أذْكر حين كنت طفلاً صغيراً-وذاك الزمن ليس ببعيد فهو لا يتعدى مطلع ثمانينيات القرن الماضي- طيفاً جميلاً للوحة مجتمعية رائعة تُمثل قيم وأصالة المجتمع الفلسطيني من خلال العمل التطوعي، حيث كان الشباب يتسابقون في خدمة المجتمع الفلسطيني وعلى كل الأصعدة، فنجد هنا الشباب الفلسطيني ينشط في تنظيف الشوارع وتجميل الحارات والأزقة بإمكانياتهم المادية البسيطة، ونجدهم هناك يتسابقون في مساعدة مزارع فلسطيني لغرس أشجار الليمون والبرتقال ويكون المقابل : كلمات شكر بسيطة، ودعوات من أُمٍّ فلسطينية صادقة، وبضع أكواب شاي تتوزع على الشباب المنهك من العمل والمنتشي بقيمه وأخلاقه وأيضا بسعادة المزارع الفلسطيني، فتتشكل لوحة فنية رائعة للمجتمع الفلسطيني بمنظومته القيميّة الرائعة وبساطته وطيبته وعزة نفسه وأنفته في الوقت ذاته.
وبالعودة إلى الوراء قليلاً نجد أن "العونَة" كانت مثالاً رائعاُ للعمل التطوعي في المجتمع الفلسطيني، وكان هذا المصطلح يَحْضُر بقوة في موسميّ حصاد القمح وقطف الزيتون، حيث كانت تتشابك أيادي كافة مكونات المجتمع الفلسطيني من رجالٍ ونساء، شباب وشيوخ، معا في حصاد وقطف خير الأرض الفلسطينية المباركة.
بل أنَّ التنظيمات الفلسطينية كانت تتسابق في العمل التطوعي من خلال لجانها الشبابية التطوعية، وكانت تبدع في خدمة المجتمع الفلسطيني بالرغم من قلة الإمكانيات وشح الموارد، وبالرغم من إجراءات الاحتلال الإسرائيلي، والتي كانت تحاصر وتمنع نشاطات تلك التنظيمات التطوعية، وكان العمل التطوعي حاضراً وبقوة وبمبادرات ذاتية نابعة من القيم الفلسطينية دون انتظار جهة مانحة لتعقد "تدريب مكثف" في أفخم فنادق فلسطين عن مفهوم العمل التطوعي للشباب الفلسطيني!!
مشهدٌ مغاير ... الإطار أسودٌ فاحم، خلفية اللوحة هتافات وأصوات لعوالم غير مرئية، الطيف مشوّه مسخ، الصورة معكوسة الألوان والأبعاد! فما الذي يحدث في المجتمع الفلسطيني؟! ولماذا ذوت وتلاشت قيم مجتمعية عليا في السنوات الأخيرة! ولماذا تم استبدال وإحلال تلك القيم الجميلة بقيم أخرى مستوردة مشوّهه خارجة عن منظومتنا القيميّة!! لماذا فقد العمل التطوعي بريقه الأخلاقي كقيمة مجتمعية مميزة لنا؟ وأضحت علاقاتنا وقيمنا محكومة بحجم ونوع استفادتنا الذاتية منها بغض النظر عن توافقها او تعارضها مع منظومتنا القيميّة.
نعم، لقد أضحت قاعدة التعامل بيننا هي "المصلحة المتبادلة"! والأمر قابل للقياس بقيم مجتمعية أخرى تواجه ذات مصير العمل التطوعي! فهل نحن في مرحلة استلابِ القيم؟؟ أم هو خواء قيَميّ مجتمعي؟ والطبيعة تأبى الفراغ والخواء... فحلت قيم أخرى -لا تَمُت لثقافتنا وأصالتنا بصلة- محل قيمنا الأصيلة؟ وهل هي عقدة "تقليد المهزوم للمنتصر" والتي تحدث عنها مؤسس علم الاجتماع ابن خلدون في مقدمته منذ حوالي سبعة قرون خَلَت؟
وان كان الأمر كذلك فهل سنحيط أنفسنا "بهالة ملكية" اكثر من الملك نفسه! فجميع المجتمعات المتقدمة -حتى وإن كانت رأسمالية بامتياز- فإنها تحرص كل الحرص وتبذل مؤسساتها الرسمية والأهلية جهوداً كبيرة للحفاظ على منظومة قيمها الأخلاقية والمجتمعية ومن ضمنها العمل التطوعي، واذكر في هذا المجال، وعلى سبيل المثال لا الحصر، لقاء عمل كان لي في العاصمة البلجيكية بروكسيل، حيث توجد دائرة كاملة في مجلس محلي "مولينبيك" خاصة بالعمل التطوعي، ولها نشاطات تطوعية يومية وأخرى مركزية وتضم آلاف الأعضاء من كافة الفئات العمرية والمستويات الاجتماعية، فكان سؤالي لعضو المجلس المحلي ومنسق الدائرة عن سبب إنشاء الدائرة وسر الاهتمام الكبير فيها في مجتمع رأسمالي قائم على المنفعة الشخصية، فكانت الإجابة أن هذه الدائرة هي جزء من كفة الميزان الأخرى لتحقق التوازن المجتمعي ما بين القيم الرأسمالية المادية والقيم المجتمعية الإنسانية العليا!
وبالعودة إلى مفهوم استلاب القيم، نجد أن هذا المفهوم بدأ يتسلل إلى منظومتنا القيمية ككل، فالاستلاب عملية نفسية، الهدف منها تحويل وعي الإنسان والمجتمع إلى نقيض ما يجب أن يقدمه هذا الوعي لخدمة الإنسانية، وفي تعريف الاستلاب يقول الفيلسوف والروائي الروسي "ليو توليستوي" (الاستلاب حالة تخترق فيها وعي الإنسان معلومات غريبة ودخيلة ليمارس سلوكيات غير معتادة تستحوذ على تفكيره، فتجرده من قيمه ومن إمكانية التخلص منها)، ويضيف الفيلسوف الألماني "هيغل" بأن (الاستلاب هو الانشطار بين المثال الأعلى الذي ينيره العقل، وبين الوجود الحسي للإنسان الذي تقوده الغرائز، بحيث يفقد الإنسان وجوده الجوهري) .
وهنا لا بد من التحذير من خطورة استلاب القيم في المجتمع الفلسطيني، لأن ملامح هذا الاستلاب البشعة بدأت بالظهور من خلال تراجع المنظومة القيمية لصالح قيم أخرى قائمة على أسس ومبادئ خارجة عن أصالة شعبنا الفلسطيني، وعن المثل العليا التي كان يفاخر بها المجتمع الفلسطيني العالم أجمع وإحلالها بقيم غريبة استلبت روح المجتمع الفلسطيني.
وبما أن الاستلاب لا يتم إلا بانتفاء احترام الذات والكينونة، فإنه لزاماً على صنّاع القرار في المجتمع الفلسطيني من مؤسسات رسمية وأهلية العمل معا لاستنهاض الطاقات والهمم من أجل تدعيم منظومتنا القيميّة من خلال تعزيز ثقة المجتمع بنفسه أولا، ومن ثم بقيمه ومثله العليا، وكذلك بقياداته على المستويات الرسمية والأهلية على حد سواء، من أجل التحرر من حالة الاستلاب القيميّ هذه وردم الفجوة ما بين الإطار النظري للمنظومة القيميّة والسلوك القائم على الأنا الدنيا، والذي سيؤدي بنا بالضرورة إلى "شيزوفرينيا مجتمعية"، والتركيز على احترام الذات والكينونة، وصولاً إلى التحرر من محنة الاستلاب من خلال تعزيز الوعي والثقافة الوطنية غير المتماهية والذائبة في ثقافات استلابية، وأيضاً من خلال احترام الذات وتقديرها، ورفض كل ما من شأنه أن يُحَقِّرَ انتماءنا وأخلاقياتنا وثقافتنا وقيمنا .
بقلم : مؤيد عفانة/ ناشط في المجتمع المدني
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت