لإنسان محور الوجود وأساس بقاء واستمرار نبض الحياة على الأرض، فهو المكلف الوحيد بين المخلوقات ليحمل أمانة الله ويسير بها اتجاه حركة الإصلاح، فقد خُلق منذ بدايته من مادة صالحة للحياة حيث صوره ربه من الطين ليصوره بأجمل صورة جسدية، ونفخ فيه من روحه ليكتمل بأحسن تقويم، وجعل الله كل ما في السموات و الأرض تحت إرادته واختياره، فما عليه إلا أن يستخدم قدراته وطاقاته المختلفة ليبحث عما يُقوم وجوده ويُصلح حال حياته وحياة البشرية جمعاء.
فالعقل والقلب هما سر الحياة وتميز الإنسان، فكلما استخدمها باتجاه الخير والصلاح والاستواء كان الاتزان، وإذا أفرط أو فرط في أحدهما وقع الاضطراب والخلل في ذاتيته وسلوكه فهما تركيبة النفس المتصلة بالروح والجسد، فالإنسان السوي يستخدمهما بما يحقق استواء سلوكه فيتحكم بعقله ليغلب عاطفته عندما يتطلب الموقف والقرار ذلك وتغلب عاطفته إن تطلب الأمر جانب الرحمة والتعاطف فهكذا يمشي الإنسان السوي بجعل جوارحه تبعاً لمنهج الاستواء والاتزان وليس تبعاً للهوى والشهوات.
بعض الناس يُضل سبيله فلا يستغل ما أوتي من نعمة العقل وتركيبة جسده القويم لترتقي روحه نحو الإصلاح وزراعته في الأرض فيسعى نحو ما يُفسد عقله وفكره باختراعه مواد وأدوات ووسائل لتدمير البشرية ومنع رزقها من طيبات الحياة، فتحدث الحروب والنزاعات وهي أكبر ما يُدمر حركة النمو والتفاعل الإنساني ويفسد العلاقة البشرية لتجعلها قائمة على الكراهية والعداء والظلم والقتل والتدمير.
فالدول تتباهى بقوتها بما تملك من موارد وأسلحة مدمرة للإنسان منها الكيماوية النووية وغيرها مما يُفسد الحياة البشرية، ولو سخر العقل البشري باستخدامه المادة لأجل رفاهية وسعادة الإنسان من منهج الحق لكان ذلك خير ولكن عندما ينحرف العقل والفكر لا بد أن تنحرف حياة البشرية.
فمفهوم الفساد معناه يدل على البطلان وفشل الشيء من تحقيق الهدف الذي سُخر له أو تشغيل الأشياء لأهداف لا تستوي مع ما يناسبه ويحقق فائدته السوية التي وجد لأجلها فتُطلق كلمة فاسد على كل شيء ظهر فيه من قول أو عمل أو نتائج أدت بأعراف الناس أن يوصف أنه فاسد.
ويمكن أن يصدر الفساد بحق الإنسان اتجاه ذاته فيفسد حياته وصحته وماله وأهله ومن الممكن أن يصدر اتجاه مجتمعه بالعدوان على الآخرين وإفساد حياتهم من خلال السرقة والاختلاس للأموال واحتقار الأسواق والمناصب وزرع الفرقة والنزاع بين الناس بالتحاسد والتباغض والكراهية في العلاقات، كذلك العبادات إذا دخل عليها شيئا من مبطلاتها أو نقص من فروضها تبطل ، فلا تصح الصلاة دون وضوء أو تناول الطعام والحديث أثناء أدائها وكذلك الصيام إن دخل عليه شيء من مبطلاته فسد صيامه.
الله نظم الحياة الكونية كلها ضمن مسار سوي وصالح ومستقيم وجعل الإنسان مرتبط ويسير مع النظم المحيطة به لتكون حياته متسقة معها ومنتظم بمنظومتها،فبعث الله الرسل معلمين ومصلحين بمنهجه الموزون والمقدر بالعدل والحق لتتحقق السعادة البشرية على الأرض وجعل التبشير والإنذار وسائل للتربية الإنسانية وتعديل سلوكها ليوجهها نحو الإصلاح والصلاح، فإما أن ينال الأجر والثواب العظيم على ما قدمه من خير وإصلاح لنفسه ومجتمعه وإما أن يعاقب ويجازى أشد الجزاء ويهلك في الدنيا والآخرة بفساده وإفساده لغيره.
فما دام الإنسان يسير ضمن ميزان الحق والصلاح لا بد أن تكون حياته تبعاً لذلك المنهج ولميزان فيسير لزراعة الصلاح والخير وإن انحرف عنه وجاء بمنهج من صنع شهواته وأهوائه انحرف مع الهوى والمزاجية بعيداً عن الحق والاعتدال وأفسد فطرته ووجوده.
وللفساد البشري أشكال وأنواع فمنها ما يتعلق ببيئته المادية الكونية ومنها ما يتعلق بالجانب المعنوي سواء كان النفسي أو الاجتماعي أو تربوي أو غير ذلك، فالإنسان يُفسد في الطبيعة بما يلقي من مخلفات التلوث والتدمير سواء على الأرض أو البحار أو السماء، وكل ذلك يؤدي للخلل فيما سخره الله لخدمته فيدخل عليه المعاناة والشقاء والألم لتكون عقوبة وتنبيه للإنسان، فمثلا تزداد درجة حرارة في ارتفاعها نتيجة التلوث البيئي فتشح الأمطار وتجف الأرض وتفسد المزروعات وتقل المنتجات فترتفع الأسعار ويضطرب السوق وتصعب حياة الناس ويصاب الاقتصاد بالضعف وينتشر الفقر والبطالة وانتشار الأمراض وكل ذلك يكون من وراء عبث الإنسان وفساده لإشباع رغباته وهواه على حساب صلاح الحياة.
وهناك فساد بالذات البشرية تُفسد أخلاقها وقيمها بالقيم المنحرفة تحت ما يسمى بالحداثة والعولمة فيحدث الفساد الاقتصادي والسياسي والمعرفي والاجتماعي فيقع الإنسان تحت أيدي مجموعة من الناس يتحكمون بها ويفرضون هيمنتهم وقوتهم على العالم ليُصدروا لهم من مبادئهم وقيمهم ما يشاءون، دون شعور ولا تفكير ولا إعادة مراجعة خصوصاً إن وجدت اتفاقيات ومنظمات دولية تسن القوانين وتحتم على من ينضم إليها الالتزام بها.
المجتمع الإسلامي يتمتع بحضارة وقيم ومبادئ قامت على المنهج القويم الصالح لحياة البشرية جمعاء صالحة لمعالجة كل مشكلات البشرية وتتمثل بنظام عالمي جديد فيكون الموجه لعولمة القيم والأخلاق الحديثة، فالأمة العربية والإسلامية أحق بالقيادة العالمية لقيم الناس وأخلاقهم وهي ولدت لذلك لكنها اليوم نسيت وفرطت بدورها ودينها وعقيدتها فحُرمت قيادتها للعالمية ووقعت ضحية وتبع للآخر المنحرف المنهج والسبيل.
وقد بُعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم ليُحارب الفساد وانتشاره في بيئة قد تعالت بظلمها وقهرها للشعوب وعيثها وفسادها في كل جانب، ونشر الانحرافات والاضطرابات في العلاقات الاجتماعية بين الناس حتى كاد أن يهلك الجميع منها، فبُعث الهادي ليهدي البشرية لما فيه صلاحهم ونجاتهم ويمسح ميراث الضلال والجهل والسلوكيات المنحرفة للفساد من قلوبهم ويقيم منهج قيمي صالح لكل مناحي الحياة قائم على الحق والثبات والإصلاح والعمارة في الأرض.
واتبع صلى الله عليه وسلم بنهجه الذي تلقاه عن ربه وعلَمه إياه وأدبه عليه لمعالجة الفساد في المجتمع باللين والشدة فحرص على مراعاة حقوق الناس وكرامتهم وإنسانيتهم فكان رحيماً ليناً لا يقسو في دعوته وخطابه يسمع وينصت لخصمه ثم يحدثه بمقدمة تذهل الألباب فيعجب كل من سمعه حتى لو لم يؤمن به وكان شديداً في الحق ومحاربة الظلم على الآخرين فيسعى جاهداً لنصرة الحق ورفع راية، فعلم صحابته رضي الله عنهم وعلم أمته والبشرية كلها علو القيم والأخلاق التي لم يأتي ولم يتعلمها أحدُ من قبل ولا بعده عليه الصلاة والسلام.
وجاء القرآن الكريم لينبه الإنسان ويعلمه ويحذره وينهاه عن كل ما يؤدي للفساد وأمره بالسعي لكل ما فيه صلاحه وإصلاحه، فعرض صوراً متعددة أظهرت تنوع الفساد في الحياة البشرية، وضرورة الحذر من الوقوع فيه وعاقبة من يسير إليه وبينت شخصية وسمات الفاسدين، ولماذا يُفسد الإنسان حياته وبيئته وهل كل فساد مقصود من الإنسان وهل تقع العقوبة والابتلاء بسبب فساد للإنسان، وكيف يعالج الفساد وتقتلع جذوره.
وفيما يلي آيات القرآن التي ذكرت فيها كلمة الفساد سنقوم بعرضها وتدبرها واستخلاص النتائج والفوائد منها لنستفيد في جوانب حياتنا كلها وخاصة بعد أن نكون عَرفّنا ذلك المفهوم وضرر انتشاره بين الأفراد والمجتمعات.
إنكار وتبرير للفساد
بدأ القرآن الكريم من مطلع آياته في سورة البقرة بذكر صفات الإيمان المحقة الثابتة التي يجب أن يتبعها الإنسان ليكون من المفلحون ثم أسهب بعدها في بيان صفات الفاسدين المفسدين من أهل النفاق والكذب مما جعلهم الخاسرين ولم يكونوا من المهتدين وأنكروا على أنفسهم أن يكونوا من المفسدين.
فقال تعالى
( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)البقرة
الإنكار لما تتصف به الذات وما تنتهجه من سلوك وتخفيه عن وعيها وإدراكها ، فتنطلق في تعاملاتها بمنهج الضلال والنفاق والميل للشهوات والسعي لتحقيق المكاسب الدنيوية وتلبية حاجاتها الشهوانية بأي أسلوب حتى لو تطلب الأمر نكران الهوية المجتمعية التي ينتمي إليها كهوية الإسلام، فيسعى في الأرض مفسداً مدعياً الصلاح لجميع مناحي الحياة فيبطل الحق الذي أراده الله ليُثبت ويستعين بمنهج الكفر لزرع قيمه في ديار المسلمين تحت مسميات تتغطى بالإصلاح والتحديث، فأهل الحق اليقين من الناس من يحكمون على ما يشاهدونه من أفعال وما يخرج منهم من نتائج في المجتمع فيسعون للنصح والإرشاد والصد عن انتشار الفساد بأنواعه، فاستخدامهم التبرير الأعمى للدفاع عن ضلال نفوسهم وما فيها من سوء هذا من أولى إشارات الفساد النفسي، ولكن الله يفضح حقيقتهم ويؤكد فساد قلوبهم وانحراف جوارحهم ومرضها لأنهم لا يشعرون بالحق ولا يعلمونه ولم تدركه قلوبهم وأبصارهم ليميزوه عن الباطل الفاسد.
الإنسان خلق للإصلاح
ثم يبن الله سبحانه وتعالى في حواره مع ملائكته وإخباره لهم عن خلقه خليفته في الأرض وعلمه المسبق بما سيكون من هذا المخلوق الذي إن علم قدر ما وهبه الله من العقل وأحسن تشغيله للنفع في الحياة سيرفع شأنه ومقامه ليكون أفضل من الملائكة التي سجدت له بأمر ربها لما سيحققه من الصلاح وإعلاء للحق
يقول الله سبحانه
( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)
الملائكة بعلمها المحدود خشيت أن من سُيخلق في الأرض سيكون مُفسداً وساعياً لسفك الدماء فهي قدّرت وقاست ذلك بأفعال من سكنها سابقاً قبل خلق الإنسان بما كان منه من فساد والقتل وسفك الدماء ولم يحقق غاية وجوده من العبودية والإصلاح، فاختار الله خليفته من آدم عليه السلام وذريته وهو يعلم سبحانه بعلمه المسبق ما كان وما سيكون فهو الحكيم المتصرف بكل شيء حسب ما ترتئه إرادته فيقدره بقدره ومشيئته، علم الله وهو الخبير بصناعته أن الإنسان فطرته مجبولة على الخير والصلاح وبامتلاكه للعقل والمعرفة سيهتدي إليها ليكون مصلحاً معمراً للأرض مقيماً لشريعة ربه ومحققاً خلافته، وإن انحرف عن فطرته بضلال عقله وفساد معرفته وعلمه فسوف يؤدي بنفسه للوقوع في الفساد وإحداث ما خشيت منه الملائكة، فالإنسان خلق ليجاهد نفسه ما بين شهواتها وميولها نحو نوازع الجسد وما بين الروح وعلوها بالعقل والمعرفة الحقيقية وضبط نوازع الهوى والشهوات، فالغاية من وجوده ليُوحد ربه ويعبده بعمل الصالح ويقيم الحق والعدل ويحفظ أمانة ربه باستغلال عقله وإرادته وعلمه بما يُصلح الأرض ويُعمرها ويُحارب كل يُفسد فيها.
كبر وإصرار على الفساد
ثم يبن مشهد آخر للفساد من خلال استمرار الإصرار عليه والتولي عن سماع الحق فيقول الله سبحانه
( وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)البقرة
( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)ال عمران
(وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)يونس
الأصل فيمن يسمع الحق ويعرفه أن ينتهج نهج الصلاح والإصلاح للخير ويحفظ مقومات الحياة وتطويرها لتنتفع البشرية منها، لكن بعض الناس ممن تُلقى عليهم آيات الله وكلمة الحق يجعلون أصابعهم في آذنهم و يُولوا معرضين متكبرين بإعطاء ظهورهم للحق ويقدمون أمامهم الباطل فيتحركون في الأرض نحو قتل مقومات الحياة وعدم نموها بإهلاك حرثها ونسلها ليعُم الفساد والدمار في الأرض، فأعظم مقومات البقاء الإنساني أن يستمر التزايد والنمو السكاني وأن يتحقق الأمن الغذائي ومنهما تسعى البشرية لتحقيق باقي مقومات وجودها إن توفرت الطاقة البشرية والعلمية وتوفر الغذاء بالزراعة والفلاحة للأرض فالله لا يحب الفساد المخالف لغاية خلقه و يحب أن يرى حركته بالأرض نحو الصلاح والإصلاح فيها لكن بعض الناس يظهر بقوله وحركته الصلاح وفي الخفاء يخطط لينتج ما يُفسد الناس ويُدمر حياتهم ويُبيد وجودهم بصناعة الأسلحة الفتاكة المُدمرة لكل حجر وشجر وبشر وإهلاك لنفوس وقلوب الناس بما يبث من قيم وسلوكيات تخالف الفطرة الإنسانية.
صورة بأبشع الفساد
ثم يبن سبحانه أبشع صور الفساد من بني إسرائيل الذين أُمروا بأن ينتهوا عن قتل الناس والاعتداء على حق البشرية في الاستقرار وخلوها من الأمراض والانحرافات
فقال تعالى
( مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)المائدة
سنه وضعها الله على بني إسرائيل بتعظيم قتل الإنسان وحرمانه من حق الحياة التي قُضيت له، سواء كان بقتل حقيقي بالموت الجسدي أو قتل معنوي ونفسي، وقد توعد الله بني إسرائيل كونهم من سيصنعون الفساد للناس وينشرونه على أشكاله المتنوعة في الأرض، وسعيهم لقتل الناس واستيلائهم على حقوقهم بغير حق وتحذيرهم أن ينتهوا عن عظيم فعلهم ببيان الجزاء لمن يُفسد بقتل نفس واحدة وتبشيرهم بالثواب لمن يسعى لإصلاحها وإعادتها للحياة بكمن أحيا الناس جميعا أو قتلهم جميعاً ، فهذا حكم الله وقضائه وأمره لبني إسرائيل خاصة لعلمه المسبق أنهم سبب الفساد العظيم في الأرض وتحذير المؤمنين من إتباع فسادهم وشرورهم وتوغلهم بين المجتمعات ولقد نجحت بفسادها لحياة الناس في كل زمان لكنها لم تقدر على تحريف القرآن الكريم وإفساد إيمان المؤمنين حقا.
النزاع والانقسام أخطر الفساد
ثم بين سبحانه أهم سبب للفساد في حياة المسلمين وهو بُروز النزاعات والخلافات لتقطع عوامل التواصل فيما بينهم
فقال تعالى
( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)الأنفال
الوحدة قوة مهما كانت انتماءاتها الحزبية والفرقة والتنازع والتناحر ضعف وهوان وإن كان أصحاب ملة واحدة، أشد الخطر على المسلمين أن يتفرقوا ويوالوا أعداءهم من الكافرين ليحاربوا بعضهم بعضاً فيفتحوا ديارهم للأعداء ليعيثوا فسادهم وأطماعهم فيها، وأن يعينهم الأعداء على قتل بعضهم بعضا بتزويدهم بالأسلحة والدعم للتقوى على أنفسهم، والسبب من وراء ذلك العصبيات العمياء ونصرة المبادئ والقيم الحزبية والعقدية المستمدة في كثير من الأحيان من جهل وتخلف، فكون المسلمين منضمين تحت راية التوحيد الواحدة وتسير على إتباع منهج نبي واحد لماذا تحدث الخلافات التي تؤدي للدمار للجميع والاستعانة بالأعداء، ألا يقدر المسلمين على حل نزاعاتهم وخلافاتهم فيما بينهم بمنطقية وعقلانية إسلامية بعيداً عن فتن الكافرين،لكنها المصالح والأهواء إن غلبت القلوب الضعيفة وقع الجميع ضحية الفتن والفساد، وللأسف يبقى الكافرين يعلمون مصدر قوتهم وثباتها من خلال توحيد جهودهم وأفكارهم وقلوبهم على قيادة واحدة مما جعلهم ينتصرون في كل ميادين الحياة ويحدثون التغير في الجميع ويؤثرون على المسلمين ويفسدون الكثير من قيمهم ومنهج حياتهم.
فساد الأمم السابقة
ثم بين الله سبحانه ما كان من الأمم السابقة التي أفسدت حياتها ومن حولها فاستحقت الهلاك والاندثار وعاقبة السوء بقول الله سبحانه وتعالى
( وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)الأعراف
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)الأعراف
فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)هود
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36)العنكبوت
إن الأمم السابقة لبعثة النبي محمد صلى لله عليه وسلم أرسلت لهم الرسل تترا مصلحين لفسادهم وانحراف منهجهم ، لكنهم عاندوا وحاربوا حركة تغير الأنبياء للإصلاح واتبعوا ترفهم وشهواتهم فكان عاقبتهم الهلاك والدمار لفساد قلوبهم وأفعالهم وسكت كل المجتمع وتوحد مع الفساد ولم تخرج فئة قليلة لمحاربته وترشيد الناس ونصحهم من خطر الفساد المنتشر في بيئاتهم وفضل الجميع اللهو والترف بالحياة الدنيا ولو خرجت فئة قليلة منهم تنهى وتحذر من خطر الفساد لنجا بعض من مجتمعهم ولم يقطع دابرهم ولكن خلو الخير في نفوسهم أدى لدمار وجودهم وهلاكهم، ومن أعظم الأمم فساداً وعلواً عبر التاريخ القديم فرعون وملئه ووقوف موسى وأخيه عليهما السلام لتحذيره وإرشاده مما يفسد بالأرض لكنه أبى واستكبر وقال أنا ربكم الأعلى فأخذه الله نكال فعله أشد الأخذ وهلك ليكون لمن خلفه آية ، فيُحذر الله سبحانه عباده ألا يسلكوا طريق ومنهج هذه الأمم الظالمة التي ما أنبتت الخير وليكونوا مثل فئة الصحابة الكرام التي خرجت من بين صناديد قريش وسادتها تتحدى ظلمهم وفسادهم وتحملوا الكثير في سبيل منهج التغير والإصلاح والخير فخرجت منهم أمة خير الأمة سيبقى أثرها حتى قيام الساعة.
الفساد يظهر بفعل الإنسان
ثم بين الله سبحانه وتعالى كيف أن الإنسان هو السبب الرئيسي والأساس لإفساد الأرض فقال تعالى
( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)الروم
( وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26)غافر
( الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12)الفجر
فظهور الفساد في الأرض يدل على أن الأصل أنه لم يكن موجودا فيها، ولكن فعل الإنسان أدى لفسادها وانحرافها فانتشرت الأمراض والكوارث والحروب والنقصان للحرث والنسل كردع لأفعاله الفاسدة لعله يتذكر ويرجع للإصلاح، والإتيان بحاسة الذوق يدل على سوء الفساد الذي وصلوا إليه فاستحقوا أن يذوقوا من جنس ما فعلوه من العذاب، و برز فرعون وقومه بكثرة إظهار الفساد وانتشاره في مناحي الحياة حتى يدّعي الربوبية وإنكاره لكل المعجزات المادية التي حدثت أمام بصره ويصر مستكبراً معانداً وسعى للطلب من حاشيته قتل موسى لخوفه أن يهدم حلمه ونعيمه بإتيانه الإصلاح فيصرف قلوب الناس عن إتباع ضلاله وكذبه وفساده في الأرض، فأراد قطع الطريق عليه بمكر الليل والنهار لكن مكر الله أشد وأعظم فكان فنائه وهلاكه.
الفساد حرب على الله ورسوله
ثم بين سبحانه الفساد من الكافرين من يشعلون الحرب والفتن لمحاربة الله سبحانه ورسوله بكون سعيهم وحركتهم في الدنيا لتحقيق ذلك الهدف والغاية
قال تعالى
( الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)البقرة
( إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)المائدة
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) المائدة
وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)المائدة
الحق في مواجهة الباطل، يقف الباطل ليصد الحق عن الاستمرار والتأثير في قلوب الناس لإحيائها، فيُبذل كل جهد مادي ومعنوي ويُدفع الغالي والنفيس لأجل وقف حركته، فالدوافع النفسية لأهل الفساد قائمة على حب الأنا وميلها للشهوات وتحقيق المكاسب المادية بأي وسيلة واستغلال الفرص المتاحة أو البحث عنها.
هم يحاربون منهج الله والرسول الذي ينظم معاملاتهم ويحقق العدالة والحقوق والمساواة للجميع دون أن يستعلي أحد على آخر، لذا يخافون من هذا المنهج الذي سيقطع عليهم أحلامهم وأمنياتهم الفاسدة لتحقيق علوهم وثرواتهم من حقوق الناس وظلمهم فيعملون على تشويهه والإدعاء عليه بالباطل وما لا يليق به حتى الذات الإلهية وصفوت بألسنتهم الحاقدة بما مرضت به نفوسهم فيدّعون على الله سبحانه ما لا يليق بجلاله وعظمته فهم البخلاء في العطاء الحريصين على المادة وكسبها بالفساد في الأرض، ولله المثل الأعلى هو صاحب العطاء والوسع والزيادة لا نقصان ولا انتهاء لما عنده فكل شيء تحت قبضته لكنهم لا يعلمون.
فساد السريرة الباطنية
ثم يبين الله سبحانه وتعالى الحذر من استغلال الفئة المستضعفة والمهيمنة على حقوقها وخاصة الأيتام الفئة الأضعف بالمجتمع
يقول تعالى
( فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)البقرة
التعامل مع الضعفاء الذين يُضطر أن يُدمجوا بحياة من يكفله فتدخل أموالهم ضمن أمواله بتلبية الحاجات والمصروفات لليتيم لصعوبة الفصل مع الحياة اليومية، فلا يدفعكم الخوف من هذا الدمج بإهمال اليتيم وعزله عنكم وعدم دمجه أو مشاركته في حياتكم أو مجتمعكم خشية من الوقوع في أكل ماله فيصاب بالاضطراب والانحراف السلوكي والنفسي، واحذروا إن شاركتم اليتيم من ميل نفوسكم وانحرافها الداخلي لاستغلال مال اليتيم بأن يَصرف منه على أنفسكم وأهاليكم وحفظ المال الخاص بكم بحجة الكفالة له، فرحمة الله عظيمة أن خفف عنكم ورخص لكم بدمج أموالكم بأموالهم وأن يتعايش اليتيم معكم في كل شيء ولو شاء الله لأعنتكم بمشقة الفصل بينكم وبينه، فلا تستغلوا ضعفه بإفساد ماله الذي سيضمن مستقبله تحت دعوى باطلة وحجج واهية يُقصد من ورائها الاستفادة والسيطرة على هذا المال، ولا تتركوه وتنبذوه بسبب خوفكم الإفساد لماله، فالله يُعز ويرفع من يُعز الضعيف ويُكرمه ويحفظ ماله وُيحسن تربيته وسلوكه، وإن وقع الظلم وأكل ماله وأهلك مستقبله فالله العزيز سيعوضه خيراً مما فقده ويرفع قدره ويؤتيه مما عنده ويهلك آكل ماله بالمذلة والمهانة والخسارة في الدنيا و الآخرة .
حصانة المجتمع من الفساد
ويبين الله سبحانه بقصة ذي القرنين كيفية أخذ الأسباب العملية لحفظ البلاد والعباد من فساد المفسدين الذين يتسللون ليخربوا كل شيء دون أن يقدر أحد على صدهم
قال تعالى
( قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)الكهف
قوة خارجية تهاجم قوم مستضعفين لا يملكون مقومات الحماية لأنفسهم يهاجمون ديارهم فيفسدوا الأرض والديار ويدمروا كل ما صلح للحياة، هؤلاء القوم كانوا مستسلمين لهم ولقوتهم الوهمية إلى أن جاء رجل يحمل من صفات القوة والقدرة ما وجدوا أنه قادر على عونهم وإيجاد الحل لإصلاح وتغير حالهم والحماية من شرور المفسدين، فاستعانوا به للمساعدة في الحماية وعرضوا علية الأموال مقابل أن يبني لهم سداً منيعاً للحماية فلا تقدر أية قوة فاسدة مدمرة على اختراقه والمرور من خلاله إليهم، فرد ذي القرنين عليهم أموالهم وعلمهم درساً لصلاح حياتهم وكيفية منع الفساد للدخول على مجتمعهم بتعاونهم ومشاركتهم فيما بينهم لبناء سد قوي يحيط بهم من كل جانب، فالأخذ بالأسباب وعدم التواكل وانتظار الفرج من السماء دون سعي إليه واستخدام العقل للبحث عن الحلول للمشكلات والجرأة على تطبيقها من يأتي بالنجاة والحماية من غزو المفسدين.
فساد الفطرة الإنسانية
تبين الآيات أبشع الفساد البشري لقوم ضلوا فطرتهم وعقولهم فانحرفوا بعيدا عن طبيعتهم الإنسانية السليمة
يقول الله سبحانه
( وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)
عندما يحاول الإنسان أن يغير فطرة الله التي فُطر عليها للوجود الإنساني السوي، ويعمل على بث الفساد في نفوس الناس وتغير علاقاتهم الإنسانية السليمة فيسعى لقطع سبل استمرار الوجود البشري والتكاثر الإنساني وقطع مقومات القوة البشرية والمادية ليتحول المجتمع للشهوات والملذات الوهمية المحرمة فلا ثبات ولا هوية له وعدم وجود رجل رشيد منهم يحارب المفسدين ويأمر بالبعد عن الانحراف والعودة لصلاح فطرتهم، فبعث لهم لوط عليه السلام فخرج من بينهم لمحاولة أن يردهم عن فساد فطرتهم وانحراف أخلاقهم، فيلاقى بالتهديد بالقتل والتهجير من البلاد وزيادة عناد وكبر لاستمرارهم في الفساد فكان سبباً لقطع دابرهم ووجودهم فما كان للوط عليه السلام له إلا أن يرجوا الله أن ينصره عليهم بعد أن أغلقوا على أنفسهم كل أبواب الرحمة فيطلب من ربه حمايته ونجاته من فسادهم وفتن قلوبهم فأهلكهم الله بالريح العاتية.
عدم تسخير النعم للفساد
يبين الله سبحانه وتعالى أن لا تستخدم نعمة التي يهبها للعباد من أجل الفساد فيتحرك بها لأجل الإتيان وتحقيق الفاسد ويبطل الحق، فالأصل أن يكون الحمد والشكر لله على نعمه بتسخيرها للخير والعمارة في الأرض
يقول الله سبحانه
( وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) البقرة
وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)القصص
وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)الأعراف
الصلاح يقام بميزان السواء فلا مغالاة في التعامل مع الأمور بإفراط أو تفريط، ولا تنازع على الملكيات ولا تحاسد وتباغض، فكل إنسان ينال من فضل ربه ما يقدره الله ويُقوم به حياته، فمنهم من يُفتح له أبواب الخيرات الواسعة ومنهم من يقتر عليه ليبقى الإنسان مسخر لخدمة غيره.
فما على الإنسان إلا لسعيه بكل ما أوتي للفائدة والنفع له ولمجتمعه ولا يسعى للفساد وبطلان الحياة وتعميمه على المجتمعات ليصبح سنة متداولة تؤدي للهلاك ، فالإنسان يأخذ نصيبه من الدنيا ويجعل مبتغاة الآخرة للفوز بها، فهذه وصية موسى لهارون ووصية جميع الأنبياء لأقوامهم ووصية النبي صلى الله عليه وسلم لأمته أن تكون أمة قائمة على الإتيان بالإصلاح وإنباته بين الناس ومحاربة الفساد وقطع جذوره من الأرض.
فساد فرعون الطاغية
ويبين الله من خلال عرض قصة موسى مع فرعون الطاغية وكيف استمر في فساده رغم رؤيته للمشاهد والمعجزات المادية
يقول الله سبحانه
فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (يونس
آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)يونس
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)القصص
فرعون الطاغية صاحب النفسية المتعالية القاهرة لغيرها من الضعفاء، تمّلكه الكبر والغرور ليؤله ذاته ويتخذ لنفسه صرحا يتعالى بالظلم والعدوان، استخدم الوسائل المادية والنفسية لأجل أن يحقق سطوته وإرهابه واستضعاف الناس من حوله والحفاظ على عرشه وملكه، بعث الله موسى إليه لعله يتذكر حقيقته أو يخشى فيحذره وينذره وأظهر له المعجزات المادية المحسوسة ليراها أمام ناظريه، فيزداد عناداً وكبراً وإصراراً على الفساد واستمع لصوت الباطل، واستخدم السحر والسحرة ليتحدى معجزات موسى عليه السلام ويظهر علوه عليه، ولم يعلم أنه مؤيد من ربه ومصنوع على عينه فأبطل الله سحر فرعون وفضح زيف معتقده وسرعة بطلانه وفساده وعلا الحق عليه ليخترقه ملتهماً بشدة العذاب، فالمفسد الذي يسعى لهدم معالم الحياة السوية ويبث فيها الانحراف والاضطراب والقتل والتدمير لا يُقبل عمله ولن يجعل الله عمله يُخرج الصلاح لأنه باطل ولا يتساوى مع ما يُهدف له من الصلاح في الأرض.
الفساد الاقتصادي والاجتماعي
يبن الله سبحانه كيف تحفظ حقوق وأموال الناس وتقدر ممتلكاهم بأمانه وصدق دون تدليس وكذب
يقول الله سبحانه
وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)هود
وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183)الشعراء
الرقابة النفسية الداخلية القائمة على التقوى والخارجية القائمة على وجود العدل والميزان الحق بإعطاء الحقوق وتقديرها لأصحابها دون بخس للحقوق والتقليل من شأنها والإشاعة بين الناس أنها لا تناسب ذلك التقدير والثمن مما يؤدي لركود اقتصادي وإفساد لمصالح الناس واحتكار للبضائع والتلاعب بالأسواق وأسعارها حسب ما يتناسب مع مصلحة التاجر ولا تقدر عليها أحوال الناس المادية.
إن بخس الشيء للتقليل من قيمته وسعره وحجمه في السوق رغم أنه يُقدر بأكثر مما قدر، فالبخس يكون إما من التاجر أو المستهلك وهو نوع من السرقة للحقوق والأملاك الخاصة بالناس وتخريب لمصالحهم وأشياءهم مما يؤدي لوجود اضطرابات اجتماعية ومادية كبيرة بين أفراد المجتمع مما يحول أن لا يستقر المجتمع ولا ينمو ويتطور بما فيه مصلحة الأمة والجماعة ويحدث الفساد الأخلاقي وانحراف القيم الذي يؤدي لفساد مالي واقتصادي إما بتكدس الأموال واكتسابها بغير حق في أيدي فئة من الناس، أو الاستهانة والسخرية بتجارتهم وتحقيرها وضربها بالسوق لينكسر العمل التجاري والاقتصادي.
جزاء المصلح والمفسد
ويبين الله سبحانه وتعالى جزاء ومصير كل من ينتهج نهج الصلاح في حياته ومسيرته على الأرض ومن يتخذ الفساد سبيله ومنهجه طوال حياته
يقول الله سبحانه
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)القصص
أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)ص
الجزاء العظيم والفوز الكبير لمن اتقوا ربهم في صلاح أعمالهم وأثره في الأرض وبعدها عن إي فساد وإفساد، ومن تقوم إرادتهم وتتجه بمحاربة المفسدين، أما من ارتبط نواياهم بالأعمال الخبيثة الفاسدة التي تهلك حياة الناس وتعيد بأثره عليهم ويسعون بأنفسهم نحو العلو الدنيوي والسعي لمناصب الحكم والملك وينتفشون غروراً وكبراً باستعلائهم على حقوق الناس، لا يستوي عمل المصلح والمفسد عند الله، فالمصلح عرف مهمته وهدف خلقه واستغل ما وهبه الله من العقل والعلم للاهتداء لطريق الحق ومحاربة كل عقيدة أو فكر أو سلوك و أفعال تخالف ما شرعه الله ويأتي بفساد لحياة الناس وبطلانها مما يؤدي لهلاكهم الدنيوي والأخروي فالمصلحين عاقبتهم الخير والهداية لقلوبهم وثباتها على التقوى، أما من فجروا في أخلاقهم وأعمالهم بالفساد في الأرض لهم عاقبة السوء والعذاب الشديد والضلال والخزي في الدنيا والآخرة .
الخلاصة:
من خلال ما سبق من تأملات يتبين أن موضوع الفساد ارتبط بعدة مفاهيم ومعاني فكان أكثر المفاهيم بروزا المفهوم المناقض للفساد وهو الصالح والصلاح وإصلاح و الصالحين والمصلحون ليدل على أن كل شيء فطر صالحا في أصله وما يدخل عليه مخالفاً له مما يؤدي لبطلانه فيجعله فاسدا.
- ظهر مفهوم الإسراف الذي دفع الإنسان نحو إهلاك نفسه وإغراقها بالفساد بتقصيره بحق نفسه وحق مجتمعه، والإفساد إن استمر في انتشاره دون وجود فئة صالحة تدعوا للبعد عن الفساد ومحاسبة المفسدين ومراقبة أصحاب المسؤوليات سوف يؤدي للهلاك الجماعي.
- من يُعرض عن استماع الحق وإتباع طريق الخير والصلاح وتولى مدبراً يسعى ليعيث في الأرض الفساد لكل شيء فمنهجه يعارض منهج الحق والخير.
- الفتن تظهر من خلال اختلاف النفوس التي تتبع الشهوات والأهواء وتقوم على الفرقة والخلاف وإتباع الأعداء ضد الإخوان في لحظة يجمع فيها الكافرين.
- الكسب القائم على الفساد يعود على صاحبة بفساد حياته وإيقاع العنت والعذاب فيها حتى يعود لكسب ما فيه الخير والصلاح.
- محاربة الله ورسوله بالصد عن إتباع منهجه ورسالته والإتيان بمناهج دنيوية تقوم على الظلم والفساد والأهواء يأتي بالعذاب العظيم لأنه من أعظم ما لا يحبه الله.
- الرقابة الداخلية والنفسية في رعاية المستضعفين خاصة اليتامى بعدم استغلال ضعفهم والاستيلاء على حقوقهم.
- استمرار المعاصي والذنوب من أكثر ما تغرق الإنسان بالفساد.
- استغلال المستضعفين من الناس والهيمنة على حقوقهم وحرمانهم من الحياة الكريم، وقتل أبنائهم واستحياء نسائهم هذا ما اتصف به فرعون مما دعي لهلاكه وفقدان سلطانه وسيكون سبباً لهلاك من يتبع منهجه من أصحاب السلطة والسلطان الظالم.
- حتى يتحقق النمو الاقتصادي والحفاظ عليه لأجل تطور المجتمع وبنائه في كل الجوانب الأخرى يجب أن تقوم العدالة الاقتصادية والأمانة في التعامل والتداول الاقتصادي وعدم السيطرة على أموال الناس وحقوقهم وعدم بخس الناس وتقليل شأن استثماراتهم وفرض العقوبات عليها.
- تغير فطرة الإنسان التي خلقها الله عليها فيسعى الإنسان ليغير جنسه من ذكر لأنثى أو العكس أو استنساخ بشري كامل دون حاجة وبطرق محرمة، وتغير شكل الجسد كلون البشرة وتقسيم الجسم.
- غياب القيم الأخلاقية يؤدي لفساد اجتماعي واقتصادي وسياسي مما يهلك المجتمع كافة.
الصفات الشخصية للمُفسد
- الإنكار والتبرير والكذب
- الكبر والعناد والإصرار
- التولي والإدبار والإعراض
- إشاعة الفرقة والنزاع
- يتبع لغيره بسهولة من المفسدين
- محاربة الحق وتشويهه
- غياب الضمير والرقابة الذاتية
- عدم توخي الحذر مما يفسد
- تشويه الفطرة وإفسادها
- استخدام النعم للفساد
- فساده الاقتصادي والاجتماعي
التوصيات:
- التربية على الأخلاق والإصلاح والسعي إليه منذ مرحلة الطفولة المبكرة ولحرص على حفظ ممتلكات العامة والآخرين.
- سن القوانين والعقوبات التي تمنع من انتشار الفساد والمفسدين لتكون وسيلة رد له وحفظ للمجتمع.
- سيادة العدالة وإنصاف الحقوق يبعد الناس عن السعي في طرق الفساد.
- تعين أصحاب الأخلاق والأمانة العالية لتوضع في أيديهم أمانة الناس والحكم بينهم.
- التوعية بخطر الفساد وطرقه وأنواعه لجميع فئات المجتمع.
- تعويد الناس على الجرأة في الكشف عن أي فساد يحيط بهم والإعلان عنه.
- التصدي لكل ما يدخل على المجتمع ووضع الحصانة والسد المنيع ضد اختراق قيم المجتمع وصلاحه.
- وضع رقابة دائمة على المسئولين وأصحاب القرار لمعرفة ممتلكاتهم وثرواتهم والمساءلة عليها.
- رفع الحصانة عن المسئولين ليكونوا كالمواطنين معرضين للعقوبة والتساؤل.
- المؤسسات والعمل الجماعي والمشاركة المجتمعية لتحسين المجتمع وتطويره.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت