في ذكرى انتصار الثورة السياسة الخارجية الإيرانية بين الأيديولوجية والبراجماتية../د. علاء مطر

تعتبر السياسة الخارجية للدول عبارة عن مجموعة من الأهداف السياسية التي تحددها للتواصل فيما بينها، سعياً إلى حماية مصالحها القومية. وعادة ما يحدد السياسة الخارجية مؤسسات صنع القرار في الدولة مع الأخذ في الاعتبار عند تحديدها العوامل المؤثرة فيها. وبما أن الأهداف المعلنة في السياسة الخارجية تختلف في كثير من الأحيان عن الممارسة، فمن الضروري التفريق بين ما تعلنه الدول من أهداف لسياساتها الخارجية وبين سلوكها وممارساتها على الصعيد الخارجي، فتناقضات الواقع وتزاحم المصالح بين الدول تجعلها في عملية ترجيح بين المعلن والواقع. من هذا المدخل يمكن التعرف على السياسة الخارجية الإيرانية وتجاذبها بين الأيديولوجية والبراجماتية وذلك وفقاً لتطور المراحل التي مرت بها الجمهورية الإسلامية، والتحولات التي شهدتها، مع الأخذ في الاعتبار العوامل الداخلية والخارجية التي أثرت على صانع القرار في هذا الصدد.


 


في المرحلة الأولى من عمر الجمهورية والتي تطلق عليها إيران الثورة 1979-1989، تضمنت أهداف السياسة الخارجية الإيرانية عدداً من النقاط التي تعبر عن تداخل الشعارات والأهداف والمفاهيم بين الدفاع والأمن والسياسة الخارجية. فمن المحافظة على استقلال إيران وسيادتها على أراضيها إلى حرب مع العراق ودعم المستضعفين في مواجهة المستكبرين، ومن ثم إيجاد علاقات حسنة مع الآخرين إلى تصدير الثورة، ومن رفض الصلح مع الكفر وإخراج العالم الإسلامي من قبضة التكتلات العسكرية إلى إيجاد كتلة مستقلة، ومن تحقيق الأمن القومي الإيراني إلى مساعدة حركات التحرر في العالم.


 


إن هذا التداخل الثوري في المفاهيم والأهداف بين الدفاع والأمن والسياسة الخارجية، جعل النظام الحاكم في إيران يضع نظرية الاستضعاف أساساً للسياسة الخارجية. وهي النظرية التي تعتمد مبدأ التولي والتبري الإسلامي أساساً لتقسيم العالم إلى مستكبر ومستضعف والفصل بين الحكومات والشعوب في التعامل الخارجي. وقد اضطر النظام الحاكم أمام تعقد السياسة الخارجية وتداخلها مع السياسة الأمنية إلى وضع جيش حراس الثورة الإسلامية في خدمة السياسة الخارجية وتحقيق أهدافها سيما في مجال تصدير الثورة ودعم المستضعفين.


 


رغم أن السمة العامة التي ميزت النظام في هذه الفترة هي ثوريته، إلا أن مبدأ المصلحة كان حاضراً، فهذا المبدأ يعد أصيلاً في الفكر الديني الشيعي وطوق نجاة للمشرعين الأصوليين من الشيعة في ملاحقة الأحداث والتطورات. ومن ثم فإن النظام الثوري يراهن في بقائه واستمراره على هذا المبدأ، وهو لا يخشى من تداعياته السلبية على المجتمع لإحكام ضوابطه ووضوح فكرته التي ترتبط ارتباطاً عضوياً بمبدأ التقية الديني الذي ساعد على بقاء التشييع واستمراره على مر العصور.


 


ومع إقامة الشيعة الجمهورية الإسلامية في إيران، رفض الفقهاء التقية بمعناه القديم واستبدلوه بمبدأ جديد هو التقية السياسية. وفي هذا الإطار يمكن فهم السلوك السياسي الإيراني خاصة المتعلق منه في السياسة الخارجية، سواء في هذه الفترة أو التي تليها. فخلال هذه الفترة ورغم سيادة الشعارات الثورية على ما سواها ومناصبة دول الاستكبار العداء، لا سيما الولايات المتحدة، قام النظام الإيراني فترة الحرب الإيرانية-العراقية بالحصول على شحنات سلاح من الجانب الأمريكي، في مقابل مساعدة إيران في إطلاق سراح الرهائن الغربيين في بيروت.


 


وكمؤشر آخر على الاستناد إلى المصلحة على حسابات الأيديولوجية والمبادئ الثورية، هو عدم عمل الجمهورية بمبدأ التولي والتبري في علاقتها مع الدول الأخرى، حيث كان لديها ولسنوات طويلة علاقات حسنة مع الاتحاد السوفيتي وأبرمت معه المعاهدات، في حين كان من المفترض أن يتم الابتعاد عنه لأنه حسب هذا المبدأ يعد النظام السوفيتي كافراً لا يجوز التعامل معه. وانطبق الأمر ذاته على دول أوربا الشرقية وكوبا ونيكاراجوا، عليه فإن تغليب المصلحة أدى إلى تجاوز هذا المبدأ.


 


مع انتهاء الحرب الإيرانية-العراقية، بدأت إيران مرحلة جديدة من عمرها تتمثل بتحولها من إيران الثورة إلى إيران الدولة، حيث أصبحت الأخيرة في هذه المرحلة بأمس الحاجة للعالم الخارجي لإعادة بناء ما دمرته الحرب، فهي لا يمكنها القيام بذلك اعتماداً على الجهود الذاتية فقط، مما تطلب ذلك إعادة النظر في أهداف السياسة الخارجية الإيرانية، خاصة التي خلقت توترات مع العالم الخارجي. عليه بدأت إيران مرحلة جديدة عُرفت فيما بعد بالجمهورية الثانية تحت رئاسة رفسنجاني 1989-1997، حيث اعتبر الأخير أن التوتر في العلاقات بين إيران والدول الأخرى هو العامل الرئيسي في تقييد مسيرة التنمية الاقتصادية ونقل التكنولوجيا المتقدمة إلى إيران. لذا فإنه يقع على إيران ضرورة بذل قصارى جهدها في إطار المبادئ الثلاثة، العزة-الحكمة-المصلحة من أجل التقليل من الاصطدام والمنازعات على الصعيد الدولي. عليه أولت إيران الاهتمام بسياسة بناء الثقة المتبادلة وإزالة سوء التفاهم والقضاء على التهديدات السياسية والعسكرية والإقلال من الأزمات وإقامة علاقات مباشرة مع كافة الدول.


 


وقد قام رفسنجاني بالعمل على الانسحاب المنظم للأنشطة العنيفة خارج إيران ومراكز التوتر في العالم خاصة العالم الإسلامي، وأصبح الدعم الذي تقدمه إيران للحركات الثورية الإسلامية يخضع لمراجعات كثيرة، حيث انكمش دعم الحركات الثورية خارج العالم الإسلامي بشكل كبير وتركز في بعض الحركات الإسلامية وظل هذا الدعم يخضع لتقليص مستمر. وما يؤكد ذلك قيام رفسنجاني فترة ولايته الثانية، الفصل بين جيش حراس الثورة الإسلامية ووزارة الخارجية، حيث قام بسحب ممثل جيش الحراس من وزارة الخارجية وهو علي محمد بشارتي الذي كان يشغل منصب نائب وزير الخارجية وعينه وزيراً للداخلية ووضع بدلاً منه أخاه محمد هاشمي لكي يستكمل عملية الفصل، بعد تقليص دور الحراس في السفارات ومكاتب التمثيل الدبلوماسي في الخارج.


 


وفي المرحلة الثالثة من عمر الجمهورية والتي صعد فيها خاتمي للسلطة 1997-2005 والتي تعد استمراراً لسابقتها في عهد رفسنجاني من حيث التحول في الخطاب السياسي الإيراني باتجاه الانفتاح على العالم الخارجي وإيجاد الدعم لإيران بدلاً من العداوة. إلا أن هذه المرحلة تختلف نسبياً عن السابقة، فالشعار الأساسي المسيطر كان في عهد رفسنجاني هو إعادة البناء، بينما شعار مرحلة خاتمي يتمثل بالتنمية الشاملة، حيث نلاحظ تفاوتاً كبيراً بين الاثنين، فإعادة البناء مفهوم ذو بُعد داخلي في الدرجة الأولى، أما التنمية الشاملة فلها أبعاد إقليمية ودولية، إضافة إلى الأبعاد الداخلية. وقد قام خاتمي برفع شعار إزالة التوتر كوسيلة لإخراج إيران من عزلتها ودعم علاقاتها مع الدول الأخرى، ثم جاء إعلانه عن مشروعه لحوار الحضارات الذي شكل مفارقة كبرى في توجهات إيران تجاه العالم عما كان عليه الحال سابقاً. وهذا ما أكده خاتمي عملياً بعد انتخابه لرئاسة إيران عام 1997، بفتحه حوار مع الشعب الأمريكي عبر شبكة "سي.أن.أن" الإخبارية الأمريكية. إذاً فقد تركزت أهداف السياسة الخارجية في عهد خاتمي في إزالة التوتر مع الدول الأخرى، لا سيما من خلال فكرة حوار الحضارات التي طرحها والتي وجدت صداها في السياسة الخارجية الإيرانية والتي أضفت أجواء إيجابية على علاقات إيران الخارجية، هذه السياسة التي تراعي مقتضيات الواقع مع عدم الابتعاد عن قيم الثورة الإسلامية، ولا عن المكاسب التي حققتها الثورة، ولا عن تقديم المصلحة القومية الإيرانية على ما سواها.


 


ومع صعود نجاد إلى سدة الحكم في إيران في العام 2005- وهو يعد ذو نزعة ثورية متشددة، يتبع التيار الأصولي المحافظ "التعمريون الجدد" الذي ينتمي أغلب أعضائه إلى الحرس الثوري والمنظمات الثورية الأخرى، مثل منظمة "حزب الله"، التي تتبع سياسة يمينية متشددة في التعامل مع الداخل والخارج- شهدت الساحة الإيرانية حراكاً كبيراً سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي، لعب الرئيس نجاد دوراً رئيسياً فيه من خلال ما اتخذه من مواقف وأعلن من سياسات والأهم ما أطلق من شعارات متشددة، بدءاً من الملف النووي والدور الإيراني في العراق وفلسطين ولبنان بالإضافة للموقف من إسرائيل وعلاقة إيران مع الغرب عموماً والولايات المتحدة بشكل خاص، حيث زادت في هذه الفترة وتيرة فرض الغرب للعقوبات على طهران بسبب الملف النووي الإيراني والذي يعد الواجهة الأساسية لتوتير العلاقات مع الغرب وفي مقدمتهم الولايات المتحدة، وعند القول بالواجهة لأنه يخفي خلفه جملة من الملفات الخلافية التي تضفي جو من السلبية على العلاقات بين الجانبين. رغم ذلك ومن باب المصلحة حرصت إيران على توطيد علاقاتها مع العديد من الدول التي تربطها علاقات طيبة مع رأس الاستكبار العالمي كما تصفها طهران وهي الولايات المتحدة الأمريكية، ومنها الهند وباكستان والعراق وأفغانستان. ومن جانب المصلحة أيضاً على حسابات الأيديولوجية والمبادئ الثورية، تخلت طهران عن عدد من المبادئ التي تعلنها ومنها الدفاع عن حقوق جميع المسلمين، ودعم نضال المشروع للمستضعفين ضد المستكبرين في أية نقطة من العالم، والالتزامات الأخوية تجاه جميع المسلمين ونصرتهم أينما وجدوا، حيث ساندت إيران الثورات العربية كافة ضد حكامها الطغاة، إلا ثورة الشعب السوري التي تربطها مع نظامه علاقات تحالف استراتيجي، بل لم يكتفِ النظام الإيراني بالصمت عن قمع النظام السوري المستبد لشعبه بل وقف معه مسانداً له في مواجه هؤلاء المستضعفين.


 


عليه فقد اختلف التزام إيران بأهداف السياسة الخارجية المعلنة في الدستور والمستمدة من أيديولوجية الثورة الإيرانية، طبقاً لاختلاف الظروف المحيطة داخلياً وخارجياً. كما تم تطويع هذه الأهداف والأسس التي استندت عليها بما يراعي مقتضيات الواقع والمكاسب التي حققتها، والمصلحة القومية. إذاً رغم حضور الأيديولوجية الثورية في أجندة السياسة الخارجية الإيرانية إلا أنها دائماً ما تطوع خدمة للمصلحة، ولا تجد طهران صعوبة في ذلك كلما اقتضت الحاجة. من الباب ذاته يمكن للدول أن تنظر للسياسة الخارجية الإيرانية وتتعامل معها بما يخدم مصالحها.


 


للتنويه والإفادة يجب ألا ينظر لرئيس الجمهورية في إيران على أنه رأس سياسة إيران الخارجية، وبذلك يتم التمايز إلى حد التفريق الكبير بين إيران تحت ولاية الرئيس هذا أو ذاك بناء على انتمائه للمحافظين أو الإصلاحيين. لأن الرئيس رغم أهميته في صنع السياسة الإيرانية وإدارتها إلا أن من يرسم هذه السياسة بشكل أساسي هو اليمين المحافظ الذي يهيمن على مؤسسات صنع القرار في إيران، وأن أي قرار خارجي لن يتم دون موافقة هذا اليمين خاصة وأن القرار الأول والأخير في صناعة القرار يعود للزعيم الممثل بخامنئي في الوقت الراهن.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت