زيارة القدس .. رؤية شرعية سياسية/ بدر الدين حمدي مدوخ

رئيس السلطة الفلسطينية ورئيس حركة فتح طلب في المؤتمر الدولي للدفاع عن القدس وحمايتها والذي تم عقده في الدوحة، طلب من العرب و غيرهم زيارة القدس، بحجج عديدة منها نصرة القدس و ذلك بقدوم الناس إليها من العالم الإسلامي و غيره، وهذه ليست الدعوة الأولى حيث روج وزير أوقاف رام الله في أكثر من مناسبة لمثل هذه الزيارة، ولا عجب فإن السلطة من قبل وضعت إعلانات من أموال الفلسطينيين في الصحف الصهيونية للترويج للسلام، فزاد اليهود تطرفاً.

مثل هذه الدعوات من السلطة وقف لها العلماء المعتبرون بالمرصاد وعلى رأسهم الشيخ القرضاوي، الذي أقل ما يقال عنه إنه أحد أعمدة علماء المسلمين اليوم ، وأفتى الرجل بعدم جواز زيارة الأقصى من غير أهل فلسطين قبل ما يتحرر و يرجع إلى حضن المسلمين.

الشيخ القرضاوي لم يأت بجديد، بل هي فتوى منذ أكثر من 45 عاماً أفتاها الأزهر الشريف في مصر، وجدد صحتها شيخ الأزهر الجديد حينما تصدى لدعوة وزير الأوقاف المصري السابق والذي قال إنه ينوي زيارة الأقصى بحجة مناصرة أهله.

هذه الفتوى التي على أثرها رفض شيخ الأزهر الشيخ عبد الحليم محمود أن يكون مع السادات في زيارته المشؤومة للقدس، وقدم الرجل على إثرها استقالته. إذاً الشيخ الجليل القرضاوي يحمي إرث رسول الله بحمايته لميراث العلماء.
قد يقول قائل لا يوجد نص صريح لا من الكتاب و لا السنة يمنع زيارة المسجد الأقصى! بل النصوص تؤكد على فضل زيارته و تحث على ذلك! هذا الكلام صحيح ، لكنه حجة على من يطالب بزيارته تحت حراب الاحتلال و ليس حجة على الإمام القرضاوي و العلماء ، كيف؟

ابتداء نقول: السنة النبوية ، ليست فقط هي قول رسول الله ، بل هي قول و فعل و إقرار رسول الله – صلى الله عليه وسلم. وهناك أمور كثيرة أخذناها من رسول الله بفعله لا بقوله.

وهناك أمور كثيرة أجملها القرآن و فصلتها السنة، والمجال هنا ليس للشرح و ضرب الأمثلة خشية الإطالة.
ففي الحديث المتفق عليه و الذي رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى، يتبين لنا أن الرسول يشجع على زيارة المسجد الأقصى، والسؤال هنا، هل كان الرسول ينصح بشيء و لا يفعله؟ أم كان أول الفاعلين (( كبر مقتاً أن تقولوا ما لا تفعلون)) حاشا لرسول الله ذلك!

وهل كان الصحابة يتأخرون عن الذهاب و الصلاة فيه, الرسول ينصحهم، حاشاهم ذلك فهم أكثر الناس طاعة لرسول الله! لكنه الفهم السياسي والسيادي عند رسول الله و الصحابة ، هذا الفهم النابع من الفهم الشرعي الذي لا يستوعبه العلمانيون و لو كانوا متأسلمين! فلم يذهب المسلمون للصلاة في المسجد الأقصى إلا بعدما فتحه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في عام 16 هـ. إذاً فعل الرسول و الصحابة هو السنة لأن السنة كل قول و فعل و إقرار لرسول الله ، ففعل رسول الله و صحابته من بعده جعلت من الشرع عدم زيارة الأقصى و هو تحت عباءة غير عباءة المسلمين.
وهذا ما سار عليه وفهمه المسلمون، فلقد دمر الصليبيون بيت المقدس و قتلوا معظم أهله و حولوا المسجد اصطبلاً لخيولهم، فهل قال صلاح الدين أو بعض علماء المسلمين للمسلمين خارج القدس اذهبوا وزوروا إخوانكم هناك والمسجد وهو تحت حراب الصليبيين، أم جيشوا الجيوش و قدموا الشهداء و صلوا فيه بعد تطهيره من يد الصليبيين ، هذا هو الدين ، ومن أدخل علينا في ديننا ما ليس منه فهو رد.

ثم يحتج البعض بزيارة النبي لمكة و عزمه على الصلاة فيها وهي تحت حراب الكفار! وهذه أيضاً حجة عليهم لا لهم، لأن أهل مكة لم يحتلوها فهم أهلها أصلاً، ولأن مكة لم تصبح بعد جزءاً من أرض المسلمين، ولأن العرب من غير المسلمين و من غير أهل مكة كانوا لا يقبلوا بدخول أحد مكة عنوة و بسلاح، ولأن المواثيق و الأعراف الدولية آنذاك كانت تترك لأهل مكة أمر تنظيم شأن أم القرى، ولأن الله حرم فيها سفك الدماء إلا بحقها، فكل مكة حرم، و لأن الرسول كان يتمنى أن يسلم أهلها دون معركة و يدخلوا في دين الله.

والأهم من ذلك أن الرسول أراد أن يقوم بأداء عبادة هي ركن من أركان الإسلام و هذا الركن ليس كغيره حيث إنه لا يصلح إلا في هذه القرية، في مكة.

أما الصلاة فيمكن فعلها في أي مكان وعلى أي بقعة إذا تم الأخذ بصحة شروطها. وحينما انتزع الرسول إذناً بدخولها في العام القادم دون معارك ليًُعلم الناس مناسك الحج، حيث تحقق له مراده الشرعي والسياسي وأصبح كياناً تعترف به مكة، لأن الرسول كان يسعى لاعتراف مكة به ككيان سياسي، لما لها من مكانة في قلب العرب وفي قلبه حيث قومه و عشيرته، ولم تكن مكة هي التي تسعى لالإعتراف بالدولة الإسلامية الوليدة، بل كلنت تحاول مسحها من الوجود، فأخذ الرسول عليه الصلاة و السلام اعترافاً دون تنازل عن حقوق و لا مبادئ و لا عقائد.
أما بالنسبة للمنطق السياسي، حيث هو جزء من الدين، فتُقاس الفتاوى بمآلاتها، وهذا ما يطلق عليه أهل الفقه بفقه المآلات والذي برع فيه الإمام الشاطبي، حيث المفتي ينبغي عليه النظر إلى مآلات الأمور، فلو ذهب المسلمون و غيرهم من خارج فلسطين أفواجاً للقدس و هي تحت السيطرة الصهيونية ماذا سنستفيد؟ هل هذا سيساند أهلها؟ كيف يمكن لنا فهم ذلك! هذا يترك لدعاة هذه المناشدة.

لكن الذهاب للقدس من خارج فلسطين من المسلمين و العرب يعرض بعضهم للوقوع في شرك العمالة الصهيونية، وانبهارهم بتنظيم المدينة، وكذلك سيقوي اقتصاد العدو حيث الإقامة والشراء والبيع وتذاكر الطيران، والأهم من ذلك هو إثبات صحة رؤية الصهاينة، إننا لا نمنع أحداً من زيارة المقدسات بل ننظمها وهي تحت سيطرتنا فلا داعي لتغيير الوضع، ومع الزمن يصبح ذلك أمراً واقعاً ، مما يجعل العالم يستريح لهذا الوضع.

بل ستصبح المدن “الصهيونية” مع الوقت هدفاً للسياح العرب والمسلمين بحكم الجغرافيا، ومع الوقت سيصبح العرب والمسلمون يرون في الكيان الصهيوني جسماً عادياً في الجسد العربي ، كما تنظر السلطة تلك النظرة اليوم.

بقي أن نقول إن الذي يريد دعم القدس والأقصى وأهله عليه أن يثقف الناس ثقافة مقاومة وأن يحمي المقاومة و يدعمها، وأن يستثمر في القدس عن طريق أهل القدس، وأن يشجع أهلها للبقاء فيها، وأن يحميهم، وأن لا يسمح لنفسه بالتفكير في تقاسم القدس، وأن لا يفكر في قدس شرقية ولا غربية، بل هي قدس واحدة وأرض واحدة و شعب واحد. فلنطلق حملة “أرسلوا ثمن الزيت التي تضاء به قناديله”، فنحمي علماء و شيوخ و رجال ونواب و أطفال و أيتام وحراب و مآذن و آثار و تاريخ المسجد الأقصى.

ونترك الإجابة على الأسئلة التالية لرئيس السلطة ليجيب عليها: لماذا لم يقم هو بزيارة المسجد الأقصى و الصلاة فيه؟ لماذا لم يفعل ذلك سلفه ياسر عرفات؟ لماذا لم يجرؤ على ذلك أحد من زعماء العرب و المسلمين سوى السادات؟ بل لماذ لا يوجد وزارة في حكومة رام الله خاصة بالقدس؟ لماذا لا يترك محمود عباس المقاومة لترد على جرائم العدو في القدس؟ لماذا ترك محمود عباس – وهو مهندس أوسلوا – و سلفه ياسر عرفات ملف القدس، لماذا قبلا تأجيل ملف القدس للحل النهائي، فتوسع العدو الصهيوني و فرض وقائع جديدة، بل كيف قبلا بتقسيم القدس شرقية و غربية!

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت