصالحة أو تهدئة فلسطينية داخلية تعمل على حل إشكالات السلطة والحكومة وإدارة حياة الناس،إنها مصالحة بين السجناء تشكل ضرورة ومدخلا للانتقال لمرحلة تكسير جدران السجن. هذه المصالحة هدفها وضع حد لحالة الانحدار بين كياني غزة والضفة ووقف المفاعيل السياسية والاجتماعية والقانونية والنفسية للانقسام.إنجاز هذا الهدف المرحلي والعاجل سيتعامل مؤقتا مع واقع فصل غزة عن الضفة وواقع وجود حكومتين وسلطتين،ليست هذه دعوة لتكريس الفصل بل التعامل معه مؤقتا للانتقال لمرحلة جديدة.هذه المصالحة تحتاج لدرجة عالية من البراغماتية والانحناء للعاصفة والتعامل بعقلانية مع شروط الرباعية ،فحتى لو قررت حركتا فتح وحماس التصالح  من خلال الورقة المصرية التي تم التوقيع عليها في مايو 2011 فلن يعود التواصل بين الضفة وغزة في إطار حكومة وسلطة واحدة بدون موافقة إسرائيل أو بدون تسوية سياسية تشارك فيها إسرائيل.


إذن بدلا من استمرار الحالة العدائية بين غزة والضفة ولأنه يبدو أن الطرفين متمسكين بالسلطة وغير مهيئين للمراجعات الإستراتيجية فيجب عمل مصالحة متدرجة لحين تغير الأحوال.هذه المرحلة من المصالحة تحتاج لاعتراف كل طرف بأن الطرف الآخر شريك في النظام السياسي وله حق تقرير مصير هذا النظام ورسم خارطة المشروع الوطني الجديد،وتحتاج لوقف حملات التحريض والتخوين والتكفير،وتحتاج لوضع حد للاعتقالات المتبادلة. ونلفت الانتباه هنا أن ورقة المصالحة المصرية تقوم على أساس مصالحة مؤقتة في ظل استمرار الانقسام لحين من الزمن.هذه المصالحة ستتضمن تشكيل حكومة وحل إشكالات تعدد الأجهزة الأمنية والقضائية وإجراء انتخابات .


هذه المصالحة الوطنية المؤقتة والتي ستأخذ طابع التقاسم الوطني الوظيفي أو الشراكة السياسية  تشكل المدخل للمرحلة الثانية للإستراتيجية الجديدة أو المصالحة الوطنية الإستراتيجية من خلال فتح حوار جاد حول ثوابت ومرتكزات المشروع الوطني المشار إليها ثم إجراء انتخابات إن كان ممكنا.لا شك أن هناك مزالق وتخوفات من التعامل مع هذا المفهوم للمصالحة أو التقاسم الوظيفي المؤقت،حيث الخشية بأن يستغل بعض المستفيدين من حالة الفصل أي نجاح في المصالحة الأولى لتبرير حالة الفصل أو أن تستغل كلا الحكومتين التوافق الداخلي لإضفاء شرعية دائمة على وجودها يدفعها للتقاعس عن إنجاز المصالحة الوطنية الإستراتيجية،لتحاشي وقوع ذلك يجب العمل في آن واحد على المرحلة الثانية للإستراتيجية الوطنية،وهناك علاقة تفاعلية أو تأثير متبادل بين المصالحتين ،بمعنى أن أي تقدم في أي مصالحة سيؤثر إيجابا على إنجاز المصالحة الأخرى والعكس صحيح.


خلال هذه المرحلة الانتقالية يكون لحركتي فتح وحماس دور رئيس في إصلاح ما أفسدوه ومع ذلك يجب إبداء رأي فيما يتم الحديث عنه خلال هذه المرحلة ونلخصها فيما يلي:


1 – بالنسبة للانتخابات وحتى لا يتكرر ما جرى في انتخابات يناير 2006 نفضل الاتفاق بداية على ثوابت ومرجعيات المشروع الوطني قبل الانتخابات ،لأن غياب الاتفاق على الثوابت والمرجعيات لن يساعد على حدوث تداول سلمي على السلطة.ونرى أن التراضي والتوافق في هذه المرحلة أهم وأجدى من الانتخابات.


2- إن كان هناك جدية في إجراء انتخابات في مايو القادم فلا داع لتشكيل حكومة  تنتهي صلاحيتها بعد أشهر ،ويمكن للهيئة القيادية المؤقتة أن تتكلف بالإعداد للانتخابات.وخصوصا أننا نعتقد أن إسرائيل لن تسمح بانتخابات قبل اتضاح معالم التسوية والمفاوضات.


3- في حالة الإصرار على تشكيل حكومة يستحسن أن تتشكل من الأحزاب وبعض المستقلين  لأن حكومة تكنوقراط  لن تستطيع عمل شيء في ظل حالة التجييش عند الأحزاب وستبقى حكومة شكلية.


4- الحديث عن حكومة بدون برنامج سياسي هو مجرد هراء، فلا توجد حكومة بدون برنامج سياسي ،لأن هذه الحكومة  لن تتعامل مع الفلسطينيين فقط بل مع العالم الخارجي وإسرائيل ولهؤلاء شروط.


 


 ثانيا: مصالحة المراجعة الإستراتيجية للبرنامج الوطني


الاشتغال على المرحلة أو المهمة الأولى للإستراتيجية الوطنية يجب أن يكون مواكبا للاشتغال على المرحلة الثانية بل يجب أن يكون الالتزام بإنجاز الهدف الأول (التقاسم الوظيفي الوطني)مشروطا بالالتزام بالهدف الاستراتيجي وهو الاتفاق على الثوابت والمرجعيات كما ذكرناها سابقا،حيث يستحيل التقدم نحو الهدف الاستراتيجي دون إنهاء الانقسام السياسي والبرنامجي.وعندما نقول تساوق الاشتغال على المستويين فذلك لأننا نحشى من أن واقع فصل غزة عن الضفة قد يستغرق وقتا طويلا لأن إسرائيل والقوى المستفيدة من حالة الفصل ما زالت قوية وفاعلة.


هذا التساوق لمساري المصالحة هو ضمان عدم تحول التقاسم الوظيفي الوطني المشار إليه إلى كيانين سياسيين دائمي الوجود.لهذه المصالحة الإستراتيجية مدخل أيضا وهو سرعة تشكيل (الإطار القيادي المؤقت) المشار إليه في اتفاق المصالحة. إذا كانت المصالحة الأولى ،أي المصالحة العاجلة في ظل الانقسام القائم تتعامل مع الانقسام الأخير الذي نتج عن أحداث يونيو 2007 ويمكنها أن تقتصر على حركتي فتح وحماس لأنهما سلطتا الأمر الواقع وتتحملان مسؤولية عن الانقسام ،فإن المصالحة الإستراتيجية يجب أن تتعامل مع الانقسام الإستراتيجي السابق على تلك الأحداث والسابق لسيطرة حركة حماس على القطاع،هذه السيطرة وما سبقها وما لحقها من توترات وصدامات مسلحة هي نتيجة وإفراز للأزمة وليست سببا لها.هذه المصالحة يجب أن لا تقتصر على حركتي فتح وحماس بل يجب مشاركة كل القوى السياسية ومؤسسات المجتمع المدني الفاعلة وشخصيات وطنية وأكاديمية وثقافية ،داخل الوطن وخارجه.حركتا فتح وحماس لوحدهما ليستا مؤهلتان لاستنهاض أو صياغة مشروعا وطنيا تحرريا.


 


خاتمة


وفي الختام نقول ،إن لم نتدارك الأمر ببرنامج وطني واحد موحد، فسنبقى في حالة تيه وسيسير النظام السياسي نحو مزيد من التفكك.حركة فتح لن تبقى موحدة وستسير نحو مزيد من التآكل،وحركة حماس ستشهد مزيدا من الانحسار كلما توغلت في السلطة والحكم واستمرت ملتزمة بالتهدئة،وقد تشهد انقسامات داخلية وخصوصا بين تيار وطني وتيار أممي مرتبط بجماعة الإخوان المسلمين وتيار سينحو نحو التطرف.بطبيعة الحال لن يكون مصير بقية القوى السياسية بالأفضل،وقد نشهد ظهور العديد من التيارات أو الأحزاب بمسميات المستقلين أو أية مسميات أخرى يقودها رجال أعمال ورجال دين ،إلا أن هذه القوى لن تشكل استنهاضا للحالة الوطنية بل ستزيد من التيه ومن فرص تدخل أطراف خارجية.


التخوفات الأكثر مأساوية، فقدان ما تبقى من الضفة، وقد نشهد قريبا دولنة لقطاع غزة تؤدي لحرب أهلية حول السلطة والحكم. إسرائيل لن تُمكِن الفلسطينيين من دولة ذات سيادة في الضفة الغربية ولو على جزء منها،ولذا فستعمل على خلق المناخ المناسب لفتنة وحرب أهلية في القطاع ،كما سبق وهيأت المناخ لـ (الانقلاب) الذي أقدمت عليه حركة حماس في يونيو 2007.حرب أهلية حول مَن يحكم قطاع غزة:حركة فتح أم حركة حماس؟ وقد تشارك جماعات أخرى في هذه الحرب، كما سيكون للعملاء دور مهم في هذه الفتنة.سكوت  إسرائيل عن حكم حماس في غزة ليس قبولا نهائيا أو موقفا استراتيجيا وليس عجزا،بل لهدف تكتيكي،وعندما تشعر إسرائيل بأنها حققت هدفها من الانقسام وعندما تهدأ الحالة العربية الثائرة وخصوصا في مصر، فستنقل إسرائيل المعركة لقطاع غزة،وهناك نخب من داخل ومن خارج حركة حماس تراودها شهوة حكم غزة بمعزل عن المشروع الوطني بل على حسابه وهي مستعدة للقتال والقتل دفاعا عن مصالحها وشهوتها في السلطة.  


 


- أ-د/إبراهيم أبراش


أستاذ العلوم السياسية - جامعة الأزهر بغزة