قوة الإرادة...وصناعة الذات/ آمال أبو خديجة

بقلم: آمال أبو خديجة

كثيرون من ولدوا في بيئات صعبة لا توفر لهم مقومات النجاح والتمييز لكنهم تحدوا صعابهم وأزماتهم وظروفهم المحيطة ليفاجئوا العالم أنهم أحدثوا أعظم التأثير والنجاح والتمييز، فكانوا من أوائل من ساهموا في صناعة الحياة وتأثيرهم في الآخرين، وكثيرون غيرهم ورثوا ثروات طائلة لكنهم أهملوها وسعوا لبناء ثرواتهم بكد أيديهم .


 


فالتأمل في شخصيات وسلوكيات الناجحين سواء كانوا أفراداً أو دول سنجد أنهم اعتمدوا في صناعة ذواتهم ونجاحهم على قوة إرادتهم وتنمية مهاراتهم وقدراتهم والتحكم في إدارة أنفسهم لتنسجم مع البيئة المحيطة بهم ليُحدثوا التغير والتمييز وتحقيق أهدافهم، فهم عرفوا ما يريدون وأين يتوجهون ، فليست البيئة التي يُولد الإنسان فيها وحدها من تصنع الإنسان بل هو الأساس في صناعة ذاته بما يكتسبه من وعي وإدراك لقدراته وحاجاته والهدف من وجوده وتحقيق دوره بالحياة فيسعى متحدياً بيئته وصعوباتها ليصنع فيها التغير الإيجابي والنجاح .


 


الإرادة طاقة


الإرادة هي الطاقة الحيوية الداخلية التي تتفجر في داخل الإنسان ليندفع من خلالها نحو تحقيق أهدافه وإنجازاته التي يفتخر بها أمام نفسه وأمام الآخرين ليُحققها لذاته ويحدث التأثير في مجتمعه وحياته، إنها العضلة التي تحتاج لتدريب وتقوية بزيادة جهد الإنسان وقناعاته وتفكيره الإيجابي وتحديد أهدافه والإيمان بإمكاناته ومهاراته وكيفية استغلالها لفائدة مجتمعه وبيئته، فالإرادة لا تنتظر التحفيز الخارجي كثيراً بل تقوم على تحفيز تلقائي من داخل الإنسان نحو العمل والإنجاز وتحقيق الأهداف ومعرفة أين التوجه الصحيح، فكلما تطورت الإرادة وقويت تطورت الشخصية والذات وحققت أصعب الطموحات والأهداف .


 


الإرادة تصميم وتحدي


الإرادة لا تهتم بالمعيقات من حولها بل تزداد أمام تحدياتها للتغلب عليها والعمل على إضعافها وهزيمتها، وإن ضعفت الإرادة في ظرف ما وتحت ضغوطات قوية عادت واستعادت قوتها لتنتصر على أقوى معيقاتها، فالله خلق الأرض ممهدة للسير والتنقل عليها والبحث عن كل مقومات القوة والوجود الإنساني التي تزيد من تحضره وتطور نموه، ولم يجعل الله كل شيء سهل المنال للإنسان ليندفع للعمل وأخذ الأسباب والاجتهاد لتحسين ظروف حياته، رغم أن الله قادر على أن يرزقه ويعطيه دون حركة وتنقل ولكنه أراد له أن يتعب ويكد ليجد المتعة واللذة بنتيجة تعبه وسعيه وليُميز الناس في درجاتهم بالعدل والإحسان ويختبر من هو أحسن عملا، فعلى الأرض لا بد من سعي وتعب ومشقة كي يُحصل الإنسان نصيبه ورزقه الذي قدّره الله بما يسعى إليه من أسباب، أما أن يبقى الإنسان متواكلاً حاسداً لغيره على نعم الله عليه لن يحقق سوى الحسرة والندامة التي تحرق أحشاءه، وسيبقى نكرة دون فائدة لنفسه ومجتمعه يقتات على أكتاف الناس وفضلهم .


 


الإرادة والمعيقات


فالسعي في الأرض والبحث فيها لأجل البناء والتجديد والتغير والإتيان بما يُسعد النفس الإنسانية ويطورها لن يمر دون معيقات ومشكلات تحاول أن تمنع العقل و تصده عن الاستمرار و تسبب الإحباط واليأس والإحساس بالفشل بمسعاه، فوجود هذه المعيقات هو السبب وراء إحداث الإبداع والتحدي للعقل البشري وسعيه وراء البحث والعلم للإتيان بالمعرفة والنظريات الجديدة للتطوير، فكلما تعقدت المشكلات زادت طاقة العقل للبحث والتحدي، فالإنسان يمتلك الطاقة الإيجابية الهائلة في داخله التي تحتاج للتفاعل مع الظروف لتفجرها، فعندما تقع المشكلات و العقبات الصعبة سيسعى متحدياً بكل طاقته لصدها ومعالجتها وينتصر عليها ليحفظ بقاءه ويطور وجوده .


 


فالإرادة هي أمانة الله التي مَيزت الإنسان عن غيره من مخلوقاته فأعطاه القدرة على التفكير والوعي والإدراك والشعور والتميز لاتخاذ القرار بذاته، لذا فهو محاسب عن إرادته المنطلقة من إدارته لنفسه وسلوكه من خلال طاقته العقلية والنفسية والجسدية، فكلما توجهت إرادته إتجاه نفسه ومجتمعه للخير والعطاء والإصلاح كلما حصّل النجاح والتمييز الإيجابي وكلما فعل العكس باتجاه التفكير السلبي وتدمير البيئة وفسادها كلما حصّل الخسارة والإذلال لذاته .


 


قوة الإرادة


الإرادة يولد الإنسان مزود بها لأجل أن تعينه على البقاء، فلولا وجودها لفقد الإنسان أهميته ولا استمر بقاءه، فلطفل لولا وجود إرادته المرتبطة بالحاجات لدية لما لجأ للبحث عن مصدر غذائه وأمنه من أمه والبيئة المحيطة به، ولولا إرادته لحب المعرفة والاكتشاف ما سعى ليلمس كل شيء حوله ويتحسسه ولكن دون تميز لمخاطر الأشياء وضررها، فالتميز والاختيار ينمو مع النمو العقلي للطفل المرتبط بالنمو البيولوجي والسيكولوجي، فكلما تطور النمو المتكامل للطفل نمت قدرته على المعرفة والتميز بين الأشياء وفهمها وهنا تبرز الإرادة الخاصة بكل طفل وتوجهاته في الحياة لصناعة الذات والمستقبل .


 


فالإرادة الداخلية تولد مع الإنسان وقوتها وحجمها تُكتسب بالتدريب مع تحديات البيئة ومشكلاتها، فهي الطاقة التي تزيد وتنقص حسب مزاجية وسعي الإنسان وجهده، فالطفل الذي يولد ضعيف الإرادة يحتاج لمُربين ناجحين ومدربين يمتلكون من المعلومات المعرفية لمراحل النمو الجسدية والنفسية والعقلية التي تمكنهم في معرفة أساليب تقوية الإرادة وتحقيق الأهداف منذ بداية الطفولة، وأن يكونوا أصحاب إرادة قوية وتصميم اتجاه أهدافهم وسعيهم للنجاح في تحقيقها ليمثلوا القدوة المثالية أمام الطفل، فالسعي لبناء شخصية تتمتع بقوة الإرادة تحتاج لمشاركة الأسرة والمدرسة والمجتمع حتى ينتج جيل قوي الإرادة والتحدي لكل صعوبات الحياة التي تحفظ هويته وذاتية وجوده المتميزة وعدم الاستسلام للهوان والضعف والذوبان في هيمنة وسيطرة الآخر .


 


سلوكيات لاكتساب إرادة قوية


أن يُدرب الطفل ويُعلم على توسعة الخيال لديه فيرسم أحلامه وطموحاته وصورة العالم من حوله، الجرأة وعدم الخوف والاستسلام لقناعات المحيطين السلبية، وأن يُشارك الآخرين في اتخاذ وصناعة القرار وحل مشكلاته الذاتية والبحث عن حلول وبدائل، وكيفية إدارة التمرد والعناد لأن ذلك من علامات قوة الإرادة والشخصية عند الطفل، وتعليمه كيفية المشاركة والتعاون مع الآخرين مع الاهتمام بنفسه وأغراضه وممتلكاته الخاصة ولا يحق لأحد الاعتداء عليها، وكتابة الأهداف وتحديدها بفترة زمنية ورؤيا يرى فيها نفسه ناجحاً متميزاً، وتدريس قصص الناجحين المتميزين ممن حققوا إنجازات عالية، وضع الطفل في بيئة واقعية ملموسة للتعلم والعيش مع الواقع ليتفاعل مع الناجحين، وتعليمه كيف يسعى للمعرفة والإطلاع والبحث في كافة مجالات الاتصال والمعلومات، وتوفير رعاية أسرية ومدرسية ومجتمعية تشجعه على العطاء والمشاركة المجتمعية دون إحباط، وتعويده على عدم الاتكال وانتظار الحلول أو الرحمة من الآخرين بل المثابرة والسعي لمواجه واقعه، وضع صوره رائعة لذاته وشخصيته وما يراه في نفسه لتعزيز الثقة بالنفس، وتوعية الطفل بصعوبات الحياة وأنها لن تعطيه إلا إذا سعى لما يريد، تعويده على الإيجابية والبعد عن السلبية أو مخالطة السلبيين المحبطين، تعليمه كيف يدير ذاته ويخطط لمستقبله ويدخر من ماله ليصنع منه شيئا، وكيف يعبر عما يريد بصدق مشاعره وعدم رضوخه للواقع السلبي، كيف ينظم وقته وحياته وترتيبه لأولوياته وتسجيل مذكراته وخططه اليومية لتزيد الإصرار وتوضح الرؤيا لديه .


 


معيقات الإرادة القوية


ضعف الإرادة والاستسلام للإحباط واليأس يكون بسبب الجهل وقلة المعرفة بقيمة الذات واكتساب الخبرات في التعامل مع الصعوبات والأزمات، التربية الزائدة القائمة إما على زيادة الحنان والرعاية والخوف الشديد على الطفل أو الإهمال المفرط والتقليل من قيمة الطفل وتقديره لذاته، كبت المشاعر وعدم السماح للمشاركة وإثبات الذات، الظلم الشديد والفقر والتمييز بين الأفراد، وضع طموحات أعلى من قدراته واستسلامه لآراء الآخرين وبحثه عن إرضائهم ومدحهم له، عدم وضوح الأهداف والرؤيا، الخوف وعدم التجرؤ والمخاطرة، الرضوخ للأمر الواقع وانتظار الآخرين إيجاد الحلول، المشي مع العامة والتيار السائد، عدم رؤية ما يستحق العناء والتضحية لأجله، رؤية أن الحياة فانية والموت حق فلا فائدة من عمل أي شيء، ضعف الإيمان والمعرفة بالله ودور الإنسان في هذه الحياة، فقدان الوعي الذاتي ومعرفة القدرات الداخلية، عدم السعي لتحسين الأداء والمهارات الوظيفية، عدم مشاركة الآخرين والتفاعل معهم ، الاقتناع أن قلة سعيه بسبب الأوهام والخرافات من الحسد والسحر من الآخرين، عدم السعي والأخذ بالأسباب والاعتماد الصادق على الله .


 


إعادة البرمجة الذاتية


الأمة العربية عانت لأجيال وسنوات من إحساسها بالعجز والهوان وضعف الإرادة وفقدانها الإقبال على التغير وشعور دائم بالقهر والانقياد وقلة الحيلة وتبرير واقعها الأليم بظلم الحكام وفسادهم رغم وجود بعض محاولات فردية وسعيهم لتغير الواقع، والغالبية الكبرى تماشت واستسلمت للواقع ورضخت لقوة السلطة وقهرها وظلمها وبُرمجة الذات العربية بهذا العجز والضعف للإرادة على التغير، إلى أن جاءت لحظة كسر حواجز الخوف والصمت لتتفجر إرادة الشعوب بقوتها وغضبها نحو نبذ القهر والظلم والواقع المهان ليعلو صوتها بالتغير والإصلاح ومعاقبة ورحيل من كانت له يد في كبت إرادة الشعوب وحرمانه من حق الحياة .


 


إذاً هي البرمجة الذاتية السلبية التي سيطرت على العقلية العربية لسنوات لتمنع عنها الإقدام على التغير وتحسين الأمور وتطوير البلدان وعمارة الحياة للتسابق مع بلدان العالم نحو التطور والمعرفة، ولو تمردت وخرجت من غفلتها وإحساسها الدائم بالعجز قبل سنوات لما وصلت لكل تلك المعاناة وما احتاجت لوقت كبير لدفع الثمن الغالي لكرامتها وحريتها، ولكن التحدي الأكبر أمام الذات العربية الآن هل ستستمر قوة إرادتها في تحقيق أهداف ثورتها وطموحها لتنفصل عن تبعية الآخر وتحقق هويتها وتميزها وتطورها بين الأمم أم ستسلم لعجزها وتدمر ذاتها وتعود لرحمة الآخر .


 


فالإرادة برمجة داخلية عقلية نفسية تتفجر في أي وقت مهما بلغ الإنسان من سنوات عمره أو إحساسه بالضعف والعجز، فقط كل ما يحتاجه اتخاذ القرار الداخلي بالتمرد على الواقع الذي يعيشه والبدء بالتغير والتطور والخروج من العجز الذي برمج ذاته عليه وقلة همته وعزيمته والشعور بكونه ضحية للآخرين والنقص وعدم توفر المقومات والقدرات لتحقيق شيء ذو فائدة والاعتماد على الآخر في كل شيء والتبرير بنقص الموارد والإمكانيات أو البيئة غير صالحة، فالقناعات والأفكار الداخلية هي من تصنع الإرادة أو تقتلها، فقط نحتاج لإصرار ومكافحة لأجل الوصول لأعلى الغايات وتحقيق أعظم الطموحات، ونحتاج للتخطيط ووضع الرؤيا الواضحة ومعرفة القدرات والمهارات وتوزيع الأدوار والتكافل والتعامل بالعدل والقسط لنبدأ الخروج من دائرة الضعف والخذلان إلى دائرة الإنجاز والعطاء والإحساس بالهوية والذات .


 


نحن نحتاج للتربية على قوة الإرادة كل يوم مع أنفسنا أولاً ثم مع أبنائنا والمحيطين بنا في مجتمعاتنا حتى نحقق التغير والنجاح في حياتنا، فنسعى لتطوير بلادنا وتحقيق هويتنا وتثبيتها على الأرض والخروج من سطوة الظلم والقهر التي تحيط بنا إما من أبناء جلدتنا أو من محتل غاصب سيطر بقوة سلاحه على كل أملاكنا ولن نعيدها إلا إذا صممنا بقوة إرادتنا على توحيد صفوفنا وأهدافنا ومعرفة ما نريد والسعي معاً إليها دون تغليب للمصالح الشخصية على مصالح العامة، فالكل يُصوب قوته وطاقته نحو ذاك العدو المتربص بنا ليصرفه عن أرضنا ونعيد بإرادتنا كرامتنا ونحقق نجاحاتنا ونصنع هويتنا وذاتنا الفريدة .


 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت