لقد كان القضاء الشرعي في فلسطين هو المرجع الوحيد للفصل في جميع الخصومات وقطع المنازعات سواء كانت الجنائية منها او الشرعية او المدنية وكان النظام القانوني في أوائل الدولة العثمانية وقبلها مبنيا على مباديء وأحكام الشريعة الاسلامية والأعراف والقرارات الصادرة عن السلطان، حيث يتخذ هذا النظام مبدأ تعدد القضاة في البلد الواحد طبقا للمذهب السائد، فكان في القدس مثلاً قاضي حنفي وآخر مالكي وقاضي شافعي وآخر حنبلي الى أن اتخذت الدولة العثمانية المذهب الواحد وهو الحنفي في جميع معاملاتها، وكان القضاء الشرعي هو صاحب الاختصاص العام والشامل لكل المنازعات وله الولاية المطلقة على جميع رعايا الدولة العثمانية ولم يكن ثمة قضاء آخر غير القضاء الشرعي، ولكن بعد أن تولى السلطان عبد المجيد خان سنة 1839م خلافة الدولة العثمانية أصدر المرسوم الاصلاحي الذي عرف "بخط كلخانة" وبموجبه عمل على وجود قوانين وضعية بجانب أحكام الشريعة الاسلامية ولأجل ذلك أنشأت المحاكم النظامية بجانب المحاكم الشرعية وفوضت اليها النظر في مختلف الدعاوى التي كانت تختص بها المحاكم الشرعية باستثناء مسائل الأسرة التي اصطلح على تسميتها بالاحوال الشخصية كالزواج والطلاق والنفقات والحضانة والارث والوصية والهبة والحجر ونحو ذلك من المسائل التي تفصل فيها المحاكم الشرعية في فلسطين أو تسجيل الحجج المتعلقه بمعاملاتها والتي بقيت من اختصاص القضاء الشرعي الى يومنا هذا، والمعلوم أن السلطة الوطنية الفلسطينية عندما قامت واجهت بنية قانونية غير سوية حيث وجدت نظام قانوني وقضائي في قطاع غزه يختلف عن النظام القانوني والقضائي في الضفة الغربية فقد كانا عبارة عن مزيج فمنها ماهو عثماني ومنها ماهو بريطاني ومنها ماهو مصري ومنها ماهو أردني اضافة الى الاوامر العسكرية الصادرة عن جيش الاحتلال الاسرائيلي والتي طبقت على الضفة الغربية وقطاع غزه عام 1967م، وكان لكل هذه القوانين مدارسها ومناهجها.
وعلى ذلك فان القضاء الشرعي الفلسطيني ورغم اختصار اختصاصاته في الاحوال الشخصية الا ان هذا الجانب لايقل أهمية عن الجوانب الاخرى في عمل القضاء بل يكاد يكون أهمهم لما للأسرة من أهمية كبرى في بناء وتكوين المجتمع الفلسطيني وحجر الزاوية فيه وبثباتها واستقرارها يتحقق الأمن والاستقرار للمجتمع ولما يميز الأسرة الفلسطينية عن باقي المجتمعات الاخرى من انها ترزح تحت احتلال ومحاولة هدم لبنيانها وتقسيم لكيانها واستيطان لارضها وتفتيت لنواتها فيتوجب عليها أن تكون متماسكة ومتوحدة أمام ذلك بل وصامدة وصابرة لثني الاحتلال عن تطلعاته الهدامة ولابد ان يساعد هذه الاسرة في ذلك جهاز القضاء الشرعي الفلسطيني و مجهوداته ونجاعتها في الحفاظ على كيان الاسرة الفلسطينية .
ولكن إذا نظرنا إلى الواقع الحالي للقضاء الشرعي خاصة بعد الانقسام الفلسطيني الفلسطيني نجد انه يتكون من قضائين، الأول : قضاء شرعي فلسطيني يقع في الناحية الشمالية للوطن " الضفة الغربية" ويسمى " ديوان قاضي القضاة – المحاكم الشرعية" ويطبق مزيجاً من القوانين الأردنية كقانون الاحوال الشخصية الاردني رقم"61" لسنة 76 وقانون اصول المحاكمات الشرعية رقم "31" لسنة59 وقانون تشكيل المحاكم الشرعية رقم "19" لسنة 72 بالاضافة الى القرارات والتعاميم الصادرة عن قاضي القضاة قبل احالته للتقاعد او نائبه حاليا حيث ان المكان شاغرا حتى الان وان مرسوما صدر عن رئيس السلطة بتعيين نائب قاضي القضاة رئيسا للمحكمة العليا الشرعية ورئيسا للمجلس الأعلى للقضاء الشرعي دون الافصاح عن تسمية او تعيين قاضي القضاة وان ذلك يعني ان قاضي القضاة بعد تعيينه- إن تم- سيكون منصبه اداريا فقط . والثاني: قضاء شرعي فلسطيني في الناحية الجنوبية من الوطن " قطاع غزه" ويسمى "ديوان القضاء الشرعي" ويطبق ايضا مزيجا من القوانين المصرية كقانون الاحوال الشخصية على مذهب الامام ابي حنيفه وقانون حقوق العائلة المصري الصادر بالامر رقم 303 سنة 54 وقانون اصول المحاكمات الشرعية رقم 12 لسنة 65 بالاضافة الى القرارات والتعاميم الصادرة عن رئيس مجلس القضاء الشرعي في ديوان القضاء الشرعي بغزه وعلى اعتبار انه لايوجد قاضي قضاة والغاء هذا المنصب في غزه بعد الانقسام الفلسطيني حيث ان المحاكم الشرعية في غزه منفصلة تماما عن المحاكم الشرعية في الضفة ولايوجد اي اتصال مهني او تعاون عملي بينهما بعد الانقسام الا في حدود بعض التبليغات الشرعية الضرورية التي تتم بين المحضرين. علما ان هذه القوانين المذكورة قد الغيت في " الاردن ومصر" من عشرات السنين وقاما اصحابها بتطوير قوانين أخرى اكثر واقيه مع تطور مجتمعاتهما.
هذا هو واقع القضاء الشرعي الفلسطيني منقسم على نفسه بجهازين للقضاء الشرعي لاعلاقة او ترابط ببعضهما إلا ما يتقاضاه بعض قضاة غزه من رواتب من السلطة الوطنية في رام الله دون أداء اي عمل طبقا للتعليمات الصادرة لهم من الضفة على اعتبار انهم موظفون يتبعون للرئيس مباشرة. ولذلك فإننا في فلسطين مبتلين بجهاز قضائي بحاجه الى توحيد بين شطريه والى نظر ورعاية وتطوير حتى نصل الى قضاء شرعي متميز وعادل يؤدي دوره في خدمة المجتمع ويحافظ على كيانه ووحدته ويؤدي رسالته الفضلى في تنصيب ميزان العدل وصون ووصول الحقوق الى الناس وازالة المفسدة ودفع الضرر والظلم عنهم وفي حفظ الحقوق العامة وحقوق الضعفاء والأرامل والمطلقات واليتامى والنظر في أوقاف المسلمين ووصاياهم بالعدل والمصلحة.
ولأجل ذلك وحيث اننا نعيش في ربيع واجواء المصالحة الفلسطينية ولم الشمل لتوحيد شطري الوطن واعادة اللحمة لمؤسساته ومن خلال خبرتي المتواضعة ودراستي للقضاء الشرعي الفلسطيني فانني أضع تصورا شاملا واطارا مقترحا لتطوير القضاء الشرعي الفلسطيني يعيد له مكانته ووحدته ويعطي القضاة الشرعيون هيبتهم ومكانتهم ويمكن المتقاضين والمراجعين من انجاز معاملاتهم بسهولة ويسر لافرق بين شمال وجنوب أوهذا أوذاك سواء في الاجراءات او تطبيق القوانين وتباينها ، وان هذا التصور والتطوير يكمن في الآتي:
أولا: تطوير الجهاز الاداري
1- مدير عام الشئون الادارية يتبع قاضي القضاة رئيس المجلس الاعلى للقضاء الشرعي مباشرة ويختص بالاشراف الاداري التام على كافة موظفي المحاكم الشرعية بمهنية ادارية عالية وخبرة تخصصية في مجال الادارة على ان ينشأ في كل محكمة شرعية مدير اداري له تبعية ادارية مشتركة فيكون اولا تابع للقاضي الاداري الاول في المحكمة الشرعية وتبعية اخرى لمدير عام الشئون الإدارية.
2- رئيس المحكمة الابتدائية الشرعية يتولى العمل الاداري الخاص بقضاة المحكمة التي يرأسها ويتبع قاضي القضاة رئيس المجلس مباشرة بالاضافة لاختصاصه القضائي.
3- إن فصل منصب قاضي القضاة و اعتباره المشرف الاداري فقط على المحاكم الشرعية، وان رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي رئيس المحكمة العليا الشرعية هو المسئول قضائيا فيه انتقاص وتقزيم للمنصب وسيسبب تنازع صلاحيات في طريقة ادارة الجهازين - الاداري والقضائي- مما يعمل على وجود عقبات تحد من تطور الجهاز والحل الامثل هو دمج منصب قاضي القضاة مع رئيس المجلس رئيس المحكمة العليا الشرعية في شخص واحد يدير الجهاز كاملاً.
4- يجب أن يقوم العمل الاداري في المحاكم الشرعية على مبدأ الاختصاص والمهنية والمشاركة لان معظم العمل الاداري في المحاكم الشرعية يختلط به العمل القضائي ورئيس القلم مثلا قد يكون قاضيا في المستقبل ولاجل ذلك لابد من انتقاء عناصره على أسس مهنية متخصصه كل حسب أداء عمله ومؤهله وحثه على التحصيل العلمي والاداري والتخصصي للموجودين حاليا عن طريق الدورات الادارية المتخصصه في الاعمال الكتابية لزيادة كفاءتهم ثم اعادة تقييم وتبادل مناصبهم كل حسب اختصاصه وخبرته وأدائه .
5- إنشاء دائرة للتخطيط والتطوير الاداري وفقا للقوانين المرعية المتبعة يتولاها كفاءات في هذا التخصص حتى يواكب القضاء الشرعي الريادة والتطور والتميز في كل وقت وزمن.
6- انشاء نظام الحوسبة وربط جميع محاكم فلسطين بنظام محوسب حتى يسهل تقديم الخدمات للناس بسهولة ويسر من ناحية ومن ناحية أخرى اصدار الحجج والمعاملات وعقود الزواج ووثائق الطلاق والتركات وغيرها على بينة و بدقه ويسر وعدم تدليس اوتزوير او ازدواجية في اصدار هذه المعاملات.
7- انشاء مجمعات للمحاكم الشرعية في الاماكن التي بحاجة اليها واغلاق المحاكم الصغيرة التي لافائدة منها ويمكن الاستغناء عن خدماتها ونقل عملها الى محاكم اكبر وذلك توفيرا للمال والجهد لان في وجودها تكلفة غير مبررة وتشتيت وضياع للوقت والجهد على ان يكون ذلك من خلال دراسة تقدم من خلال دائرة التخطيط والتطوير الاداري.
ثانيا: تطوير الجهاز القضائي
1- دمج منصب قاضي القضاة مع رئيس المجلس رئيس المحكمة العليا واعتبار ان قاضي القضاة هو ( رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي رئيس المحكمة العليا الشرعية) وهو منصب قضائي بحت يأخذ كافة امتيازات قاضي القضاة وصفاته وبدرجته وراتبه الحاليين على أن يتقلد هذا المنصب شخصية مستقلة ومؤهلة ذات خبرة كافية في عمل القضاء الشرعي سواء كان ذلك من داخل الجهاز او خارجه بشرط وجود الخبرة القضائية. ويكون هو المشرف العام القضائي والاداري في كل مايتعلق بالقضاء الشرعي في فلسطين
2- اعادة تشكيل المجلس الأعلى للقضاء الشرعي وفقا للقرارات التي تنظمه والأخذ في الاعتبار بتشكيل لجنة لانشاء مشروع قانون للمجلس الأعلى للقضاء الشرعي وعرضه بالسرعة الممكنة على المجلس التشريعي لاقراره .
3- للتخفيف على المراجعين والمتقاضين أقترح انشاء دائرة خاصة بالتركات وحصر الارث وتقسيم المواريث ونقل قضاة مختصين لها مع الجهاز الاداري الخاص بذلك تتولى تقسيم التركات وتوزيعها والاشراف عليها وفق القواعد والنظم والقوانين المختصة .
4- ان يتم تشكيل لجنة قضائية من قضاة المحكمة العليا لاعادة اختبار جميع القضاة الذين تم تعيينهم بعد تاريخ الانقسام 15/6/2007 سواء في الضفة الغربية أو قطاع غزه وفحص مؤهلاتهم واعادة تأهيلهم ووضع كل شخص منهم في مكانه المناسب سواء القضائي او الاداري مع مراعاة سنه القانوني لتولي القضاء ومؤهلاته وصفاته الشخصية والخلقية واستقامته والاطلاع على تاريخه وشخصيته وخبرته في المحاكم الشرعية حسب الاصول المتبعة.
5- العمل على اعادة تأهيل جميع قضاة المحاكم الشرعية عن طريق الدورات التدريبية في معهد القضاء" بوزارة العدل" وان يفرض على كل قاضي عدد من الدورات المتخصصه في مجال اصول المحاكمات الشرعية والأحوال الشخصية والمواريث والتوثيقات وأحكام الزواج والطلاق والارشاد الاسرى ودورات أيضا متخصصه بالكمبيوتر واللغة والعبادات وأحكام التلاوة والخطابة وزيادة معرفتهم بالوطن والقدس والقضية الفلسطينية.
7- عدم التدخل في عمل القضاء الشرعي من أي جهة كانت ولاسلطان على القضاء الشرعي الا بالقانون، والقضاة مستقلون ومحصنون قضائياً في أعمالهم طبقا للقانون والسلطة القضائية سلطة مستقلة وان تفعيل عمل دائرة التفتيش القضائي بطريقه مهنية هي الأمثل لمراقبة عمل القاضي من الناحية الفنية، وان المجلس الأعلى للقضاء الشرعي هو المراقب والمحاسب والمشرف على سلوك القاضي الشرعي وأعماله حسب نظام المجلس.
8- العمل الجاد والاسراع في اعادة مناقشة مشاريع القوانين التي اعدت من الجانبين " ضفة وغزه " وتوحيدها رغم انها قد اعدت مسبقا وتم مناقشتها وهي جاهزه لعرضها على التشريعي بعد التئامه لاقرارها الا انه لامانع من تجديد المناقشه فيها بجدية والاسراع في اقرارها كقانون الاحوال الشخصية والاصول وتشكيل المحاكم وغيرها.
وأخيرا أسأل الله ان يجنبنا الزلل ويتقبل منا العمل وأوصي نفسي وأخواني وزملائي " القضاة الشرعيون" بتقوى الله في السر والعلن فالمطلوب قضاة متمسكون بعقيدتهم الاسلامية وأخلاقهم المثالية ظاهرين على الحق ماسكين لميزان العدل بأيد لا ترتجف وقلوب تحركها خشية الله تعالى يشعرون بحجم ثقل المسؤولية التي مكنهم الله تعالى بحملها والبعد عن التجاذبات السياسية الفلسطينية الداخلية وعدم اقحام القضاء فيها واعطاء النموذج للقضاء الشرعي الفلسطيني التي باتت فلسطين بل والأمة بأسرها بحاجة اليه للتأكد على تطبيق الشريعة الاسلامية في كل فلسطين وفي ظل الربيع العربي للحفاظ على القدس والمقدسات الاسلامية.
****
الكاتب: الشيخ القاضي د. ماهر خضير
قاضي المحكمة العليا الشرعية – فلسطين
دكتوراة الفلسفة في )الفقه الاسلامي( تخصص قضاء شرعي
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت