يوميات الجد جابر والجدة حليمة(الجزء الأول)حكايات من التراث الفلسطيني/ أحمد ابراهيم الحاج

بقلم: أحمد إبراهيم الحاج

 


عاد الجد جابر الى بيته بعد أداء صلاة العشاء، فوجد زوجته الجدة حليمة وقد رفعت يديها من لكن العجين وكانت تنظفها مما علق بها وكأنها تسحِّب دجاجاً لتفصل اللحم عن العظم، وكان نور السراج يحتضر ويخفت رويداً رويداً نظراً لاقتراب خلوه من الكاز ايذاناً بدنو ساعة النوم، فقد كان السراج يحقن بكمية موزونة ومحسوبة من الكاز عند المغيب لكي ينطفيء تلقائياً ساعة النوم بعد صلاة العشاء، وكأنه كان يحتوي على ساعة توقيت، لذلك لم تلحظ الجدة حليمة ما علق بدماية الجد جابر من غبرة التقطها من تراب ساحة القرية حيث كان مع اقرانه من كبار البلدة يخوضون تصفيات مراثونية نصف نهائية للعبة السيجة تمتد من بعد صلاة الظهر الى صلاة العصر. وذلك بعد أن سبقتها جولة من الخراريف والتسامر واجترار الذكريات من أيام الشباب امتدت من الضحى حتى صلاة الظهر. حيث سيتوج الفريق الفائز بكأس لعبة السيجة بنيل كمشة كبيرة من القطين وكمشة متوسطة من الزبيب تستخرج من خوابي الفريق المهزوم. وابريقاً من الزيت يستخرج من جرار الزيت الفخارية للفريق المهزوم، وتوضع الجوائز في مضافة الديوان الذي سيرتادونه من صلاة العصر الى صلاة العشاء. وبأيام الطفر تكون الجائزة سخرية وتهكماً لاذعاً من الفريق المنتصر على الفريق المهزوم والذي يتقبلها بكل روح رياضية.


الجد جابر: الله يمسيك بالخير يا ام عايد، شو بشوفك لحالك.


الجدة حليمة: يا مسا الخير ، الله يمسيك بأنوار النبي، الحمد لله على سلامتك، والله نيالك، طالع من الضحى وداير لا سائل ولا مسئول، والله ما هو كسبانها في هالدار الاّ انت، وين هالغيبة، إن شاالله حليتوا قضية فلسطين انت وختيارية البلد. الله يعين هالساحة عليكو من كثر ما بتتمرمغوا فيها. إلاّ قولي شو في بخاطرك لمّا قلت ام عايد، مش عوايدك تناديني هيك صارلك تقريب شهر ما قلت يا ام عايد. كِنّك ناوي على نية. (سيما وقد شاهدته متحفزاً كالفارس الذي يتهيؤ لمعركة).


الجد جابر: آه لو تعرفي معزتك عندي كدّيش يا حلومة. (وهنا فهمت الجدة حليمة نوايا الجد جابر) واستطرد يسأل سؤالاً يعرف جوابه لأنه شاهد الأولاد نائمين بالحوش وغرفة البنات كانت مغلقة وسراجها قد أطفيء يدوياً وليس تلقائياً كما كان بائناً من شباك الغرفة العاري بدون ستائر، لكن السؤال في مقامه كان يعني تأكيداً على نية في نفسه مخبأة ويريد كشفها صراحة لزوجته لكي تتهيأ لما هو آت.


الجد جابر: شو الأولاد والبنات ناموا؟


الجدة حليمة: إطّمن وخذ راحتك وحط ايديك بمية باردة (وكأنها تبعث اليه اشارة الرضا)، تعشوا شاي وخبز وناموا على طول، كانوا مغمظين يا حبايبي وهم يوكلوا الله يعطيهم الصحة والعافية، الله يعينهم على هالشقا اليّ هم فيه.


البنات حطبوا ولقطوا زبل للطابون وحلبوا البقر والغنم، ورقعوا أواعي الأولاد وغسلوا دماياتك وسراويلك وحطاتك، وخيطوا شوية في ثوبي الجديد وفرشوا الفراش وناموا.


والأولاد بعد ما اجوا من سراحة الغنم والبقر وهم يلفوا طول اليوم في البراري يرعوا الغنم والبقر ويحشوا عشب، الله يعطيهم العافية عبّوا خيشة كبيرة حشيش كلها خفورة وورق مرار وخرفيش وحلفا وحمحم وعليق وورق بطم وعبهر وسناريا، وعلفوا الدواب والغنم تبن وشعير وحطوا للحمير تبن وكرسنة وأطعموا الكلاب خبز ناشف منقوع بمية وحليب وناموا. والله يرضا عليهم ملقطين شوال زعتر بري وصميدعة وسعيسعة وشوية فقع وورق لسان وخبيزة وعكوب وجايبين معاهم بيض شنار. حتى ما كنت عارفه شو بدي أطبخ بكرة وربك افرجها. ترضّا عليهم يا جابر لأنهم حافظوا على عاقبتك وريحوك في آخر عمرك.


الجد جابر: الله يرضى عليهم، طيب هو أنا ما شقيت ولا تعبت يا ام عايد، والاّ منين هالأرض والحلال اليّ عندنا وبعدين شو طلع لي ورثة من ابوي اليّ خلف عشرة وتقسم عليهم الرزق والأرض، مهو كله من عرق جبيني، وانت شاهدة على هاظا كله، ما بطلع لي أرتاح شوية تالي هالعمر. أي كعاب رجلي مثل حجر الصوان وانا أقاطم واحاطم في البراري لابس كوشوكة مخزوقة، وخدمتي في الجيش التركي كون وتعبي وشقاي في الأرض والرزق كوم، بتتذكري يا حليمة يوم أخذوني للجيش التركي وأنا عريس ما صار لي اسبوع متجوزك، وخلفتي عايد وانا بعيد عنك بطارد في جبال اليمن مع الأتراك على الجوع والقلة وعريان في البرد والسقعة، كنا ندور على حب القمح في روث خيولهم الله لا يكسبهم ولا يسامحهم، خيولهم توكل القمح واحنا البشر ما نلاقي الشعير نسد فيه جوعنا، والله احنا اليوم بخير لما بتذكر ايام زمان وأيام تركيا. بتتذكري يا حليمة ايام الجوع واحنا نزرع ونحصد وندرس ونتعب ونشقا وتركيا توخذ الغلة وما يظل النا اشي. ويمر علينا أيام ما نلاقي لقمة خبز في الدار وكنا نوكل من ورق الشجر.


الجدة حليمة: آه آه، بتذكر يا جابر بتذكر الله يخليك تفكنا من سيرة هذيك الأيام ربنا ما يعيدها علينا، والله ما بحب سيرتها ولا طاريها، والله بطلعلك يا ابو عيالي ترتاح، مهو انت تعبت وشقيت لما قلت بس، وأنا كمان دوري ارتاح مثلك، يلّه جوز هالأولاد وجيبلي كناين يساعدوني. والله خاطري اقعد مع هالعجايز بالسرداب واسمع خراريف أيام زمان.


وبينما هما يتناقشان ويتحادثان، انطفأ السراج تلقائياً، فخلع الجد جابر دمايته وحطته وعقاله بالظلام وبقي باللباس الطويل ابو دكّة ، وغطت حليمة لكن العجين بخريطة كيس طحين افرغ من محتوياته وفوقه منقلة من القش ووضعت فوقها حجراً حتى يخمر العجين، واستعدت للنوم، وأويا الى فراشهما.


ودار بينهما حوار قصير قبل النوم.


حليمة: اليوم شقّر عليّ اخوي مْحِمَّد، والله زمان ما شفته، بسلم عليك كثير، وبصراحة طلب مني أوصّلك هالأمانة.


جابر: خير شو بدو اخوك محمد؟ ليكون بدهم يقسموا الأرض ويعطوك حصتك؟ لكن ما أظن والله ما يعطوك حاجة، عارفهم طماعين وقليلين دين.


الجدة حليمة: اسمع يا جابر "أنا ميت مرة قلتلّك لا تتدخل بيي وبين اخواني في خرافية الأرض، منهم لربهم يختلصوا والخطية في رقابهم وحسبي الله ونعم الوكيل. بدك الدغري هو كان جاي يتعسعس ويشوف اذا مياتهم بركبوا على عسلاتنا، يعني بصراحة بدو يسأل ويجس النبظ إذا بنعطيه بنتنا صفية لإبنو عبدالله.


جابر: يا حليمة انت عارفة صفية لخضر ابن عمها عطا، وفتحية لصبحي ابن عمها عطية، ومدللة لحسن ابن عمها خليل، وشفيقة ليونس ابن عمها عبدالهادي يعني بدك تفظحيني مع العيلة. محنا كلنا عارفين هالخرافية وبلاش نظل نعجن ونلت فيها.


آمنة: بدك تعطي صفية المزيونة والمعدّلة لخضر الهبيلة والأحول يا زلمة، والله البنت بتذبح حالها قبل ما يصير هالحكي. يعني شو جاب لجاب، وين ابن اخوي عبدالله السبع والنشمي ووين عايد ابن اخوك مظحكة شباب البلد.


جابر: مهو خضر مخول وطالع لخواله، الله يسامحو اخوي عطا، يومها ما وافقنا على جيزته بس ركب راسه وتجوّز بنت السقيطة "الدّلدوم"، وفوق هذا والذي واليّ أعور عينها بزيادة إنو خالها الجفيطة "مصّيص". واستطرد يغير الموضوع وقال:


لكن يا حلومة خلينا بحالنا هالكيت بلاش الحديث ينقلب لنكد وزعل، والصباح رباح بنشوف تدبيرة لأخوك ولأخوي. والله ما الك علي يمين يا حلوم، صدقيني اني بشتاقلك وانا غايب عنك......... وردت عليه حليمة بتودد تعطيه اشارة القبول "تشتاقلك العافية يا بعد عمري والله أنا كمان بظل قلبي يتشظى عليك وانت غايب"....وسكت الحديث وران الصمت ممزوجاً بتمتمات خافتة قليلاً وبعدها بدءا معركة في حرب باردة طويلة ، وبأسلحة مثلمة لا تحسم الأمور، وتحت جنح الظلام، ولم تنته المعركة بنصر مؤزر لطرف على آخر بل انتهت بالتعادل السلبي (صفر، صفر).


وبعد ذلك بدأت أنغام الشخير تتصاعد من الطرفين، فالجد جابر يعزف عزفاً غليظاً وخشناً بخخخخخخ، بخخخخخخ، بخخخخخخ وترد عليه الجدة حليمة عزفاً رقيقاً وناعماً بفففففف، بففففف، بففففف، وكأنه يقول لها بشكل متصل (بخ) أي اريد طبيخاً، وترد عليه بشكل متصل ايضاً (بف) عندي خبزة فقط، عجبك عجبك ما عجبك روح بلط البحر، وأنا على استعداد للعيش معك على الخبز فقط، اريد خبزاً مغمساً بالحنان يا بعد عمري. ولكنه يصر على الطبيخ ولا يكف عن المطالبة به حتى طلوع الفجر وترد عليه بالمثل متمسكة برأيها. وتنتهي معركة النوم بالتعادل الإيجابي (واحد، واحد).


 


الى لقاء آخر في صباح اليوم التالي مع الجزء الثاني من يوميات جدنا جابر وجدتنا حليمة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت