ثلاث خطوات للخلف / د. أسامه الفرا

بقلم: أسامه الفرا

حواديت ...


أصدرت منظمة "مراسلون بلا حدود لحرية الصحافة" تقريرها السنوي، وجاءت فلسطين في المركز 153 ضمن التصنيف العالمي لحرية الصحافة، من بين 179 دولة شملها التقرير، وبغض النظر حول الأسس التي تعتمدها المنظمة في تقييمها، إلا أن فلسطين تراجعت ثلاث درجات عن مكانتها في العام الماضي، وكون الأمر يتعلق بحرية الصحافة وما له من علاقة بالإعلام الذي بات مكوناً أساسياً في بناء الشخصية وبلورة الفكر والوعي لدى المواطن، فمن الطبيعي أن يفرض علينا هذا التقرير التوقف حياله بكثير من الجدية والمسؤولية، ومن الجهل أن نكتفي بسرد تبريرات وحجج لا تستقيم مع مكانة فلسطين المتأخرة بين الأمم فيما يتعلق بحرية الصحافة، فقد يذهب البعض لتحميل الانقسام المسؤولية المطلقة عن ذلك، وكفى الله المؤمنين القتال، وإن كنا نتفق على أن الانقسام يتحمل جزءاً غير يسير من ذلك، إلا أنه ينأى بنفسه عن تحمل كامل المسؤولية.


 


مدير مركز الإعلام الحكومي د. غسان الخطيب عقب على التقرير قائلاً " أن هنالك خلط في المنهجية التي اعتمدت في إصدار التقرير، حيث لا يجوز الخلط بين ما يجري في قطاع غزة بما يجري في الضفة الغربية في قالب واحد"، وغزة قد تدعي بأن الوضع لديها "عال العال"، وهذه المكانة المتأخرة تتحمل مسؤوليتها الضفة الغربية دون سواها، هذه الاسطوانة باتت مشروخة من كثرة ما تم تشغيلها، فإن كان الانقسام وتداعياته كرس مناخاً غير إيجابي فيما يتعلق بحرية الصحافة، وإن كان التعدي على حرية الصحافة بنسب متفاوتة بين شقي الوطن، إلا أن المؤكد أن المكانة التي نتواجد فيها لا تشكل فخراً لأي منهما، بل تجعلنا نخجل أمام دول تتقدم كثيرا عنا في هذا المجال ولا تمتلك ما نمتلكه من مقومات تفرض علينا إفساح المجال لحرية الصحافة والتعبير.


 


وإن كنا نرى في هذه المكانة ما يسيء لنضالنا وتضحياتنا ولا يتماشى البتة مع سعينا للحرية، فمن الضروري أن نصارح أنفسنا بأننا لا نمتلك صحافة وإعلاماً حراً، بل لدينا صحافة حزبية بامتياز، تنظر لقضايا الوطن من منظورها الحزبي، ولا تتوفر في هوامشها مساحة ولو صغيرة للرأي الآخر، وما يحكم عملها يقتصر على التمجيد والتعظيم والتهليل والتطبيل لإنجازات راعيها، وفي ذات الوقت تخصص مساحات واسعة للقذف والتشهير والسب واللعن لمن يخالفها الرأي، فقد بتنا أمام صحافة تميزت بأدبيات الردح دون توفر الحد الأدنى من الضوابط الأخلاقية والقانونية، وضمن هذه البيئة المسمومة بات الإنجاز الحزبي ليس بتقديم الأفضل للمواطن، بل بكشف عورة الآخر، إن حرية الصحافة هي "تيرمومتر" حرية الرأي والتعبير، وبالتالي يمكن لنا القول أن ما يحكمنا إعلامياً اليوم هو قاعدة " رأيي على صواب ولا يحتمل الخطأ ورأي غيري على خطأ ولا يحتمل الصواب"، حتى وإن كانت القناعات الداخلية غير ذلك، ويخطئ من يعتقد أن بإمكانه تجميل واقعه بهذه الفلسفة الإعلامية، وهذا بالتأكيد انعكس على سلوكنا حيال الغير، فكل منا يعتقد أنه يملك الحقيقة كاملة، وأنه المدافع الحصري عن الأرض والإنسان والهوية، وبالتالي كل من يغرد خارج مفاهيمنا وأدبياتنا فهو خارج الصف الوطني.


 


المعيب في الأمر أن صحافتنا لا تتسع للرأي الآخر من بني جلدتنا، فيما نتسابق جميعا في التقاط ما تبوح به الصحافة الإسرائيلية عن واقعنا الداخلي، والتي في أغلب الأحيان لا تمت للحقيقة بصلة، وغالباً ما تتم صياغتها وكتابتها داخل أجهزة أمن العدو لغرض في نفسها، وعادة لا نكلف أنفسنا تمحيص ما جاءت به صحافة العدو، وننقله كما هو على طريقة النسخ واللصق، فإن كان صدرنا يتسع لما تقوله صحافة الاحتلال من أكاذيب عن شؤوننا الداخلية، فكيف يضيق بسماع النقد والرأي الآخر ممن يخالفوننا الرأي من أبناء جلدتنا؟، الاختلاف في الرأي ليس ظاهرة أو سمة عابرة، ولا يمكن بأي حال من الأحوال محاصرة الرأي الآخر حتى وإن تفننت القدرات البوليسية في تكميم الأفواه، فالكلمة لا تقتلها القوة ولكن تحاصرها الحجة، ومن يعمل على مطاردة الرأي الآخر ووأد الاختلاف يجافي معتقداتنا لقوله تعالى " ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين"، من الواجب علينا جميعاً أن نستخلص العبر مما حدث في محيطنا العربي حين تهاوت المنظومات الإعلامية الناطقة باسم الأنظمة، ومن قبلها أجهزة القمع الأمنية أمام رغبة الشعوب في التعبير عن رأيها.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت