" فتـح ورئاسـة السـلطة "/ عبد الرحيم محمود جاموس

بقلم: عبد الرحيم محمود جاموس

(( بمناسبة توصية المجلس الثوري واعتماد اللجنة المركزية لحركة "فتح" ترشيح الأخ محمود عباس لخوض الانتخابات الرئاسية مرشحاً وحيداً لفتح نعيد نشر مقالة / فتح ورئاسة السلطة / ))


 


لقد غيب الموت الرئيس القائد ياسر عرفات ، بعد رحلة طويلة مع النضال دامت أكثر من نصف قرن ، كان له فيها صولات وجولات إخفاقات وإنجازات لقد تماهى فيها مع القضية والهوية الفلسطينية تماهياً يصعب الفصل بينهما ، فوقف العالم بإجلال وإكبار أمام رحيله المفاجئ واستحق عن جداره التقدير العالمي ، كما حاز وبجداره على الالتفاف الشعبي الفلسطيني حول قيادته على مدى عقود الكفاح الوطني المتواصل ، والذي تمكن من خلاله أن يضع قضية فلسطين في مكانها اللائق عربيا ودوليا وفي أعلى سلم أولويات الاهتـمام العالمي ، فلا يشك أحد في حجم وفاعلية المكانة التي احتلها الرئيس ياسر عرفات في تأسيس وقيادة الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصره وفي انبعاث الهوية الفلسطينية الوطنية المنافية للكيان الصهيوني .


 


إلا أن تجمل الشعب الفلسطيني وقيادته وقفزهما فوق الجراح والمعاناة والألم البالغ الذي أحدثه هذا الغياب والرحيل لقائد كفاحه الوطني ورمز نضاله ، كان أيضاً محل إجلال وإكبار من جميع المراقبين والمعنيين بالشأن الفلسطيني عربياً ودولياً ، فقد تمكن الشعب الفلسطيني في هذه الأزمة المفصلية أن يؤكد على وحدته الوطنية ووحدة قواه الفاعلة والمؤثرة في مصير الشعب والقضية من خلال تمسك الجميع بالشرعية الدستورية والمؤسساتية الوطنية ، وأظهرت جميع القوى والقيادات على اختلاف مستوياتها درجة عالية من الاستشعار بحجم المسؤولية الملقاة على عاتقها بسبب هذا الغياب المفاجئ للرئيس المؤسس والقائد الرمز الذي يعز تكراره .


 


فتم الانتقال السلس والهادئ للسلطة ولكافة المسؤوليات التي كان يتحملها الرئيس الراحل وبدرجة عالية من الالتزام  بالشرعية التاريخية والمؤسساتية الدستورية والتي أرسى قواعدها عبر عقـود من النضال الطويل ، فرحم الله أبا عمار ، وطابت نفسه ، وأستراحت روحه إن شاء الله في عليين وجزاه الله عن شعبه وأمته خير الجزاء ، وهكذا رشحت حركة فتح رفيق دربه محمود عباس خلفا له في رئاسة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية وحاز على ثقة جميع أعضائها بعد ساعات من إعلان الوفاة ، كما اختارت اللجنة المركزية وبكامل أعضائها رفيق دربه فاروق القدومي خلفا له في رئاستها ، وانتقلت رئاسة السلطة الوطنية مؤقتاً وحسب نظامها الأساسي إلى روحي فتوح رئيس المجلس التشريعي الذي بدوره حدد وأعلن عن يوم التاسع من يناير2005 مموعداً لإجراء الانتخابات الرئاسية طبقاً للنظام الأساسي للسلطة الوطنية الفلسطينية .


 


فكان لهذا الانتقال الهادئ والسلس للمسؤوليات وللسلطات والالتزام بالشرعية التاريخية والدستورية أثره البالغ في عزاء الشعب الفلسطيني بقائده ، فقدمت القيادة والمؤسسة الفلسطينية نموذجاً حضارياً بات محل تقدير كل الشعوب والقيادات في العالم .


 


فسيقوم الشـعب الفلسطيني في مناطق السلطـة الوطـنية يوم 9/1/2005 م بممارسـة حقه الانتخابي في اختيار رئيـس للسلطة الوطنية الفلسطينية من بين المرشحـين لهذا الموقع ، وستكون هذه الممارسـة الانتخابية بمـثابة التأكيد الواعي من الشـعب الفلسطيني ومن قياداته وقـواه السياسـية على الالتزام بالمنـهج الديمقراطي في اختيار حكامه وتسـيير شؤون مؤسسـاته على المسـتوى المحلي والوطني ، وإرساء أسس ومؤسسات الدولة الفلسطينية .


 


وبناء على ذلك فقد أعلنت حركة فتح كبرى الفصائل الفلسطينية والتي مثلت بحق وحقيقة العمود الفقري للحركة الوطنية الفلسطينية على مدى أربعة عقود من النضال مرشحـها الوحيد محمود عبـاس ( أبو مازن ) لخوض انتخابات الرئاسـة يوم 9/1/2005 م بإسمها وملتزماً بتطبيـق برنامجها السـياسي في مواجهة مرشحي القـوى والشخصيات الفلسطينية الأخرى المنافسة .


 


فمن هـو محمود عباس ( أبو مـازن ) ؟  ولماذا وقـع الاختيار الفتحاوي عليـه وليس على غيره ؟  ولماذا تقتضي المصلحة الوطنية الفلسطينية الاقتراع بنعم لصالح مرشح فتح ؟


 


تلك أسـئلة نسـعى أن نقـدم إجـابة ولـو مختصرة لـها ، ليـس بغـرض التعـريف بـ (( محمود عباس )) (( فالمعروف لا يعرف )) ولا بغرض الترويج لشخصه الكريم دون غيره ، لأن مصلحة الوطن والقضية لا بد وأن تكون فوق الأشخاص وفوق الفصائل والأحزاب فالجميع في خدمة الوطن والقضية ، خصوصاً وأن الشعب الفلسطيني على درجة عالية من الثقـافة والتعليم والذكاء والحساسية فهو الرقيب المباشر على قياداته ومؤسساته بعد الله ، وسوف بتمكن بغالبيته من اختيار الشخص المناسب لتحمل المسؤولية في هذا الموقع الهام والحساس بعد غياب الرئيس المؤسس .


 


فهذا السياسي الفلسطيني المخضرم (( محمود عباس )) ولد في مدينة صفد في الجليل الأعلى من فلسطين التاريخية أثناء ثورة عز الدين القسام سنة1935 م، وقبل أن يتم تعليمه المدرسي إكتوى بنار النكبة سنة1948 مليصبح لاجئاً فلسطينياً مع أسرته في دمشق فعانى ما عاناه اللاجئون الفلسطينيون من نار البعد عن الوطن السليب وشظف العيش وشأنه شأن غالبية الكثيرين من أبناء جيله ، أدرك أن التعليم أمضى سلاح يجب أن يتزود به الفلسطينيون لتغيير واقعهم البائس على المستوى الخاص والعام ، فرغـم كل الظروف المادية الصعبة التي كانت تحيط به عمـل على إكمال تعليمه المدرسي والجامعي حيث حصل على درجة الإجازة في الحقـوق من جامعة دمشق سنة1957 م. وقد قال فيه أستاذه الدكتور / مصطفى البارودي أنه من أذكى الطلاب الذين تتلمذوا عليه في مادة القانون الدستوري والنظم السياسية ، وفي تلك السنة توجه للعمل في إدارة التعليم في دولة قطر ، ومن هناك بدأ يتلمس طريق النضال للعودة ثانية إلى فلسطين ، وكان فيها لقاؤه مع مجموعة من الشـباب الفلسطيني الطلائعي الذي اكتوى مثله بنار النكبة والغربة والتشرد والشتات نذكر بعضاً منهم لا حصراً محمد يوسف النجار ( أبو يوسف ) وعبد الفـتاح عيسى حمـود وكمال عدوان وفتحي بلعاوي رحمـهم الله ورفيق النتشـه ( أبو شاكر ) وفـواز ياسـين ( أبو مروان ) وصبحي عبد القادر وأبو طارق الشـرفا وغيرهم ممن شـكلوا فيما بينهم بؤرة وخلية تأسيسية من خلايا فتح آنذاك كان لها دور طلائعي في تأسيس حركة فتـح ومدها بالأطر والقيادات وتوفير الدعم المادي والمعنوي لتعزيز مسيرتها ، شأنها في ذلك شأن البؤر والخلايا الحركية الفتحاوية التأسيسية التي كانت بمثيلاتها في تلك المرحلة في عدد من الدول العربية ونخص بالذكر منها بؤرة الكويت التي كان على رأسها الرئيس المؤسس ياسر عرفـات وبجانبـه خليل الوزير ( أبو جهاد ) وصلاح خلف ( أبو إياد ) وخالد الحسن ( أبو السعيد ) رحمهم الله وفاروق قدومي ( أبو اللطف ) وعادل عبد الكريم وعبد الله الدنان وتوفيق شديد وسليم الزعنون ( أبو الأديب ) وآخرون غيرهم وفي بؤرة الأردن نذكر محمد غنيم ( أبو ماهر ) وسميح كويك ( قدري ) وآخرين وفي السعودية وليد نمر ( أبوعلي إياد ) وعبد اللطيف عثمان وماجد أبو شـرار وصبحي أبو كرش ( أبو المنذر ) وسـعيد المـزين ( أبو هشام ) رحمهم الله والحاج مطلق وأحمد قريع وعبد العزيز السيد وحكم بلعاوي ويونس فريجات ( أبو ناصر ) وياسين جابر ( أبو الوليد ) وحسين الشرقاوي ( أبو الفهد ) وآخرين كثر وفي لبنان جلال كعوش وزياد الأطرش رحمهم الله وزكريا عبد الرحيم ( أبو يحيا ) والقائمة تطول ، فكان تلاقي هذه البؤر والخلايا الثورية وتقاطعهما في الفكر وفي الهم العام والهدف المتمثل في التحرير والعودة وفي صدق نواياها في التمرد على الواقع الفلسطيني البائس والمشتت والذي كان يرزح تحت وطأته كل ذلك مثل القاسم المشترك الأعظم بين هؤلاء الشباب الطلائعيين بضرورة التوحد في إطار سياسي نضالي واحد يجمع ويوحد طاقات الشعب الفلسطيني ويقوده نحو الثورة والتحرير والعودة ، فكانت هذه البؤر التي أشرنا إليها بمثابة النـواة المؤسسـة للبناء التنظيمي والثوري لحركة التحرير الوطني الفلسطيني (( فتـح ))  ، والتي أخذت على عاتقها بعث الهوية الفلسطينية بشكل واضح وجلي ودون لبس أو تزوير في مختلف أماكن التواجد الفلسطيني داخل فلسطين وخارجها ، ووضعت هذه  الطليعـة النضالية أسس العلاقة التكاملية بين الهوية الفلسطينية وأبعادها العربية والإسلامية والدولية ، وحددت هدفها باستعادة الهوية وتحقيق العودة والحرية والاستقلال الفلسطيني ، وقد تميزت هذه الطليعة النضالية عن غيرها من القوى والنخب السياسية الفلسطينية الناشطة في تلك المرحلة بداية ستينات القرن الماضي ، والتي عجزت عن تقديم برنامج محدد وواضح لمفهوم ولماهية الهوية الفلسطينية حيث كانت جهودها وأفكارها مشتتة بين أبعاد الانتماء القومي أو الإسلامي أو الأممي ، مما أدى أن تصبح الهوية والقضية الفلسطينية في برامجها مجرد حالة انتظارية وجزئية هامشية وإن إدعت أنها قضيتها المركزية أمام سلم طويل من الأولويات والهموم المتداخلة في برامجها عربية أو إسلامية أو أممية واسعة .


 


فكان لحركة التحرير الوطني الفلسطيني (( فتح )) وقيادتها الطليعية المؤسسة ، السبق في إيقاظ الهوية الفلسطينية ونفض غبار النكبة والتشرد والتشتت عنها وبعثها من تخبطها ورقادها السياسي ، ووضعها في مكانها اللائق والصحيح عربياً وإسلامياً وإنسانياً ، وتقديم النقيض المباشر للكيان الصهيوني الذي يغتصب فلسطين ويشرد أهلها والذي يسعى جاهداً مع حلفائه الإقليميين والدوليين على طمس وتغييب الهوية الفلسطينية ليوطد كيانه الغاشم على كل ثرى فلسطين ، ولهذا السبب الرئيسي حظيت حركة فتح بما لم تحظ به أية حركة أو منظمة من التأييد والالتفاف الشعبي الفلسطيني والعربي حول مبادئها وأهدافها وقياداتها وبرامجها ووسائلها الكفاحية ، وأصبحت بالفعل المظلة والهوية الوطنية الفلسطينية الجامعة والموحدة لقوى الشعب الفلسطيني على امتداد تواجده في الوطن وفي الشتات ، وأصبحت حركة متجددة ومتواصلة جيلا بعد جيل بإتجاه تحقيق الهدف الأساسي الذي رسمه المؤسسون الأوائل وتزداد قوة وصلابة يوماً بعد يوم بسبب تعبيرها المباشر عن أماني وتطلعات الشعب الفلسطيني في الحرية والعودة والاستقلال وبناء الهوية والدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس ، وتمسكها بثوابت الشعب الفلسطيني زادها دائماً عمقاً وجماهيرية ، فهي حركة رائدة وقائدة للمشروع الوطني الفلسطيني ، ومن هذا المنطلق حرصت حركة فتـح باستمرار على استقلالها واستقلال القرار الوطني الفلسطيني ، وحرصت على القيام باستمرار في دورها الطليعي في قيادة وبناء المشروع الوطني الذي سيعيد للشعب الفلسطيني هويته وحقوقه الوطنية وسوف تستمر بالقيام بهذه المهمة في هذه المرحلة التاريخية الصعبة وفي كل مستويات العمل والأداء والمسؤولية الواجبة فهي تنتدب دائماً خيرة مناضليها وكفاءاتها وقياداتها لأداء المهام المطلوبة ولإدارة المؤسسات الفلسطينية التي هي نواة الكيان والدولة المستقلة ، ومن هذا المنطلق جاء ترشيح حركة فتح للسيد محمود عباس عضو لجنتها المركزية وأحد قياداتها التاريخية المؤسسة والكفؤة لرئاسة السلطة الوطنية الفلسطينية لأنها تجد فيه المخلص والقوي الأمين القادر على إدارة دفة المسؤولية في هذا الموقع وفي هذه المرحلة والمحطة من مراحل إنجاز بناء الهوية والدولة ومواصلة مسيرة الكفاح الطويل من أجل إنجاز حقوق الشعب الفلسطيني في العودة والحرية والاستقلال ، فالسيد محمود عباس قد تميز وفي وقت مبكر بين رفاقه في اللجنة المركزية لحركة فتح بأن نحا منحىً فكرياً متميزاً بين رفاقه إنكب من خلاله على دراسة الحركة الصهيونية من حيث أساليبها وآليات عملها ومن ثم دراسة الكيان الصهيوني وتركيبته البنيوية الخاصة ووظيفته في السياسة الاستعمارية التي تعرضت وتتعرض لها منطقتنا العربية ، وكان قد توصل إلى نتيجة أن الكفاح المسلح وحدة لا يكفي أن يكون أسلوباً وحيداً لتحقيق الأهداف الفلسطينية خصوصاً بعد الأحداث المؤسفة التي كان قد شهدها الأردن وحركة المقاومة في أيلول1970 م، بل لا بد من ابداع سبل وأساليب أخرى تكون معززة للكفاح المسلح ، منها العصيان المدني ، والسعي لإحداث إختراقات سياسية للكيان الصهيوني ، وتشجيع تيار الهجرة المعاكسة لليهود من فلسطين إلى أوطانهم الأصلية ومواجهة الآلة الإعلامية والتعبوية والاقتصادية الصهيونية .. الخ .


 


ومع هذا المنحى الفكري والاهتمام التركيبي والبنيوي للحركة الصهيونية وكيانها الغاصب لدى محمود عباس بدأت تظهر ملامح منهجية يمكن أن يطلق عليها البرغماتية الثورية أو الواقعية السياسية وأخذ هذا المنهج بالتشكل التدريجي داخل صفوف حركة المقاومة وبرعاية من القيادة الفلسطينية ، فهـذا الاتجاه أصبح قادراً على كشـف آلاعيب وسياسـات الكـيان الإسرائيلي وقادر على مواجهته على مستوى الثقافة والفكر وكشف زيف ادعاءاته ومحاورته وضحد حججه الواهية .


 


لذلك كله رأت حركة فتح بجميع مستوياتها القيادية أن يكون محمود عباس مرشحها لرئاسة السلطة الوطنية الفلسطينية لقدرته على القيام بأعباء مهمة الرئاسة في هذه المرحلة خير قيام ، فليصوت الشعب الفلسطيني بنعم لمرشح فتح في رئاسة السلطة الفلسطينية ، وستكون حركة فتح بكل ثقلها السياسي والمعنوي والجماهيري إلى جانب مرشحها لكسب الانتخابات والى جانبه من بعد في تأدية أعباء هذه المهمة بما يخدم مصالح الشعب الفلسطيني وتحقيق أهدافه الوطنية الثابتة .


 


عبد الرحيم محمود جاموس


عضو المجلس الوطني الفلسطيني


 


الرياض    30/11/2004 م


 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت