أنهى الفلسطينيون والإسرائيليون ما أسمي "اللقاءات الاستكشافية" التي جرت فيعمّان برعاية أردنية، من دون تحقيق أي تقدم في أي من الملفات التفاوضية، فيوقت رفض الرئيس محمود عباس إعطاء موقف نهائي من لقاءات عمان، لكنه تعهد في تصريحات أعقبت لقاءه العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني في عمان، تقويم هذه اللقاءات لاتخاذ الاجراءات اللازمة، عارضاَ استئناف المفاوضات في مقابل موافقة إسرائيل على ترسيم الحدود. أما إسرائيل من جانبها فقد طالبت الجانب الفلسطيني بمواصلة هذه اللقاءات، معتبرة أن الأشهر الثلاثة التي حددتها اللجنة الرباعية الدولية للجانبين لتقديم رؤيتيهما للحل في موضوعي الأمن والحدود، تنتهي مطلع نيسان (إبريل) المقبل،لكن الجانب الفلسطيني قال إن المفاوضات انتهت يوم 26 كانون الثاني (يناير) الماضي، مشيراً الى أن اللجنة حددت هذه المدة قبل ثلاثة أشهر.
وكان قد بدأ التمهيد لعقد اللقاءات التفاوضية في عمان، سيل من التلميحات "الترغيبية" للقيادة الفلسطينية، عبر مسؤولين أردنيين، وكذلك أطراف في اللجنة الرباعية، إلى إمكانية قيام إسرائيل باتخاذ "بوادر حسن نية" بعد عقد الجلسة الاستكشافية الأولى، من قبيل نقل مناطق في الضفة إلى السيادة الفلسطينية، إضافة إلى رفع بعض الحواجز، وإعلان إسرائيل قبول فكرة إطلاق سراح معتقلين فلسطينيين كبار في المرحلة المقبلة. إلاّ أن إسرائيل تراجعت عن تنفيذ هذه "البوادر"، التي كانت قد وافقت عليها، قبل بدء "اللقاءات الاستكشافية"، وذلك بعد أن تسلمت ورقة من القيادة الفلسطينية تتحدث عن رؤيتها لحل ملفي الأمن والحدود، والتي تزامنت مع رفض القيادة للبنود الـ 21 التي قدمها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لحل هذين الملفين، حيث ربطت إسرائيل بعد ذلك قيامها باتخاذ أي بوادر حسن نية،ببدء المفاوضات المباشرة من جديد. وقد اتضح من رد الرئيس الفلسطيني ووصفه لتلك البنود بأنها عبثية، أن إسرائيل تريد الإحتفاظ بسيطرتها على مناطق الأغوار، وكذلك رفضها تقسيم مدينة القدس، وإبقاء سيطرة جيشها على المعابر،ورفضها إجراء أي عملية تسليح لقوات الأمن الفلسطينية، وإبقاء سيطرتها على كل الاتصالات السلكية واللاسلكية في مناطق السلطة.
لكن ما ذكر عن تقديم المفاوض الإسرائيلي عرضا لإقامة "دولة فلسطينية"، من دون القدس بشطريها الشرقي والغربي، مع الاحتفاظ بالأغوار، وتبادل أراض للإبقاء على الكتل الاستيطانية في مكانها، وتتبيعها لكيان الاحتلال الإسرائيلي داخل ما يسمى "الخط الأخضر"، لا يبقي للفلسطينيين سوى كانتونات متفرقة خلف الجدار، لا يمكنها أن تشكل مقومات دولة؛ ناهيك عن كونها مستقلة، كل هذا لا يعد خروجا على موضوعة "الإجماع الصهيوني" التي يتمسك بها نتانياهو، دأبه في ذلك دأب كل الحكومات الإسرائيلية التي أدمنت المماطلة، وشراء الوقت بمزيد من الاستيطان، والاستيلاء على المزيد من أراضي الفلسطينيين.
وهكذا في كل مرة تنتهي جولة من جولات التفاوض بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، تحمّل هذه الأخيرة المسؤولية الكاملة عن الفشل لإسرائيل، وهذا ما حصل مؤخرا في أعقاب التسليم بفشل لقاءات عمان "الاستكشافية"، نظرا لاستمرار وتواصل الاستيطان، واقتطاع المزيد من الأراضي الفلسطينية، والإعلان دائما عن عدم التخلي عن أي جزء من القدس بشطريها الشرقي والغربي، مع الاحتفاظ بمنطقة الأغوار، بما يعني عدم إبداء أي استعداد للاعتراف بدولة فلسطينية في حدود العام 1967، والعمل على النقيض من ذلك، عبر التلويح باستعداد إسرائيلي للاعتراف بـ "دولة الجدار"، كما اتضح من مقترحات المفاوض الإسرائيلي الشفوية "إسحاق مولخو" أثناء مفاوضات عمان الاستكشافية، فأين الاستكشاف في ما بات معروفا ومعلنا من مواقف إسرائيلية، لم تتغير طوال كل جولات التفاوض، مع أكثر من حكومة وائتلاف حكومي إسرائيلي؟.
في مواجهة الموقف الإسرائيلي الواضح، ماذا يمكن للجنة المتابعة العربية أن تضيف الآن أو في الغد، من مواقف تتجاوز فيها مواقفها السابقة؟ وهي التي لا تجد في جعبتها في كل مرة يطلب الفلسطينيون "استشارتها" سوى التوصية باستمرار عملية التفاوض على اختلاف مسمياتها: المباشرة وغير المباشرة، المتوازية، الاستكشافية، أو تلك التي اقترحها الملك الأردني مؤخرا، تحت عنوان "المفاوضات من بُعد" أي تلك التي لا يتواجه فيها الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي، بل يمكن للأردن أن يكون صلة الوصل بين الجانبين، عبر نقل وجهات نظر كل طرف إلى الطرف الآخر.
مرة أخرى يعود الوضع الوطني الفلسطيني، إلى مربع "البحث" و"دراسة" عدد من الخيارات التي جربت والتي لم تجرب بعد، ما يعيدنا إلى القاعدة الأساس، أي جوهرية الكفاح الوطني الفلسطيني كحركة تحرر وطني، لا ينبغي لها أن تغيّب أساليب وطرق الكفاح التي ينبغي أن تنتهجها؛ تكتيكية وإستراتيجية،مُعلنة وليست مضمرة أو مراوغة، أو يمكن إبرازها غبّ الطلب، فما هكذا يمكن لقيادة حركة تحررية أن تتصرف وتصرّف أمور شعبها وكفاحاته الوطنية في كامل خريطة تواجده؛ داخل الوطن وخارجه، فالمسألة الفلسطينية هي قضية وطنية عامة، لا يمكن اختزالها إلى مسألة قسم محدد من أقسام هذا الشعب الرازح تحت الاحتلال، ما يضع على عاتق التمثيل القيادي لهذا الشعب مسؤوليات أرقى وأشمل وأعم؛ مما يجري اليوم في ساحات الوطن والشتات القريب والبعيد.
ها هنا مربط فرس المأزق القيادي الفلسطيني غير المتصالح مع نفسه، فكيف يمكن له أن يواجه أعداءه واحدا موحدا في غياب إستراتيجية وطنية واضحة، وفي حضور تكتيكات تجريبية، لا تعكس إلاّ حضورا عربيا هزيلا ومفككا، وتواطؤا دوليا مكشوفا يصطف إلى جانب سيرورات تفاوضية، لم يعد فيها من جديد يمكن استكشافه، أو جديدا يولد كنتاج لـ "مفاوضات من بُعد"، في ظل تسوية تستحيل اليوم حطاما، على أيدي ائتلاف حكومي إسرائيلي، ليس لديه ما يخفيه، وما يعلنه اليوم كما بالأمس، وفي الغد لن يتجاوز أكذوبة أنه شريك تفاوضي يُعتدّ به، وأن الطرف الآخر – الفلسطيني – يرفض ما يُعرض عليه؛ ولو كان "دولة" سجينة في إطار الجدار.
وإذ جرى ويجري التحايل والالتفاف حول مسألة المفاوضات؛ استئنافها مرة بشكل مباشر، ومرات بطريقة غير مباشرة، وأحيانا في الفترة الأخيرة درجت تعابير من قبيل "المفاوضات المتوازية"، أو "المفاوضات الاستكشافية" أو "المفاوضات من بُعد" وهي كلها ذات مضمون واحد؛ لا يتعدى الهروب من توصيف واقعي للأمور التي بلغت حدود المأزق لدى الجانبين، فلا السلطة الفلسطينية وقيادتها قادرة على تحمل قرار الإعلان عن انسحابها من سلسلة مراوغات حكومة اليمين المتطرف، ولا قيادة هذه الحكومة قادرة هي الأخرى على منح "اللا شريك التفاوضي"، ولو حدا أدنى من بوادر "حسن نية"، جرى الحديث عنها في وقت سابق، كنوع من الترغيب، وإذ بالمسألة على طاولة المفاوضات تتحول إلى نوع من الترهيب، عبر رفض ورقة القيادة الفلسطينية التي تتحدث عن رؤيتها لحل ملفي الأمن والحدود. فإلى أين من هنا وحتى آذار أو نيسان القادمين؛ سوى استمرار "الستاتيكو التفاوضي" على حاله، والمواقف على حالها، بينما يواصل غول الاستيطان ابتلاع المزيد من الأرض، في ظل تشدد "الإجماع الصهيوني" ودعمه لائتلاف حكومي، يزداد تطرفا واستمساكا برفض "حل الدولتين" الذي وعد به كذبا خطاب بار إيلان، وها هو يكشف عن نتانياهو مراوغ وكاذب، حسب تعبير يوسي بيلين.
ولهذا ذهبت افتتاحية هآرتس يوم 29 يناير الماضي للقول ان شهادة وفاة المفاوضات، على أساس مبدأ دولتين للشعبين، هي شهادة فقر للمجتمع المدني الإسرائيلي. إذ من الصعب أن نفهم كيف وقع مجتمع نجح بصورة مدهشة في أن يجعل عدم تحقق العدل الاجتماعي في رأس سلم أولوياته، ضحية صرف انتباه آثم عن قيادة شوفينية دينية، وعجز معارضة عديمة المسؤولية.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت