برغـم تقديرنا لحركة فتح واعترافنا بريادتها للحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة , فهي ذات الفضل وصاحبة السبق في نشوء الحركة الفدائية التي – كانت– تنتهج الكفاح المسلح برنامجا وطنياً لتحرير فلسطين منذ أن حلت بالعرب هزيمة 5 يونيه 1967 إلى أن هلت رياح أسلو التي حملت العائدين إلى أرض الوطن تاركين وراءهم حنيناً فياضاً لبلاد اغترابهم . فأعـِدت لهم استراحات المحاربين , ونعموا بما هم فيه من رغـد العيش , ووفرة الثروة , فنسوا الثورة . وبدأت تظهر عليهم أعراض التكرُّش والتضخم الرئوي وهم يرتعون ناعمين في محبسهم الذي أعـده لهم رابين / بيرس . فانطفأ بريقهم , وانكفأ الشعب الفلسطيني يلعن أوسلـو , ويلعق جراحه التي أحدثها فيهم الإسرائيليون خـلال الانتفاضة الثانية التي أودت بحياة الـدولة الفلسطينية التي كنا نحلم ونمني النفس بها .... وأصبحت فتح سجينة كما أن الشعب الفلسطيني في غزة والضفة سجين أيضاً , و كان السجان وحيداً يشار إليه بالبنان , و صار قطاع غزة " باستيل " كبيرًا ، تعاقب عليه سجانوه من جيش الاحتلال إلى تسلط الأمن الوقائي ووحشية المخابرات وقسوة الاستخبارات إلى عـنف حماس وغلظتها .... كل منهم لعب بنا الكرة شوطاً طويلا ومنهم من لعب شوطين ومازال يلعب في الوقت الإضافي الذي لا ينتهي .
وترهـلت فتح , وتحللت من إحرامها النضالي , ولبست ثوب المفاوضة , واستسلمت للحلول السلمية التي لا تسمن ولا تغني من جوع.... وإنها على مدى ثماني عشرة سنة لم تستطع بمفاوضاتها أن تأخذ من الإسرائيليين شبراً واحداً , و لم تستطع – لا بخرائط الطرق المتعددة ولا بالمبادرات المتنوعة ولا بالمؤتمرات الدولية الضاحكة على ذقوننا – أن تحقق لنا شيئاً من مطالبنا الوطنية . و لم يستحِ كبير المفاوضين من نفسه حين يخلع عليه الإسرائيليون هذا اللقب إرضاء لغروره وهو يعلم أنه لا يستحقه ، وأنه ينوء بحمله . و لكنه يكابر أمام الداعمين المؤيدين لاستمرار المفاوضات الذين لا يخجلون من هزائمهم السياسية والجغرافية . و كأنهم نسوا أو تناسوا ( اسحق شامير) في مؤتمر مدريد - أكتوبر 1990- حين قال بكل صفاقة على مسمع من كل الوفود العربية : " أستطيع أن أفاوض العرب عشرات السنين دون أن يحصلوا مني على شيء " . نعم ، لقد صدق شامير فيما قال .... وخاب سعينا نحن المغفلين المخدوعين المتهالكين , فانهارت الآمال , وأصابنا الغثيان , وصفعنا ( نتنياهو) ثم ركلنا ( شارون ) بقدمه ، فأخرجنا من الملعب السياسي مهزومين بالنقاط , وجاء ( أولمرت ) فضربنا فكانت القاضية , لأننا خذلنا البندقية إذ علقناها بجوار سيف النعمان بن المنذر زينة في صدر خيمته.
فما العمل ؟ لابد من عمل لكسر الفراغ الجاثم على صدورنا .
لابد من تحريك الركود لنثبت وجودنا ونُسمع صوتنا لكل العالم .... لابد من قرع الطبول والعزف على الأرغول وإعداد البواطي ليأكل بعضنا لحم أخيه ميتاً أو حياً.... لا يهم ! فكان الانقلاب الذي حدث في غزة ، فنتج عنه الانقسام فأصبحنا دولتين برئيسين بحكومتين ببرلمانـين بعـاصمتين بعـلمين بمنهجـين مختلفـين متناقضين ..... والـدولة الثالثة قـادمـة ومعهـا عاصمتهـا ولوازمهـا الرسميـة ولا تحتاج لإثبات شرعيتهـا لأكثر من شهـادة ميلاد مختـومة مـن مختارين . ثـم كانت حرب النجـوم الفتحاوية التي شطرت حركة فتـح إلى نصفـين ، فصنع كل منهما قنبلته العنقودية إحداهما برأس نووية عباسية ! وثانيهما برأس نووية دحلانية !.
فعباس رئيس منظمة التحرير ورئيس حركة فتح كلها ، من ألفها إلى يائها ، وهو المدير الفني للمجلس الوطني ، وهو رئيس السلطة الفلسطينية , وهو( آمون ) عصره في فلسطين ، شاء مَن شاء وأبى مَن أبى ( واللي مش عاجبه يشرب من وادي غزة ) ، والزلمة عنده نهم شديد وكله حيوية ونشاط – ما شاء الله يخزي العين عنه– لتقـلـد المزيد من المناصب , فهو قـدَّها و قـدود , وهو القادر على حمل كل هذه المناصب على كتفيه ؛ لأنها في مجموعها أخف وزناً من الكلاشينكـوف , و يشجعه على ذلك كهنة السلطة وأعقاب العجائز فيها ، الذين يشيرون عليه افعل كذا... ولا تفعل كذا ، فيغرقونه و يغرقنا هو معه . أما العقيد محمد دحلان فهو شاب طموح , ذو رؤية وطنية رجراجة ! وذو مواهب قيادية عالية , يعرف كيف يسوس الآخرين بحسن لسانه وبكرم عطائه وبعـقـل كبير ذي مدارك راقية من الوعي السليم وحضور البديهة ، ويمتاز بالشجاعة والجرأة ، وهو أيضاً جذاب فوجهه كما يقول السينمائيون " فوتوجينك " وفوق كل ذلك لديه ثروة طائلة لا ندري مصادرها ومع هذا فهـو كريم معطاء ، وباختصار التف حوله الشباب مأخوذين به ، معجبين بشخصيته وبسيرته النضالية على الساحة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي وبمواقفه الوطنية ، فصاروا يحلفون بحياته .
وتزايد أنصاره ومريدوه وتكاثر محبـوه ومؤيدوه ، وهم على كثرتهم وتنوعهم قد آمنوا به زعيماً وقائداً لهم ، وهم على استعداد أن يتقبلوا منه فكره ومعتقداته مهما كانت سياسية أو اجتماعية أو حتى دينية…الخ . فأصبح له وزن في السلطة الفلسطينية , وأصبح له تأييد كبير في الشارع الفلسطيني في قطاع غزة ، وقـد لا تخلو الضفة الغربية من أنصار يقـفـون معه في الأزمات .
لقد نـادد دحلان الرئيس الراحل أبا عمار ، فأصبح لفتح وللسلطة خطان متوازيان : الخط العرفاتي والخط الدحلاني . ولا ننسى أن الانبهار والإعجاب به قد تخطى حدود الوطن وتجـاوز تقديره الشعب الفلسطيني إلى دول أخرى… و كان هذا العمق الذي وصل إليه عن طريق الإعجاب والتقدير والمراهنة على فوز حصانه برئاسة السلطة خلفاً للرئيس الراحل أبي عمار سبباً من أسباب الحفاوة به والتقرب منه ، فانهالت عليه وسائل الإعلام المختلفة تستفتيه فيفتيهم ، وكثر أصدقاؤه يخطبون وده ، وانفتحت له مصادر الثراء الفاحش الذي ظهرعليه شيء منه في غزة . فهل يعجز دحلان الذي حط رأسه برأس أبى عمار, و نحن نعلم من هـو أبـو عمار! , إنه جبل , و يا جبل ما يهزك ريح , هل يعجز دحلان أن يحط رأسه برأس الرئيس عباس ويكـون له ندًا وخصماً فيجذب إليه الأضواء الساطعة بحيث يعتقد المراقب أن دحلان هو الرئيس القادم عاجلا أم آجلا …
فهو يمتلك من صفات الزعامة والشعبية ما لا يمتلكها الرئيس عباس بن فرناس . أضف إلى ذلك صغر سنه إذا قورن بالكهنة أعقاب العجائزالمحنطين المتواجدين على كراسي الحكم ، الذين يرمقـونه بنظراتهم الحاقدة مشفـقين منه على أنفسهم ، والذين إذا ذُكِّروا به ركبهم الرعب واستولى عليهم الفزع الأكبر. إذن فكل هذه السمات التي تتوافر لدحلان , و كل هذه المعطيات التي يملكها جعلت الخوف منه على أنفسهم ومناصبهم مصدر محاربته والتضييق عليه وعزله…. و لكنه لم يتأوه و لم يضجر و لم يضج من أحد ولم يشتكي من أحد لأحد ، فيكـفيه تزايد شكوى الناس منهم .
فأفـزعهم منه ثباته وتماسكه وتمسك الناس به , وعاد طائر الخوف يحوم على رءوسهم وعلى مناصبهم وعلى مكاسبهم , وعلى ثرواتهم وعلى ممتلكاتهم.... وعلى نهمهم في المـزيد من النهب
والسلب . فأخذوا يأتمرون به لدى الرئيس عباس ويوسوسون له بالطوفان القادم ، فتراءى له خطر دحلان المحدق به…إذ استفحل أمره و كثر أنصاره ورجحت كـفتهم . فـأصـدر الرئيس عباس مرسوماً ملكياً بفصل محمد دحلان من اللجنة المركزية وطرده من حركة فتح ومؤسساتها ومن كل المناصب التي تتعلق بالحركة و بالسلطة .
وتنفس الشامتون الخائفون المرجفون الخائرون المذبذبون الوسواسون – تنفسوا الصعداء , فهدأت نبضات قلوبهم وانفرجت أسايرهم فرحاً بهذا النصر الفتحاوي العظيم الذي لايعـادله عندهم إلا نصر صلاح الدين في زمانه . لماذا يا ريس؟ " لأن محمد دحلان يثيرعـلينا المتاعب ويسعى للزعامة ، ثم إنه تقـَّول علينا الأقاويل . " ماذا قال يا ريس ؟ " تهجـَّم علىَّ وعلى أولادي واتهم أحدهم بالتعـدي على الصندوق القـومي والاتجـار بالمال العام لحسابه الخاص ". ثم ماذا ياريس ؟ " بحقه قضايا جنائية وفساد مالي وسياسي " . لماذا لا تقاضيه في المحاكم يا ريس ؟ ألست الرجل الـديمقـراطي صاحب النياشين الـدولية في الديمقراطية العالمية ؟ ، ثم إن الرجل أذاع فـينا استعـداده للمثول أمام المحكمة في أي مكان و في أي زمان لينال عـقـابه إن كان مـذنـباً ، على أن يكـون التحـقـيق معه ومحاكمـته علانية . ولكن رجالات السلطة لايريـــدون المحاكم خشيـة أن تنـفتـح الملفات وتـطل برأسها الأسرار المخبـوءة فينكشفـوا للناس أجمعين . لماذا لا تكون رام الله ديار إقامته الجبرية بدلا من نـفيه في بلاد الغربة ؟ . ألا يكـفيه بغض وعداوة حماس له , التي ترفض دخوله قطاع غزة مسقط رأسه ؟.
أليس محمد دحلان عضواً منتخباً في المجلس التشريعي ورئيسا سـابقـاً لجهاز الأمن الوقائي بغزة ؛ الذراع الضاربة لأبي عمار والعين الساهرة على أمن الوطن وعلى أعداء الوطن !.
ألم يكن بالأمس مستشارا للأمن القومي الأمريكي – استغفر الله ، الفلسطيني ؟!. أليس دحلان عضواً في اللجنة المركزية لفتح عن طريق الانتخابات الحرة ؟ فأين الحصانة البرلمانية وأين الحصانة النضالية والحصانة الفلسطينية لمؤسس الشبيبة الفتحاوية ؟.
يا خسارة يا فتح يا خسارة يا أم الشهداء والجرحى والمعتقلين !… يا خسارة يا رائدة النضال ياولاَّدة المناضلين… أهكذا يؤول أمرك إلى عصبة من الكهنة وأعقاب العجائزالخائرين الذين انتهت صلاحيتهم منذ سنين…. يتحكمون في مسارك فيرفعون فلاناً ويحطون من قـدر فلان . فاليوم كان دحلان…. وهو أول كأس يهـرق في حانات كهنة آمون… ثم يأتي دور سمير المشهراوي الذي أفادت الأخبار أنه فُصل من المجلس الثوري ومن حركة فتح بسبب قـول شخَّص فيه أسباب الاعتلال الذي أصاب الشعب الفلسطيني من مصائب وكوارث وهزائم وانقلابات وانقسامات في عهد الرئيس المبجل السيد عباس ، وما خفي كان أعظم… والأعظم يكمن تحت الرماد جمرة ملتهبة…. ستحرق أصابع الأيدي الخفية التي تريد لفتح التردي والهلاك والاندثار. فهل حسبها أبو مازن ورفاقه من الحاقدين الخائفين المتذبذبين أن افتعال القطيعة مع دحلان وطرده من الحركة يسبب شرخاً جديداً في جسم الحركة التي نراها تترنح ، فيزيد عليها المرض الذي قد يقبرها , فلا قيام لها من بعـده . كأني بهم يعضون على الأنامل ندماً على سوء قرارهم عندما يرون مدى تعاظم التأييد والتعاطف مع الضحية ! فأين الديمقراطية وأين حرية الرأي يا ريس يا كبيرالقلب ؟! , وهل ننتظر مزيدا من تجميد العضوية و طرد الأعضاء أو فصلهم من الحركة ومن مناصبهم الرسمية وقطع رواتبهم إذا ظهرت على أحدهم مخايل الزعامة والقـيادة ، أو إذا جاءوا على سيرة الرجل الديمقراطي جـداً بالنقـد لأسلوب الحكم ؟!. وهل ننتظر حتى يتجمع هؤلاء وأولئك حتى يكوِّنوا جيشاً عرمرماً في لواء دحلان الزاحف على رئاسة السلطة عاجلا أم آجلا ؟ إذن ليس دحلان إلا أول الانهيار والعصيان ، ونتوقع أن يكون دحلان أول حبة في مسبحة التصفيات الفتحاوية – السلطوية تتلوها تصفيات لكل مَـن يـرفع رأسه ويطلق لسانه ويـقتـرب مـن منطـقة الخطر المحظـورة ، والويـل لكل مَــن
تسـوِّل له نفسه بمخاصمة (الإله آمون) أو إغضاب كهنته . فالمصير محتوم : الطرد من الديار والنفي في بلاد الله الواسعة ، والدرس المدروس مازال قائماً في كتاب العبَّاس العبوس . وعلى رأي المثل : " فِضِي القـرد لِمَعْـط الجلـد " . وإنَّ أول الرقص ... دحلان ، يتبعـه فلان ثم عِـلان . . .
***
عزيزي القارئ : لاتظننَّ بي الظنون ، فإن بعض الظن إثـم ، وإنما هي كلمة حـق أردت بهـا أن تـنـوب عني في سـفـح الـدمـع على أطـلال مـاض كـفاحي مـجـيـد . أما السيـد مـحمـد دحـلان فإن كـنا نـدافـع عـنـه فيمـا شجـر بينـه وبيـن السيد الـرئيس محمـود عـبــاس ، فليس معـنى هـذا أننا نـوافـقـه في كل ما صـدر مـنـه ، وإذا كنا لا نبخسه حـقـه في بعـض الجـوانب فإنـنا أيضاً لا نـبـرئـه في جـوانـب أخـرى ؛ فـقـد شـارك بمعـوله في هــدم الـبناء المـرتـقـب مـرتيـن : الأولى بتـوليـه رئـاسة جهـاز الأمـن الوقـائي فـي قـطاع غــزة ...ومـا أدراك ما الأمـن الـوقـائي !!! . والحـمـد لله أن عـوضنا عـنه بثلاث مـدارس بـنتـها وكالـة الأمـم المـتحـدة على أرضه ، يتعـلـم فـيها ما ينـوف عـن ثـلاثـة آلاف طالـب وطالبـة بـدلاً مـن الكــم الـهـائـل مـن المساجيـن الذيـن تـقـلَّـبوا في العـذاب ، وتجـرعـوا كـؤوس الـذل والقـهـر والهـوان . أمـا الثـانـية فبـانهـزام هــذا الجهـاز وهـروبـه يــوم الانـقـلاب الـفـظـيـع مـع سـائـر الأجهـزة الأمـنيـة ، تاركـيـن وراءهـم رتبهم العسكرية ونياشينهم الحربية وشعـباً يتـقـلـب عـلى جـمـرالـنار ... الـنار . وبـرغـم ذلك كلـه ، فإنـنا لانـقــبـل ولا نـرتضي أن يـُعـاقـب مـحمـد دحـلان أو أي إنسـان فـلسطيني– مُعارض للسلطـة أو مـؤيـد لها – بالإبـعـاد أو الـنـفي عـن بـلـده وأهـلـه كـما كان الاحـتـلال الإسرائيـلي يُعـاقِـب بـه الوطنيـيـن مــن أبـناء شعــبنا دون محاكمة عـادلة .
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت