تقع الأحداث في المنطقة العربية بوتيرة متسارعة في سياق ما أصطلح على تسميته بالربيع العربي والذي هو محل شك من الكثيرين، ليس لعدم رغبة في التغيير والاصلاح واستعادة الحرية والكرامة للإنسان العربي وتحقيق العدالة الاجتماعية بين أفراد المجتمع، وإنما للدور المشبوه للعوامل الخارجية المؤثرة فيه والتي أدت إلى هذا التسارع عبر مفاعيلها المختلفة الظاهرة والمستترة التي تسعى لتوجيه النتائج المتوخاة لحساب مصالحها فقط، دون تحقيق الموطن العربي لمبتغاه من التغيير، إلا من مظاهر شكلية من المشاركة في انتخابات كانت نتائجها محسوبة ومحسومة سلفاً، لصالح طرف لم يكن له دور حقيقي وفاعل في أحداث الربيع بقدر ما كان جاهزاً لقطف الثمار وليدخل مباشرة في تفاهمات واتفاقات (( الجنتل مان )) مع قوى الرأسمالية العالمية المتحكمة سواء في دول المركز أو في دول المحيط التي كتب عليها أن تبقى هامشية التأثير في السياسة الدولية وكذلك الإقليمية الخاصة بها، فهي متأثرة على الدوام ومنفذة لرغبات المركز ولا تسعى لأن تكون فاعلة فتبقى مفعولاً بها على الدوام.
لقد غابت القضية الفلسطينية عن شعارات الحراك والربيع العربي الذي شهدته وتشهده اليوم أكثر من دولة عربية، ولكن يبقى الفاعل الفلسطيني يمتلك الديمومة والقدرة على فرض نفسه على الساحة العربية والدولية لما يمتلك من عدالة ومشروعية، ولما للقضية الفلسطينية من أبعاد وتأثيرات لا تقتصر على الجغرافيا العربية وإنما تمتد إلى العالم أجمع والفلسطينيون هم دائماً طليعة هذه المواجهة المحتدمة منذ أكثر من ستة عقود مع مشروع الرأسمالية المتقدم ((الكيان الصهيوني)) والذي منح لنفسه فرص تجديد عقده الوظيفي في خدمة المراكز الرأسمالية العالمية على الدوام، ولم يعجز عن إيجاد مبرر التوظيف هذا والاستثمار فيه، لإدامة هذه الوظيفة الاستعمارية الاستيطانية على حساب الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني حتى وإن كانت مبرراته واهية، فقد أخذ من شعارات الحرية والوحدة والاشتراكية والتحرير التي رفعتها الحركات الوطنية والقومية العربية سابقاً وكذلك الدول العـربيـة في العقــود الفـــائتة مـبرراً لوجـوده ودعـــمه، واليـــوم مع تراجــع تلك الشــعارات أصـبح المــبرر له (( النــووي الإيــراني )) (( والإرهــاب الإسـلامي )) (( والربيع العربي )) الذي أوصل الإسلاميين إلى السلطة في أكثر من قطر عربي وفي مقدمتها جمهورية مصر العربية وقريباً الجمهورية العربية السورية ...الخ من دول الحراك والربيع، فيأخذ الكيان الصهيوني من مجمل هذه المتغيرات والتطورات مبرر الوجود والاستمرار في احتلاله للأراضي الفلسطينية والعربية ومواصلة سياسة الاستيطان على حساب مستقبل الشعب الفلسطيني وإنكار حقوقه المشروعة في العودة إلى وطنه وحقه في تقرير المصير وإقامة دولته المستقلة فوق ترابه الوطني وعاصمتها القدس الشريف رغم إقرار الشرعية الدولية وكافة دول العالم لهذه الحقوق باستثنائه ومشغله الولايات المتحدة الأمريكية.
لا شك أن الفلسطينيين يستشعرون خطورة سياسة التوظيف التي يمارسها الكيان الصهيوني وقد سعوا إلى إيجاد انسجام بين تحركهم السياسي والدبلوماسي والكفاحي مع آليات الربيع العربي، ومن خلال التوافق على أسلوب المقاومة الشعبية لمواجهة هذا الاحتلال العنصري الاستيطاني الذي يعد أخطر وآخر أشكال الاستعمار الذي عانت منه دول العالم الثالث ولا زالت تدفع فاتورة نتائجه من تقدمها وتطورها ورفاه شعوبها.
لقد كان استقلال القرار الوطني الفلسطيني بمثابة الرافعة للشأن الفلسطيني، كما كانت الوحدة الوطنية الفلسطينية صمام الأمان لديمومة القضية الفلسطينية، والتي منحت الحركة الوطنية الفلسطينية، ممثلة في م.ت.ف، الفاعلية والشرعية في قيادة الشعب الفلسطيني وتحقيق أهدافه الوطنية، وقد سجلت خلال العقود الماضية جميع انجازاته المادية والمعنوية على طريق التحرير والعودة وإنهاء الاحتلال وبناء الدولة، في هذا السياق ينظر الشعب الفلسطيني للمصالحة الفلسطينية التي سجلت محطتها القطرية بالأمس الاثنين 6/فبراير/2012م أملاً كبيراً لدى الفلسطينيين باستعادة الوحدة الوطنية وتدعيم القرار الوطني الفلسطيني المستقل، وإبعاد القضية والحركة الفلسطينية عن سياسات الاستقـطاب والإنقسام التي عانى منها الشـعب الفلسطيني، لا أقول منذ انقلاب حركة حماس على السلطة في 15/حزيران/2007م بل منذ ظهور حركة حماس وقوى الإسلام السياسي في ساحة العمل الوطني الفلسطيني، وخصوصاً مع بداية الانتفاضة الفلسطينية الكبرى في نهاية ثمانينات القرن الماضي، فالأمل يحدو الشعب الفلسطيني وقواه وفصائله الحية والفاعلة في العمل الوطني، أن تصبح المرحلة السابقة من الماضي، الذي لابد أن يوضع تحت مجهر البحث والدراسة والتحليل والنقد والتقويم لاستخلاص العبر والدروس منه من أجل تجاوز تلك المرحلة فعلاً وممارسة لا قولاً وتكتيكاً، فالوحدة الوطنية الفلسطينية والقرار الفلسطيني المستقل شأنان متلازمان، لا يجوز المساومة عليهما تحت أي اعتبار حزبي، أو فصائلي، أو أيديولوجي، أو أي اعتبار مصلحي لهذه الفئة أو تلك، لأن المرحلة التي يمر فيها الشعب الفلسطيني هي مرحلة تحرر وطني بامتياز، وإن كان هناك سلطة محدودة ومشوهة فهي لا زالت تمثل خطوة صغيرة على طريق استعادة الحقوق الثابتة .. ما يعني أن الشعب الفلسطيني لا زال في أتون الصراع من أجل انتزاع حقوقه الوطنية، فلا محل لديه لصراع الطبقات ولا لصراع الأيديولوجيات، سواء كانت محلية أو مستوردة، فالتناقض الأساسي والرئيسي للشعب الفلسطيني بكل فئاته وطبقاته ومكوناته هو مع الاحتلال الصهيوني ولا يجوز لا لفرد، أو فئة، أو طبقة اجتماعية أو جماعة، أو حزب، أو فصيل أن يقدم على هذا التناقض الرئيسي أي تناقض حتى وإن كان باسم الدين وباسم الإسلام، لأن ذلك سيفتح ثغرة في جدار الوحدة الوطنية والقرار الفلسطيني المستقل، لينفذ منه الأعداء والأصدقاء على السواء، كما عانى الشعب الفلسطيني منذ ظهور الحركات الإسلاموية في ساحة العمل الوطني الفلسطيني وتبنيها لبرامج كفاحية مختلفة مع برنامج الإجماع الوطني، حيث خلف ذلك نتائج سلبية كبيرة ولا حصر لها على الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية، وكان آخرها وأخطرها الانقسام السياسي والجغرافي الذي أحدثه انقلاب حركة حماس على السلطة في قطاع غزة وما نتج عنه من حصار ظالم وعدوان غاشم كبد شعبنا خسائر بشرية ومادية لا تقدر بثمن، وعطل مسيرة الوحدة والوفاق التي من خلالها فقط تتوفر الحماية للشعب الفلسطيني وننجز أهدافه الوطنية.
فالتوافق الوطني الذي بدأ في الرابع من أيار 2011م في القاهرة ويسير سير السلحفاة، حيث وصل أخيراً إلى محطته القطرية في السادس من فبراير علينا أولاً حمايته، ومن ثم تسريع خطواته، وإعادة البناء للنظام السياسي الفلسطيني (( سلطة وطنية )) و (( منظمة تحرير فلسطينية )) ليس على أساس انتخابي فقط، لأن هذا الأساس خادع وقد يتخذ من نتائجه ذريعة لتنامي التناقضات الثانوية بين قوى الشعب الفلسطيني، وإنما على أساس وحدوي لا يستثني أحد من القوى والفصائل المناضلة والفاعلة والناشطة في هذا الشأن الفلسطيني، وبما يتوافق ومتطلبات النضال والكفاح والتحرر الوطني الذي يخوضه الفلسطينيون منذ ستة عقود، وهو كفاح التحرر الوطني من أجل العودة والتحرير وإنهاء الاحتلال وممارسة حق تقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على أرض فلسطين وعاصمتها القدس الشريف، بهذه السياسات القائمة على أساس وحدة المؤسسة، ووحدة القيادة، ووحدة القرار، ووحدة البرنامج النضالي، نستطيع توظيف الربيع العربي والطاقات الفلسطينية والعربية ومواقف الأصدقاء المساندة لعدالة ومشروعية الحقوق الوطنية في مواجهة العدو وتضييق الخناق عليه سياسياً ودبلوماسياً ومواجهة سياسته العنصرية والاستيطانية الشرسة على الأرض الفلسطينية.
فالشعب الفلسطيني ينتظر اليوم: نتائج المصالحة والتوافق بين كل القوى وأولها التخلص من حالة الانقسام الذميم وإسقاط كافة الذرائع والمبررات التي تخفي وتستر البعض خلفها لإدامة هذا الشذوذ السياسي المقيت، الذي طبع المرحلة الأخيرة من الكفاح الفلسطيني، فربيع فلسطين سيكون في استعادة وترسيخ الوحدة الوطنية على مستوى القيادة والمؤسسة وبرنامج التوافق النضالي الوطني على كافة المستويات الشعبية والرسمية فلسطينياً وعربياً ودولياً حتى يتمكن الشعب الفلسطيني من إنجاز أهدافه الوطنية وتحقيق حقوقه المشروعة والثابتة والغير قابلة للتصرف.
عبد الرحيم محمود جاموس
عضو المجلس الوطني الفلسطيني
الرياض 07/02/2012م الموافق 15/03/1433هـ
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت