القوة هي الطاقة الدائمة التي تبحث عنها الأمم والمجتمعات لتحقق عظمتها وهويتها وثبات وجودها من خلالها، وهي من يسعى لامتلاكها الأفراد ليحققوا طموحاتهم وأحلامهم ووجودهم المتميز بين الآخرين، وهي المفهوم الذي تتصارع عليه الدول المعاصرة ولكن تحت تعريفات مختلفة مستمده في معظمها من معاني المادة وقوة العقل والجسد والنفس والروح، وهي المفهوم الذي تبرز معالمه في مواقف شجاعة تنبع من عوامل داخلية وخارجية للتحدي و البقاء.
والقوة تقوم على امتلاك الموارد والإمكانيات والقدرات والتي تظهر حقيقتها من خلال كيفية الإدارة والتحكم بها لتحدث من خلالها التأثير أو الضغط أو التمييز على الدول الأخرى الأقل قدرة منها أو متساوية معها في نفس الموارد والقدرات، فالدولة القوية أو الفرد القوي هو من يحسن استخدام وإدارة ما يملك ويتفوق به على غيره.
والقوة هي القدرة على التأثير في الآخرين وإخضاعهم لإرادة القوي الفاعلة، لذلك فالأقوياء في أي موقف اجتماعي كان أم سياسي أم اقتصادي أم ثقافي هم الذين يفرضون إرادتهم وكلمتهم ويسيرون الأمور كما يرونها ووفقاً لمصالحهم الخاصة أو المصلحة العامة للدولة.
القوة من أهم العوامل التي تبنى عليها العلاقات الدولية وتحدد أبعاد الدور الذي ستلعبه الدولة في المجتمع الدولي وتسير علاقاتها واتصالاتها وفق مصلحها، ولم يعتبر ربط العلاقات بالمصالح لامتلاك القوة دائما شيء سلبي وفاسد ، فأهم عامل هو الأخلاقية في استخدام القوة لتصبح مصدراً للخير والأعمار والإصلاح بعيدا عن الإيذاء والعدوان على حقوق ومصالح الآخرين.
قال رسول الله محمد صلي الله عليه وسلم " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلٍ خير"
وفي ظل النظام العالمي الجديد وسيادة ثقافة العولمة القائمة على الهيمنة الاقتصادية والسياسية والثقافية، برز ذلك المفهوم ليغير قناعات الناس، وليبنى على مفاهيم مادية انحرفت عن مسارها وإنسانيتها ليسعى الإنسان وراء تحقيقها ليحقق قوته ويبسط نفوذه كما تسعى الأمم، فأصبحت القوة تمتلك بالترهيب والمعاقبة وحرمان الحقوق والاستبداد للشعوب أو فرض الهيمنة الاقتصادية والسيطرة على الأسواق العالمية وجعل الضعفاء سوق مستهلك يفرغ ما بجيوبه ومتعلق في رقاب الديون والقروض البنكية ليبق خاضعا تحت سطوة القوة الاقتصادية العالمية، أو استخدمت تحت شعارات ومفاهيم العدالة والمساواة وحقوق الإنسان لتفرض من خلالها سلطتها على موارد الشعوب وثرواتها.
وقد جاء معنى القوة في اللغة: أصل المفهوم من كلمة (قوا) القُوَّةُ: خلاف الضعف. والقُوَّةُ: الطاقة من الحبل، وجمعها قِوًى. ورجل شديد القوى، أي شديدُ أسرِ الخَلْقِ، هي المؤثر الذي يغير أو يحيل حالة سكون الجسم، وهي مبعث النشاط والحركة والنمو وجمعها قوى.
أما المعني الاصطلاحي: فالقوة هي الطاقة الداخلية التي يتمتع بها الإنسان على مستوى العقل والنفس والجسد والروح حيث يستطيع من خلالها أن يفعل أو يحقق أمورا يفوق بها غيره، وتبنى على مصادر الملك و السلطان والمال و العلم و الجاه والمكانة الاجتماعية وكثرة الأهل والأولاد والعلاقات المتعددة وقوة البدن ، حيث يكون الإنسان في موقع لا يقدر أحد على إيذائه أو السيطرة على حقوقه أو مذلته أو غلبته، بل هو في الغالب يقدر على فرض سيطرته و ووجوده ويكون عزيزاً أو فخوراً بين الآخرين بما يملك غنياً عنهم، وهي القدرة على إحداث أمر معين و"تأثير فرد أو جماعة ما على سلوك الآخرين". إن أفضل تعريف للقوة هي القدرة على إنشاء علاقة تبعية، والقوة ليست مجرد التسلط ولكنها تتضمن أيضا القدرة على الاستمالة والنفوذ لدى الآخرين.
المفهوم الشرعي: لقد ورد ذكر لفظ (قوة) في القرآن الكريم في عدة آيات مختلفة المواقع والسياقات، وكلها حملت معنى الشدة والسيطرة أو التمكن والإحكام، وذكر تارة مسبوقا بحرف جر، وتارة معرفاً بآل التعريف، وتارة بضمير وتارة نكرة، وجاء بضرورة الحرص عليه وأخذه، وتارة بيان أن القوة ملكاً لله وحده، وتارة بيان ضعف القوة البشرية وهشاشتها، وتارة للتهيئة والاستعداد للمقاومة، وتارة لوصف حال الأمم السابقة وقوتها وما آلت إليه حالها، وتارة تبين أهمية امتلاك القوة والتربية عليها، وتارة صفة لجبريل عليه السلام، إذاً جاء القرآن ليبين حقيقة القوة الإيجابية والسوية التي يجب أن يتخذها الإنسان والمصدر السليم والصحيح التي يجب أن يستمد منه قوته، ويحذر من إتباع أو أخذ القوة السلبية، القائمة على مفاهيم وموازين باطله ستؤدي بصاحبها للهلاك والضياع والخسارة الحتمية.
ومع نظرات في كتاب الله سبحانه وتعالى لمعنى ذلك المفهوم، فقد جاء بمعاني كثيرة شمل كل جوانب حياة الفرد والمجتمع، قامت على البناء الفكري والعقدي المستمد من شريعة الله، والتي ينطلق منها بناء كل قوة أخرى والتي يجب السعي للأخذ بأسباب تحقيقها كي تبقى الأمة أقوى الأمم، وتسود العزة والرفعة والعدالة الشاملة بعيدا عن سيادة الظلم والاستبداد، وبين القرآن جوانب التحذير والترهيب من اتخاذ بناء القوة بمقومات مادية أو جسدية فقط بعيدا عن الأخذ بمبدأ شريعة السماء.
ومن خلال استقراء الآيات التالية سنفصل هذه الموضوعات حسب السياق ونبين الهدف التربوي منها وبيان تطبيقها على الواقع أو البعد عنها ومحاولة تجنبها.
بين الله سبحانه وتعالى في مواقف عديدة أهمية أن يلتزم العبد المؤمن بأخذ ما أتاه الله بقوة، فجاء الأمر أيضا للأنبياء والمرسلين كما جاء للعباد، فقال تعالى مخاطبا بني إسرائيل ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) البقرة وقال تعالى (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) البقرة ، وقال تعالى مخاطبا موسى عليه السلام بعد اصطفائه للرسالة (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145) الأعراف
وقال تعالى ( وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) الأعراف وقال تعالى (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)مريم
بينت الآيات أمر الله للإنسان بأهمية الالتزام وأخذ ما أمر به بقوة الإتقان والشدة والحرص عليه بعدم التفريط أو النقصان ومحاولة الالتزام بالأحسن، والإتيان تعني البذل والتدرج في الوصول عبر مراحل إدراكية ونفسية متعددة، فعند الوصول لمرحلة الفهم والإدراك السليم والبصيرة الصحيحة، يجب الالتزام والحرص الشديد على عدم التفريط أو العودة لما كان عليه من جهل وضلال وفساد، فكلما زادت المعرفة زاد الحرص والخوف من التقصير أو الارتداد بالإمساك بالحبل المتين والتثبت به، وكان بني إسرائيل أكثر من وصفوا بصورة الارتداد وعدم التزام أمر طاعة الله ونبيه موسى عليه السلام، وعدم حرصهم الشديد على أوامره ونواهيه، بل كان التهاون الشديد والتخلي السريع عن الله ورسوله لمجرد تعرضهم لأبسط الفتن الدنيوية، فيشترون بآيات الله ثمنا قليلاً ويلهثون وراء الدنيا، يحسبون أن القوة والعزة ستكون لهم من وراء إتباعها والحرص عليها، لذا جاء أخذ القوة يتبعها أهمية تنبه الحواس العقلية والحسية (اذكروا، اسمعوا) فالذكر الدائم لما تعلمه العبد المؤمن والخوف من عدم الالتزام يوصل للتقوى، وإلقاء السمع والانتباه يزيد البصيرة والمعرفة، وينبه العقل للتمحيص والتدقيق وعدم الزيغ عن الإيمان، ومن الممكن أن تتعلم وتؤخذ منذ الصبا، فيتربى الطفل على مفهوم القوة الحقيقي ومقوماته الضرورية حتى يتمكن منها في مرحلة مبكرة فيثبت عليها، فكلما كان الإنسان أكثر تنبهاً لما حوله كلما كان أسلم وأقوى من أن يقع وينحرف ويلحقه الضعف والهلاك.
ثم يبن الله سبحانه وتعالى ضرورة حرص أهل الحق والإيمان على الإعداد الدائم والمستمر على امتلاك مقومات القوة والاستعداد لها، وأن يبذل المجهود وتستخدم الطاقات على مختلف أنواعها وتستثمر لإعداد أكبر قوة ممكنة تتحدى أعداء الضلال والكفر فقال تعالى (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) الأنفال
حتى تملك القوة يجب العمل على الأخذ بأسبابها والإعداد لها بكل مقوماتها المادية والجسدية والمعنوية، فجاء هنا بـ( ما ) لتدل على أقصى البذل والجهد المستطاع لتحقيقها كاملة أو تحقيق بعضها فقال ( من قوة )، فالقوة المستعدة والمتيقظة الدائمة تترك الأثر في قلب العدو وترهبه وتجعله لا يقترب من صاحبها ، وأول مقومات القوة هو البناء ألقيمي والأخلاقي والفكري الذي ستنطلق منه القوة الشاملة، والقوة تحتاج إلى الاستعداد الدائم من خلال المرابطة في المواقع كافة حتى لا تتم المفاجئة للعدو في لحظة الغفلة أو الضعف، لذا يعتبر الإعداد لرباط الخيل هو الإبقاء على الاستعداد الدائم والمرابطة المستمرة بهذه القوة من خلال الحرص على البناء والتقدم والتطوير في كافة مجالات الحياة وبالذات الجانب العلمي والفكري والأخذ بالأسباب باستمرارها وعدم الركون إلى الضعف أو الهوان والانشغال عنها بعيدا، لأن الأمم تبقى قوتها وتستمر مع بقاء استعدادها الدائم ومرابطتها الدائمة في المواجهة لأي خطر يداهم بقائها واستمرارها، لذا نجد الأمم والدول اليوم تستعد بأقصى التطورات الحربية والعسكرية، وتعد الجيوش بأقوى التدريبات، وتتسلح بالتطور العلمي والتكنولوجي، وتسعى للهيمنة الاقتصادية والسياسية وغيرها حتى تحفظ مكانتها وتبقى وجودها بقوة بين الأمم الأخرى ولا تسمح للسيطرة والعدوان عليها.
والإرهاب يكون بالاستعداد والتهيئة الكاملة من المؤمنين لأعدائهم حتى تصبح لهم الهيبة والمخافة في قلوب هؤلاء الأعداء ويحسبون لهم حساباً قوياً فلا يقبلون على غزو بلادهم وتدمير ثقافتهم وحضارتهم وإشاعة الفساد بين أجيالهم وفي كل مجالات حياتهم ، وخاصة إن كانت المعركة عقدية وتقوم على مجابهة التوحيد والحق لإشاعة الباطل والعقائد الفاسدة بين الناس.
كما أن الإعداد والاستعداد للقوة الظاهرة أمام أعين الناس والأمم، تجعل من يتخفون من المنافقين أو أهل العداء للمؤمنين ومن يظهرون أنهم معهم وحقيقتهم تخالف ذلك، يرتعدون عن فعل ما يسعون له من النفاق والكذب ويطلبون السلامة لأنفسهم فتكون زيادة حماية للمؤمنين من شرورهم أو يدفعهم للحاق بالمؤمنين .كما أن كل ما يبذل لأجل الله وأجل الحق والإصلاح في الأرض سيكون عليه الوفاء من الله أن يجازي صاحبه بالأجر والجزاء العظيم، فعندما يستشعر الإنسان أن ماله الذي ينفقه في تطوير الأمة وشد عضها وزيادة قوتها سيكون له الأجر والثواب من الله في الدنيا والآخرة، عندها سيزداد الإقبال على الإنفاق والتقديم في سبيل الله، وعندما يستشعر الفرد أنه جزء من بناء القوة والتقدم في مجتمعه ويشعر بذلك الانتماء وحصوله على التقدير والجزاء سيقبل على التضحيات بقوة وقناعة لا تهزها أي محاولات من الأعداء لإضعافها، لأن عدل الله مطلق ولا يظلم مثقال ذرة وكلٌ مجازى على قدر بذله وتقديمه لله.
وجاء في تفسير ابن عاشور "روى مسلم والترمذي عن عقبة بن عامر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية على المنبر ثم قال "ألاَ إنّ القوة الرمي" قالها ثلاثاً، أي أكمل أفراد القوة آلةُ الرمي، أي في ذلك العصر. وليس المراد حصر القوة في آلة الرمي".
فقانون الله في تحقيق القوة ثابت (استعد وخذ بالأسباب كلها ما استطعت ولا تعجز واسلم الأمر لله فتكون قوياً، والعكس صحيح)
ثم حرص القرآن على أن يعيدنا للأمم السابقة لكي نعتبر ونتعلم، لأن التاريخ يلعب دوراً كبيراً في حاضر الإنسان ومستقبله، فكلما نظر الإنسان للتاريخ وتمعن فيما كان فيه من خير أو شر أخذ العبرة منه واهتدى السواء فقال تعالى ( كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)التوبة وقال تعالى (قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)النمل وقال تعالى (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) القصص وقال تعالى (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)القصص وقال تعالى (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) غافر وقال تعالى (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15)فصلت
وقال تعالى (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13)محمد
يبين الله كيف تسقط وتهلك أعظم القوى وهي في أوج عظمتها وافتخارها بنفسها، وعندما يسود مفهوم القوة الخاطئ فيكون سبباً لهلاكها، وبين الله المفهوم الحقيقي للقوة الذي يحفظ بقاء الأمم والمجتمعات ، فالأمم السابقة المنهارة بنت قوتها على القوى المادية والبشرية واتخذت نصيبها الدنيوي منها، ونسبت لنفسها القوة ففرضت هيمنتها وإجرامها وسطوتها عمن حولها بشدة، وكانت ذات تأثير في غيرها والتمكن مما تملكه وعدم قدرة غيرها على غلبتها بسهولة، وبعض الأمم قامت عوامل قوتها على كثرة الأموال من خلال النمو الاقتصادي، وكثرة الأولاد أي الطاقة البشرية المهمة لبناء قوتها العددية، فكان هناك تشجيع لزيادة الأولاد لكثرة الأموال والبذخ، فكانت الزيادة للأولاد لزيادة التفاخر بين غيرهم بامتلاك القوة بهم، فهؤلاء الأقوام ظنوا أن الحياة الدنيا ونعيمها هي حظهم ونصيبهم الذي يجب أن يستمتعوا به دون تفكير بالفناء والموت والإيمان بالبعث، فانغمسوا في كثير من المحرمات والمنهيات والمخالفات التي خالفت شريعة السماء وأوامر الله ورسله، فازداد الكبر والجحود والإعراض والكفر وعدم تصديق المرسلين وخلت قلوبهم من مفهوم الإيمان، فلم ترتدع عن الظلم والقهر للآخرين واستغلال الضعفاء والاستبداد بالشعوب، امتلكوا مقومات القوة المادية بعيداً عن القيم والأخلاق والعقيدة السليمة، فعميت أبصارهم وصمت أسمعاهم وغفلت قلوبهم فأهلكت قوتهم وسقطت تحت أقدام الظلم والطغيان .فقارون أعطاه الله من المال وهو مصدر قوة ما أعجز أشد الرجال عن حمل مفاتيح خزائنه وأمواله، وذلك تعبيرا عن كثرة ما وهبه الله من رزقه وفضله، فكان ذلك حظه ونصيبه مما تعلمه وتميز به من المعرفة والعلم في أمور كسب المال وزيادته، ونسي أن الله هو من سبب له تلك الكنوز والأموال وذلك ليختبره ولكن العجب والتكبر والكفر بنعم الله أمرض قلبه، فأنكر وجحد فاستحق أن يؤخذ منه ويهلكه به وبما فرح به فرحا شديداً وتعالى به على الناس دون إعطاء الحق منه.
إن الآيات التي تحدثت عن الأمم السابقة كلها تدل على أن القوة مهما اشتدت عظمتها وكبرت وتميزت عن غيرها ممن يحيط بها، ومهما امتلكت مقوماتها المادية والجسدية فهي ضعيفة واهنة سريعة الزوال والهلاك ما دامت بعيدة عن أمر الله وطاعته ولم تملك القوة الداخلية المبنية على صدق العقيدة والإيمان القائم على التوحيد لله والعبودية الشاملة فيها، واحترام حقوق العباد التي شرعها الله والأخلاق والقيم السليمة الصالحة للمجتمع والقائمة على العدل والقسط، فأعظم وأسرع ما يهلك المجتمعات والأفراد الكبر والعجب الذي يولد الاستبداد والظلم وتعظيم الذات وزهوها بما تملك بعيداً عن تعظيم الله ونسب كل ما يملك له سبحانه.
الضعف مع القوة..
ثم يبين الله سبحانه وتعالى حال النبوة الصالحة و العبد المؤمن لمواجهة ما يخالف سنة الله للبشرية، وحال المعصية أو الذنب الذي لا يصدر عن لحظة ضعف أو زلة، بل عن إصرار و شذوذ متعمد مخالف لفطرة الطبيعية الإنسانية، فبعد المجادلة ومحاولة سيدنا لوط إعادة قوم الشذوذ إلى السلوك الفطري السليم، ومحاولته بإغرائهم وتطميعهم لبناته للزواج إن اعتدلوا واهتدوا وتراجعوا عن شذوذهم والعودة للإصلاح لنفوسهم المريضة، ولكن لم يخرج رجل رشيد منهم، فالقوة المطلوبة في لحظة الاستيئاس منهم بتمني القدرة على صدهم ومنعهم عن ذلك الفعل وإقناعهم وتغير أفكارهم وتعديل سلوكهم، وهم أصحاب العدد الأكبر فمعظم قومه إلا قليل كانوا كذلك حتى امرأته أيدت فعل الشذوذ ، لذا كانت قوتهم العددية تغلب قوته ومن معه، وقوة إيمانهم بذلك السلوك الشاذ وسيطرة الشهوة المنحرفة على قلوبهم أقوى من أن تستمع لصوت الحق والارتداع عنه، عندها تمنى الإيواء للركن الشديد هو الانزواء والفرار بعيداً عنهم والخروج من بينهم محتمياً بركن الله عن رؤية ذلك السلوك باحثًا عن النجاة والسلامة منه، وهو الركن المتين والوجهة القوية التي لا يضل من اهتدى إليها، فالقوة أحيانا تكون بالقدرة على الصمت والابتعاد خشية الفتنه أو تحين فرصة التحرك المناسب.
قال تعالى على لسان لوط عليه السلام (قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)هود
وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39)
الكهف وقال تعالى (قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95)الكهف
ثم المعرفة الحقيقية لمصدر كل قوة يمتلكها الإنسان وعدم نسبها لنفسه وغروره بها، فكلما رأى الإنسان نعمة ربه عليه يجب أن تذكره بعظمة ربه وقوته المتفضل عليه فيتواضع أمامه ويذل إليه غير مستكبر ولا جاحد، وعدم التعالي على الآخرين واستضعافهم والتكبر عليهم وتحقيرهم، وعندما يمكنه الله من أمر الخير والإتقان له، يحتاج الإنسان لقوة الوحدة والعمل الجماعي، لأن وحدة الجماعة والصف من أشد ما يمنع اختراق الأعداء لجدار المجتمع، وتحول دون قدرة الأعداء السيطرة على هوية الوجود والثقافة والتاريخ، أما إن تفرق الأفراد وتشتت القلوب وفقد التآلف والتواصل والتعايش، ضعف المجتمع وهدم جدار القوة ليكون من السهل لأي غزو دخوله وتدميره، فالمطلوب قوة روحية وجسدية ووحدة قومية وعقدية.
أسباب ضياع القوة..
ثم يبين الله سبحانه حال من فقد قوته بعد تمكنه منها، وعودته لحال الضعف والهلاك والضياع بقوله سبحانه (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)النحل
التحذير من خلال هذا التصوير الإلهي لحال المرأة الحمقاء التي عملت على إتقان نسجها واحتاجت لقوة الانتباه والأناة والجهد والحرص الشديد حتى يخرج مستوياً أنيقا مرتباً يعطي الجمال والشكل الذي تريده، ثم بعد كل ذلك الجهد والبذل والتعب للوصول إليه والتمكن من صناعته، تقوم بنكثه وفرطه لتعيده للحال الذي كان عليه من خيوط متفرقة منفوشة لا شكل ولا جمال ولا استواء فيها فيعود هشاً ضعيفاً لا فائدة كبيرة منه، فهذا حال للإنسان الذي عرف ربه وآمن به واتخذ أسباب الصلاح مع الله واهتدى لأجل المحافظة على عهده ووعده لربه والبقاء على طريق الصلاح، ثم غره ما في أيدي الناس من متع الدنيا فنسي ما كان عليه من حال الإيمان وسارع للذنوب والمعاصي والكفر، فعاد لما يخالف عهد ربه، وهنا بيان لحال من يستخدم الأيمان والعهود والتأكيد عليها في تعامله مع الناس لأجل المصلحة الذاتية وسرعة مخالفته لها عندما تأتي مصلحة أخرى مع قوم أو أناس آخرون، فهو يسارع في نقض عهوده وأيمانه لموالاة من يجد عندهم الزيادة، فهو يعتدي على الدين والإيمان ويشوه صورته بما يتخذه كسلوك ظاهري وفي باطنه ما يخالفه، مما يجعل من تعامل معه وحسب أنه من أهل الإيمان والحق والعهود أن يغير صورته عن هذا الدين وأهل الحق، فإن من يفعل ذلك لا بد أنه يكون في حالة من الضلال والمرض القلبي، كما فعلت هذه المرأة التي نقضت ذلك الغزل بعد الإحكام ولم تستفد مما أحكمت صنعه وبذلته من جهد طمعاً أن تصنع غيره، فهذه النفسية المترددة الغير واثقة باعتقادها ودينها هي في حالة من التعب والجهد الضائع الذي سيأتي بالفشل والخسارة، كما أنها بيان لأهمية المحافظة على ما يصل إليه الإنسان أو الدول من مقومات القوة والموارد والقدرات المتاحة، وعدم التخلي عنها وإضاعتها واللهث وراء أطماع أخرى لن تفيده وسوى تؤدي للخسارة والهلاك له .
ثم يبين الله سبحانه حقيقة الإنسان وحقيقة قوته وضعفه، تلك القوة الآنية التي بنيت بعد ضعف وسوف تعود لذلك الضعف، فقوة الإنسان بشكلها النفسي والجسدي والعقلي لن تستمر ولن يبقى إلا قوته الروحية والإيمانية، والذي سيبقى أثرها بعد رحيله إن كانت مستمده من قوة الله وشريعته، قال تعالى مبين حال التدرج البشري في مراحل النمو ما بين الضعف والقوة ثم القوة والضعف (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)الروم
الإنسان من صور ضعفه بحاجة لغيره أن يعيله عند مولده وعند كبره وشيخوخته، ولن يكون معتمدا على نفسه إلا في مرحلة شبابه وقوته الجسدية والعقلية، ولكن سرعان ما تنتهي تلك المرحلة ليعود لما كان عليه بطفولته ولكن بصورة أشد ضعفاً، فعند الكبر سيكون أثقل على نفوس الناس مما كان في طفولته وستكون معاناته وألمه ممن حول أشد وأقوى، إن تخلوا عن مساعدته وأسمعوه من الكلام ما يؤذيه، فهذه حقيقة الإنسان وسنة الله فيه، فلا يغره الاعتماد على قوته الجسدية ولا طاقته النفسية ولا ملكه المادي أو العلمي، فالاعتماد على الله وحده، فكل شيء إلى ضعف وهلاك إلا وجهه سبحانه فلا يغلبه شيء، لذا أن يحرص الإنسان على أن يستغل كل مقومات قوته الجسدية والنفسية والعقلية والفكرية والاقتصادية قبل أن تحين لحظة ضعفه وعدم قدرته على استغلالها وإلا سيلحقه الندم الخسارة.
وقد ربى الله أنبياءه و رسله على القوة فكان سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم أكثر من اتصف في مواقفه كلها بالقوة، حتى قبل نبوته فقد وصف بقوة العقل والحكمة وقوة الجسد والروح، وأعظم ما تجلت به قوته قبل البعثة عندما اتخذته القبائل حكما لوضع الحجر الأسود في مكانه في الكعبة الشرفة فحكم بالعدل بينهم ووضعه بيديه الشرفتين، وعرف بقوة أمانته ووضع الناس أموالهم في عهدته، كما تميز في بداية الدعوة بجهره بها أمام قومه وإصراره على الحق رغم كل المغريات أو التهديدات، وكان أعظمها عندما حاول عمه أبا طالب استعطافه وصده عما هو عليه إرضاء لسادة قومه فكان أن رد عليه بصوت القوة فقال ( والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الدين ما تركته) وتميز بقوته النفسية والروحية العالية عندما آثر بقاء قومه وعدم إبادتهم على كرامة نفسه وحقه، فعندما عرض عليه ملك الجبال أن يطبق عليهم الأخشبين ويبيدهما بعد أن طردوه من الطائف فأجاب الملك ( أرجوا الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ويحي هذا الدين فخرج عظماء الصحابة)، ثم وهو يلاحق في هجرته فأواه الله إلى الغار، وخوف وحزن أبا بكر لاحتمال الوصول إليهما والاعتداء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطمئنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله (لا تحزن إن الله معنا)، وامتلك القوة الجسدية عندما ضرب بفأسه صخرة عجز جميع صحابته عن ضربها وإزالتها في الخندق، وامتلك قوة العقل وسرعة الإدارة والبناء واتخاذ القرار بعد فتح مكة، فكان أول ما قام به لبناء المجتمع الإيماني القوي بتأسيس مقومات القوة، فركز على الجانب الاقتصادي ببناء السوق، وبناء المسجد للفكر والعلم ويوجه منه لسلوك والارتقاء بالإنسان، وتوحيده للقلوب والتآلف بين المهاجرين والأنصار.
ووصف سيدنا موسى عليه السلام أنه القوي الأمين عندما وصفته ابنة شعيب لأبيها لتشجيعه من أجل إسئجاره للعمل عندهم بعد رؤيتها لقوته وأمانته، وإعجابها لتلك الصفات وثنائها عليه وأنه نعم الرجل الصالح لدخوله عليهم ومشاركته معيشتهم فقال تعالى على لسان ابنة شعيب {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِين} [القصص: 26].
فموسى كان قوياً في فكره وأسلوب خطابه وفي إيمانه بالحق وفي صوته ووقوفه أمام جبروت فرعون وقومه، وكان قوياً بجسده عندما سقى للمرأتين، ودافع عن حق الضعيف فقتل من كان يتجبر من قوم فرعون مجرد أن وكزه بيده، وكان قوياً بنفسيته عندما تحدث بجرأته دون خوف أمام فرعون وتحدى سحرته، وكان قوي عندما هاجر بنفسه وحيداً في العراء وتحمله لعناء غربته وبعده عن أهله وبلده، فهذه الشخصية العظيمة والقوية والتي بنيت على عين الله ورعايته فصنعه الله إليه واصطفاه لنفسه، فرباه ليكون بتلك القوة ليقدر على مواجهة ذلك الطاغي وجبروته واستبداد قومه على المستضعفين، فرباه الله ليكون قوياً بكل الجوانب حتى في الجانب المادي، فترعرع في قصر فرعون متنعما يأكل من أطيب الطعام وألذه، ويعلم أسرار ملئه وخططه وما يدور من مؤامرات وفساد في محيطه، ليكون قويا بمعرفة بالتفاصيل في بيئة فرعون ونفسيته، عند المواجهة له في المستقبل الموعود والعمل على الإصلاح والتغير لما فيه خير لقومه.
ثم تأتي آيات عديدة تظهر القوة الحقيقية كصفة مطلقة لله وحده سبحانه، وما على الإنسان إلا أن يتعلم من ربه ويأخذ منها ما يُجمل بها نفسه، فيبن الله أن جنس كل قوة في هذا الوجود ملكا له سبحانه، وقوة الله تكون لرحمة الإنسان ومصلحته وليس لاستغلاله واستضعافه كما يفعل البشر بقوتهم، فيقول الله سبحانه وتعالى ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)البقرة
قال تعالى ( وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)هود وقال تعالى (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فصلت وقال تعالى (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) الذاريات
طبيعة النفس البشرية تميل للقوي صاحب السلطان والقدرة على تدبير الأمور، فالله هو القوي المطلق من بيده كل القوى الكونية على الأرض، وبقوته متحكم بكل شيء صغيره و كبيره، وكل شيء خاضع لإرادته وسطوته، فكيف بالإنسان أن يتخذ سبيلاً وحباً وقرباً غير الله، فهو وحده المستحق للحب والقرب والبعد عمن سواه، وإلا كان الضلال والكفر والشرك الذي يدفع بصاحبه للعذاب الشديد.
ولا بد للذنوب والمعاصي من أثر تضعف به قوة الإنسان سواء كانت جسدية أو عقلية أو روحية، فكلما أستكبر الإنسان وأعرض عن الحق وعن إتباع أمر ربه كلما زاد وهنه وضعفه وخسارته والعكس هو الصحيح، ومن يدّعي لنفسه أنه يملك شدة وقوة لا يغلبها شيء ويصر مستكبراً مغرورا حاجباً بصره عن رؤية دلائل قوة الله وشدته، وأولى هذه الآيات أية خلقه ووجوده، فيزداد القلب قسوة وجحودا عن الحق والإيمان، ومن ظن بملكه أنها القوة التي ستحميه من المخاطر في حياته فهو واهم، لأن ما يملكه ملك الله الذي يعطي ويمنع فرزقه دائم لا ينقطع ولا ينتهي، فهو صاحب القوة الشديدة فلا ضعف ولا اضطراب ولا نهاية وزوال لملكه سبحانه.
الخلاصة..
القوة حاجة ضرورية وطاقة مهمة يجب أن يتمتع بها الفرد والمجتمع، ومن الممكن أن لا تمتلك كل مقوماتها ومواردها، ولكن يجب العمل والسعي الحثيث على امتلاك أكبر قدر منها، ومن خلال مفهوم القوة والمعاني التي ظهرت في الآيات القرآنية، ومقارنتها بالواقع الإنساني ومعرفة إن كان مستمداً من المفهوم الحقيقي القائم على قوة الله الحق الباقي والحكم القائم على العدل والقسط والرحمة، أم على القوة الموهومة تحت مسميات بشرية تقوم على قوة المادة، الاقتصادية و السكانية والسياسية والجغرافية والجسدية و العقلية والثقافية والتي ستؤدي إلى الاستبداد والظلم والانحراف إن لم تكن متوجه لله، ولم تكن مستمده من قوته سبحانه، ويبدو أن الأمم والأفراد مهما عظمت قوتهم ولو بنيت عل قيم العدالة والمساواة واحترام حقوق الإنسان فما دامت غير قائمة على منهج الله ولا تدعوا إليه ولا تستمد قوانينها وتنظيمها منه، فإنها ستنحرف في النهاية لأنه قامت على منهج علماني أو مستمد من الضلال والكفر وسيكون ذلك سبب انهيارها أو انحرافها وسقوطها.
مما يدعونا لنستخلص الفوائد التربوية حول هذا المفهوم وأهمية امتلاكه وتحققه في الفرد والمجتمع متحليا معها بأعظم الأخلاق وأكرمها:
- القوة الحقيقية أن تأخذ ما آتاك الله والتمكن منه والشد عليه كي لا ينفلت منك وتعود للضعف والهوان، ويكون من خلال التدريب والتهيئة الدائمة والإعداد الجيد والتخطيط السليم للفرد والمجتمع لكافة المستويات والمطالب الحياتية.
- تقوم القوة وتستمر مع البقاء في رباط كامل دائم من الإعداد والتخطيط والعمل لكل مواقف الحياة البشرية.
- القوة الحقيقة تبدأ بقوة الفكر والعقيدة السليمة والتي ستبني أخلاق وقيم سوية وصالحة للمجتمع.
- القوة الحقيقية تقوم على مفهوم الحق والثبات فكلما كان منطق القوة صادراً من مبادئ الحق والمنطق السوي كلما زادت القوة وزاد الثبات في الشدائد والوصول للانتصار.
-القوة تقوم على الإتقان لما تملك وشدته ومتانته.
- من الملاحظ أن الأمم التي تدعي القوة العظمى أنها تبني قوتها على الهيمنة الاقتصادية والتي تبنى بطرق غير مشروعة، من خلال معاملات الربا والقروض والاحتكار التجاري وغيرها من المعاملات الاقتصادية العلمانية أو الرأسمالية، لذا فهذه القوة لن تصمد وستؤول إلى الهلاك.
- القوة لن تقوم على جانب واحد بل يجب أن تكون متكاملة ومتطورة، فلا تقوم على جانب روحي أو سياسي أو أخلاقي أو اقتصادي واحد، بل يجب أن تسير نحو التطور والتقدم في كافة مجالات الحياة بشكل مترابط ومتكامل.
- القوة لا تبنى على عوامل خارجية لأنها ستكون تبع لها، بل تكون نابعة من الداخل واستغلال مواردها والاستقلال الذاتي.
- القوة أهم مقوماتها بعد الفكر والعقيدة النمو الاقتصادي واستغلال الطاقة البشرية التي تبني تلك القوة، فبدون اقتصاد قوي لن يقدر المجتمع والدولة على امتلاك قوة بين الأمم.
- القوة تقوم على العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات بعيدا عن الظلم والاستبداد والاستغلال لطاقات الأفراد والمجتمعات.
- القوة تبنى من خلال الاستفادة من الحضارة السابقة والتاريخ وتدبر حال الأمم والمجتمعات السابقة وما حل بها.
- القوة أن تصدع بصوت الحق والثبات دون أن تضطرب أمام الباطل أو تهزم وتتراجع.
- القوة تبنى على الصدق ووحدة الهدف ونية الإخلاص والمصلحة الجمعية بعيداً عن مصلحة الذات والأنانية.
- القوة أن تحتوي وتستوعب الآخر عندما تجد فيه ما يدعوا إلى مصالحته ومسامحته، وأن تستخدم الشدة والقهر له عندما تجد فيه ما يستحق لذلك ، فهي تقوم على مبدأ التخطيط السوي والرؤية السليمة للأمور دون تهور ولا اندفاع، وبعض الأمور تحتاج لسرعة في اتخاذ القرار كي لا يباغتك عدوك ومن يهددك.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت