هذا هو الإسلام..المصالحة والوحدة الوطنية /الشيخ تيسير رجب التميمي

بقلم: تيسير التميمي

بداية أبارك لشعبنا الفلسطيني التوقيع على إعلان الدوحة قبل أيام ، الاتفاق الذي سيسهم بالإرادة الصادقة والعزيمة المخلصة في تحقيق المصالحة الوطنية ، وفي تعزيز الوفاق الوطني والمجتمعي بين الفلسطينيين ، وفي ترسيخ الوحدة والاتحاد الذي فرضه علينا ديننا الحنيف .


 


     تكثر في القرآن الكريم الآيات المحكمات ، الآمرة بالاجتماع والناهية عن التفرق ، وتكثر مثلها الأحاديث الصحيحة البليغة في السنة النبوية الشريفة ، حتى أصبحت الوحدة من المسلمات ، حتى استقرت الوحدة في ضمير كل مسلم ، وأصبحت الجماعة والاجتماع من ضروريات الدين ومحكماته ، والدليل التطبيقي على ذلك فرائض الصلاة والحج والصوم والأعياد وغيرها من العبادات والطاعات التي تجسد الاتحاد والاجتماع .


     ففي الكتاب العزيز قال تعالى {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}آل عمران 103 .


 


     وهذه الوحدة والأخوة أساسها الاعتصام بعهد الله ونهجه وكتابه ، فالأمة الواحدة ليست مجرد عدد من الأشخاص يجتمعون على بقعة من الأرض بغير ركيزة أو هدف ، بل هي وشائج ربطت بينهم وانعقدت عليها ضمائرهم وأرواجهم  وهي نعمة عظيمة ومنة ثمينة وهبها الله تعالى لعباده ؛ أن جمع قلوبهم المتنافرة ، ووحد صفوفهم المتناحرة ، وأطفأ حروباً كان المغرضون ينفخون في نارها ، وأنجاهم من الهويِّ في نار الفتنة ونار الفرقة ونار الهزيمة .


 


     ومعلوم أن هذه النعمة لن ترضي الأعداء المتربصين بالأمة ، ولن توقف مكائدهم وأحقادهم ضدها ، بل سيجتهدون في بعث الأحقاد والنبش عن الأخطاء ، ولذلك وجب الحذر البالغ من الفرقة وعاقبتها ، وفي التاريخ عبرة تستخلص ودرس يستفاد ، فمن الأمم من حملت منهج الله لكنها تفرقت وتنازعت واختلفت على الثوابت والأصول رغم وضوحها ، ولم تعد أهلاً لهذه التبعات والمسؤوليات ، فانتزعت منها الراية ليتسلمها من يمتلك الأهلية والاقتدار ، قال تعالى {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}آل عمران 105 .


 


     والأمة المسلمة كغيرها من الشعوب والمجتمعات إن لم تحذر فستخسر وسيصيبها ما أصاب غيرها من الأمم ، فهي سنة اجتماعية لا تتوقف ، إذ إن التنازع بداية الهزيمة والانهيار ، قال تعالى {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}الأنفال 46 .


 


     وأما في السنة النبوية المشرفة فالرسول صلى الله عليه وسلم يحذر من الخلاف والفرقة ، ويحث على وحدة الكلمة ، وينذر من يخالف وينشق { أن يلقى الله تبارك وتعالى وليست له حجة } رواه أحمد ، ويعتبر مفارقة الجماعة قريناً للكفر لما يترتب عليها من إضعاف الصف وتضييع الهدف ، قال صلى الله عليه وسلم { ليس أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتة جاهلية } رواه البخاري ، وهذا مما يغضب الله تعالى منا ، فلا يرضيه عز وجل غير وحدتنا ، قال صلى الله عليه وسلم { إن الله يرضى لكم ثلاثاً ... وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا } رواه مسلم ، فالتماسك في الجماعة أول أسباب النجاة من الهلاك ، قال صلى الله عليه وسلم { عليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية } رواه أبو داود .


 


     وفي كل عصر تحتاج الأمة إلى التماسك والترابط ، ووصولاً إلى هذه الغاية لا بد لها من اتباع السبل التالية :


أولاً : الحرص على تنقية القلوب من الكراهية والأحقاد ، وتحرير النفوس من الضغائن والبغضاء ، وإحلال التسامح والتغافر والتعاذر والتراحم محلها ، هذا ما ينبغي أن تكون عليه دخيلة المؤمنين وذوات صدورهم ، قال تعالى { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بينهم}الفتح 29 ، والمؤمنون دائماً تلهج ألسنتهم بالدعاء لربهم عز وجل أن يطهر نفوسهم من هذه الفواحش الباطنة ، قال تعالى {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}الحشر10 .


 


ثانياً : التعاون على البر والتقوى , وترك التعاون على الإثم والعدوان ، والتذكير بذلك فإن الذكرى تنفع المؤمنين الذين يتميزون بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر ، قال تعالى {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}  العصر1-3 .


 


ثالثاً : العمل ما أمكن في خطوط متوازية ومتضافرة ومتعاضدة غير متناقضة أو متقاطعة أو التعاند بين هذه الأعمال بعيداً عن افتعال الخصومات أو تطوير النزاعات إلى صراعات تحلق الدين ، وإلاَّ ضاعت الجهود بلا جدوى وذهبت الطاقات أدراج الرياح ، قال تعالى {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}الفرقان 23 ، وهذا مما يُقعِد الناس عن العمل بسبب فقدان الأمل ، ويحدث التردد والضعف والبعد عن التوتر والإحباط وطلب السلامة والنجاة بالنفس .


 


رابعاً : إحياء مبدأ النصيحة والنصرة الذي تضمنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم { انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً } فقال رجل : يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوماً ؛ أفرأيت إذا كان ظالماً كيف أنصره ؟ قال { تحجزه أو تمنعه من الظلم ؛ فإن ذلك نصره } رواه البخاري .


 


     وهذا مسلك الرسل والأنبياء والصالحين ، فهارون يقول لأخيه موسى عليهما السلام {يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}طه 94 ، فقد نظر هارون إلى المسألة نظرة ثاقبة ، ورأى ألاّ يثير قضية - على أهميتها - قد تفرق قومه في غياب القائد الأعلى والرسول الأول ، وآثر أن يبقى معهم حتى يعود زعيم ورئيسهم فيتخذ القرار الصائب ، ولهذا فقد قال العالم قتادة عند تفسيره هذه الآية : قد كره الصالحون الفرقة قبلكم .


 


     إن بناءَ الوحدة والأُخوة بين أبناء الأمة والمجتمع على الأصول المشتركة ووحدة الكلمة ضمانات قوية لديمومتها واستمراريتها وحماية لها من التصدع والانشقاق والانهيار ، فإذا كانت الوحدة مبنية على هذه الأصول الثابتة غير القابلة للتغير فإنها ستكون حقاً وحدةً راسخة ثابتة مستقرة لا تتغير بالمتغيرات ، ولا تنتزع من المهج والأرواح مهما كانت التضحيات ، وسيكون أهلها بمأمن من الفرقة والاختلاف ، وبمنجاة من الضعف أو الاستضعاف .


 


     ولأن المصالحة يجب أن تهدف بالدرجة الأولى إلى الوحدة الوطنية ورصّ الصفوف لمواجهة التحديات ، فحاجتنا اليوم ماسة إلى ضرورة تنفيذ بنودها والإسراع في ذلك ، فالجميع مدعوون إلى التجاوز عن الأحقاد وما سببت من غل ، وإلى التسامي على الخلافات والوقوف في خندق واحد ، وتجنب التشاغل ببعضنا ، وإلى نبذ الخلافات وتغليب المصلحة الوطنية على كل مصلحة لتحقيق آمال شعبنا الصابر المرابط في دحر الاحتلال ونيل الحرية والاستقلال ، وإقامة دولتنا المستقلة وعاصمتها القدس المباركة ، ولنعلم أن صمود هذا الاتفاق رهن بالتزام بنوده وتنفيذها ، وخير الجميع من يبدأ بذلك ويسارع فيه ويواصل التمسك به ولو من طرف واحد فالبادئ أكرم .


 


     فمن أهم الأسس الواجب علينا إرساؤها البحث عن نقاط الاتفاق لا عن نقاط الخلاف ؛ وأن نضع الخلافات والرؤى والطموحات الخاصة جانباً ، فيكون عملنا من أجل المصلحة العامة التي هي هدف الجميع ، وأن نفكر أولاً بأن في الاتحاد قوة وفي التفرق ضعف وزوال .


 


     فالمطلوب من الجميع الصفح والسمو والتسامي وطي صفحات الماضي ، وفتح صفحة جديدة من العلاقات القائمة على التفاهم والتقارب بين الإخوة الذين يناضلون جميعاً لهدف واحد ، قال تعالى {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ}النور 22 ، وإننا يحدونا أمل كبير باحترام الجميع لهذا الميثاق الذي تكلل بالنجاح بفضل دور مساعي الأشقاء في قطر وإخلاصهم وبذلهم جهوداً بالغة الأثر في إنجاح الاتفاق وصولاً إلى توقيعه ، فهذه هي الأخوة الصادقة ، قال تعالى{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}الحجرات9 ، فقد استحضروا قوله تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}الحجرات 10 ، واستلهموا قوله صلى الله عليه وسلم { أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلاةِ وَالصَّدَقَةِ ؟ قَالُوا بَلَى ، قَالَ صَلاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ ، لا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ } رواه الترمذي .


 


الشيخ تيسير رجب التميمي/ قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت