على جانبي الانقسام والمصالحة، هناك من يقف حجر عثرة أمام إعادة المياه إلى مجاريها، كما أن هناك نزعات فردية ونزوع فئوي وفصائلي؛ لم يعد يهتم أي منها بما يمكن أن تفرزه "حالة الإنقسام"، وما أفرزته "حالة المصالحة" في كل مراحلها؛ حتى الإعلان عن اتفاق الدوحة مؤخرا. فإذا كانت الحالة الأولى نتاج الصراع الداخلي على القرار السياسي والسيادي الفلسطيني، في مواجهة العدو، فإن الحالة الثانية انما هي نتاج الصراع ذاته مضافا إليه تلك التداخلات الإقليمية والدولية، وتدخلاتها في ذات القرار السياسي والسيادي الفلسطيني الذي بات عرضة لتجاذبات أصحاب المصالح والمنافع، في الجانبين المعنيين أساسا بمسألة الانقسام ومن ثم المصالحة؛ لكن الأخطر الآن وبعد التغيير النسبي في المعادلات الإقليمية المؤثرة على بعض الوضع الفلسطيني، هو ذاك التمنّع والاعتراض المعلن والمضمر على المصالحة وفق ما أسفرت عنه في مرحلتها الأخيرة (إعلان الدوحة)، من دون أن يكون هناك أي تعبير عن خلاف مُعلن في شأن البرنامج السياسي، في ظل حالة من ركود وجمود الحالين؛ التفاوضي والممانع.
ويمكن قراءة الموقف الإسرائيلي من السلطة، ومن إعلان الدوحة والعلاقة بحماس، من خلال ذاك الموقف الذي تتحضّر حكومة نتانياهو للإعلان عنه، في شأن إعادة إحياء الإدارة المدنية الإسرائيلية - الحكم العسكري - في الضفة الغربية، والتي كانت تتحكم بالحياة اليومية للفلسطينيين قبل إقامة السلطة الفلسطينية. وذلك في أعقاب سحب إسرائيل جميع صلاحيات السلطة السيادية على جميع الأراضي الفلسطينية بما فيها المناطق المصنفة "الف" أي المدن الرئيسة بالضفة الغربية، وذلك منذ عام 2000. في وقت تحاول حكومة اليمين المتطرف أنتجعل من السلطة مجرد وكيل أمني مهمته توفير الأمن لإسرائيل.
وكانت حكومة نتنياهو أعادت عمليا إحياء الحكم العسكري للضفة الغربية من خلال القانون الذي أصدرته ويحمل رقم 1650، وفحواه إعادة إحياء الإدارة المدنية، ومنح المزيد من الصلاحيات للجيش الإسرائيلي في مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية، وهذا يعني أن حكومة إسرائيل تعاود ضرب كامل الاتفاقيات مع السلطة الفلسطينية عرضالحائط، ولم يعد هناك احترام أو التزام بهذه الاتفاقيات، وفي هذه الحالة لا يعود للسلطة الوطنية الفلسطينية أي ولاية تذكر، وهذا مؤشر خطير. فهل لهذا السبب كان إعلان الدوحة، خطوة استباقية لإعادة تجميع أوراق الملف الفلسطيني لمواجهة حكومة نتانياهو في أعقاب فشل المفاوضات الاستكشافية في عمان مؤخرا؟ هذا في وقت كان مسؤول اسرائيلي يعلن في اليوم الأخير لإنهاء المفاوضات أن الموقف من عملية التسوية يقوم على أساس ضم جميع الكتل الاستيطانية الكبيرة في الضفة الغربية إلى ما سمّاها "حدود اسرائيل"، مع إحتفاظها بسلطة الاحتلال على بعض مناطق الضفة. في حين يقوم موقفإسرائيل من التسوية الاقليمية على أساس أن "يعيش غالبية الاسرائيليين تحت سيادة اسرائيل، وان يعيش غالبية الفلسطينيين تحت السيادة الفلسطينية".
يُفهم من هذه التصريحات، أن إسرائيل تريد ضم الكتل الاستيطانية الكبيرة في الضفة الغربية إلى "حدودها" غير المحددة أصلا، مع إبقاء المستوطنين اليهود الآخرين يعيشون ضمن حدود الدولة الفلسطينية، مقابل إبقائها على احتلال بعض المناطق الفلسطينية في الضفة، حيث تقيم إسرائيل في الضفة الغربية عددا كبيرا من المستوطنات، بعضها ضمن كتل استيطانية كبيرة تحاصر مدينة القدس، والمدن الرئيسة في الضفة الغربية، وهذا يعني إبقاء المناطق الفلسطينية سجينة الجدار العنصري الذي أقامته إسرائيل، كحدود لها مع الفلسطينيين وتجمعاتهم السكانية غير المتواصلة.
على الصعيد الداخلي الفلسطيني، لم تستطع المعسكرات المتعارضة على جانبي الانقسام، استقبال هذا الوافد الجديد (إعلان الدوحة) بالارتياح، أو الاطمئنان إلى إمكانية تنفيذه؛ من دون معيقات ومعوّقات واقع الانقسام ذاته، الذي أنتج مصالح متعارضة إلى حد وجود مصالح متباينة داخل المعسكرات المنقسمة على ذاتها، حتى في صفوف قيادة كتائب القسام، بعد ظهور خلاف علني بين نواب "حماس" في المجلس التشريعي في غزة، الذين عبروا عن رفضهم للإعلان، في حين رحب به نواب الضفة مطالبين بتنفيذه. كل هذا في ظل حالة من انتظار مصير الصراع على سوريا، الذي لم يبلور حتى اللحظة سوى محطات انتظارية بالمقابل، فلسطينيا وعربيا وحتى إقليميا ودوليا.
وهكذا يستمر الانقسام، لا التباين في الآراء بين المعسكرات المتخاصمة حتى داخل الطرف الواحد، لا على خلفية أي بند من بنود البرنامج السياسي، الإستراتيجي أو التكتيكي، "التفاوضي أو المقاوم"، بل على خلفية المآلات السلطوية والمكتسبات والمنافع التي كرسها واقع الانقسام والتخاصم بين معسكري التفاوض من جهة، والمقاومة والممانعة من جهة أخرى؛ المأزومان عمليا؛ داخليا أمام جبهة الصراع وأدارته مع إسرائيل، وإقليميا أمام "ربيع عربي" غيّر معادلات المنطقة وطبيعة القوى المهيمنة، ما سيهدد على الدوام ومستقبلا طبيعة إدارة الصراعات في منطقة، سيبقى استقرارها يهتز على وقع تغيرات وتحولات لم ترس مآلاتها بعد، في ظل ملامح طور جديد من حرب باردة، أكثر شراسة ودموية في الدفاع عن حزمة المصالح الإستراتيجية المهددة، لكل أطراف الصراع المحلي والإقليمي والدولي.
في ظل هذه المعطيات لن يكون في مقدور "إعلان الدوحة"، الإقلاع بالوضع الوطني الفلسطيني المهدد بالنكوص مجددا، إن لم يتجه موحدا نحو صياغة استراتيجية كفاحية تجسد الهدف الأوحد للفلسطينيين، ومقاومة الاستيطان وتهويد القدس، ورفض الانسياق إلى المفاوضات مجددا من دون شروط؛ إستراتيجية تعبّر فعليا عن قواسم مشتركة وطنية لا فصائلية ولا فئوية، وتأخذ في عين الاعتبار الوقائع المستجدة والمستقبلية، ومن دون الغرق أو الاستسلام للرهان على وهم أو أوهام دولة غير سيادية في غزة أو الضفة؛ دولة اقتسامية مجزأة.. لا سيادة لها على الأرض والحدود، وليست مستقلة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت