دبلوماسية ناصر
لم يكن اختيار جامعة الدول العربية للأخ ناصر القدوة ليكون نائبا للسيد كوفي عنان مبعوث الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية إلى سوريا محض صدفة، بل إقراراً منها بقدرته الدبلوماسية وبالتحديد في الملفات المعقدة التي تحاصرها الضغوط من كل صوب، فقد سبق له أن سجل نجاحاً مميزاً حين انتزع من الجمعية العامة قراراً في 8/12/2003 بإحالة ملف جدار الفصل العنصري إلى محكمة العدل العليا في لاهاي لإبداء الرأي الاستشاري فيما يتعلق بالجدار، ولم يكن بالأمر الهين انتزاع مثل هذا القرار في ظل الضغوط الأمريكية والإسرائيلية على الأعضاء، حمل يومها الأخ ناصر هذا القرار وطار به إلى أروقة المحكمة الدولية ليترأس الوفد الفلسطيني إليها، ليواصل معركته الدبلوماسية والقانونية، في الوقت الذي سخرت فيه وزارة الخارجية الإسرائيلية كامل قدراتها وإمكاناتها للتأثير على الرأي العام ووسائل الإعلام، وعمدت أيضاً إلى نقل الآلاف للتظاهر أمام مقر المحكمة الدولية، بل حاولت أيضاً نقل الحافلة المحترقة لتضعها أمام المحكمة في محاولة منها للتأثير على قرار المحكمة.
في ظل هذه الأجواء وقف الأخ ناصر أمام المحكمة قائلاً " إن الجدار سيجعل الحل للنزاع الإسرائيلي _ الفلسطيني عبر دولتين مستحيلاً عملياً، وقال أنه يأمل أن يؤدي إصدار حكم من جانب المحكمة إلى نفس الخطوات التي أعقبت رأي المحكمة الصادر في العام 1971 بأن احتلال جنوب أفريقيا " العنصرية" لناميبيا غير قانوني، مما أدى إلى فرض عقوبات دولية على نظام بريتوريا العنصري آنذاك وعجل في سقوطه، كان يتطلع إلى ابعد من مجرد رأي قانوني غير ملزم للأمم المتحدة يكون مصيره الأدراج، وأصدرت المحكمة الدولية قرارها في 9/7/2004، والذي أطلق عليه "الرأي الاستشاري"، وجاء ليؤكد بشكل لا لبس فيه بعدم شرعية بناء الجدار وقانونيته، وأن على إسرائيل التوقف فوراً عن بناء الجدار وتفكيك أجزاء الجدار التي أقيمت في الضفة الغربية، وتعويض الفلسطينيين الذين تضرروا من ذلك، خرجت فلسطين من أروقة المحكمة الدولية وفي جعبتها قرار كان من المفترض أن يؤسس لمرحلة جديدة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
عندما وقف الأخ ناصر القدوة مدافعاً عن فلسطين والآثار الخطيرة المترتبة على بناء جدار الفصل العنصري، كان السيد نبيل العربي "الأمين العام لجامعة الدول العربية" من بين قضاة المحكمة الدولية، ومن الواضح أن مرافعة رئيس الوفد الفلسطيني "ناصر القدوة" أمام قضاة المحكمة الدولية رسخت لدى العربي قدرات هذا الرجل الدبلوماسية والقانونية والسياسية، وبالتالي اختيار جامعة الدول العربية للسيد ناصر القدوة نائباً للسيد كوفي عنان في مهمته إلى سوريا جاءت من رحم الدبلوماسية المميزة لهذا الرجل.
وبعيداً عن الإشكالية السورية ومدى تعقيداتها، خاصة في ظل التقاطعات والاختلافات في المواقف العربية حيال ما يدور في سوريا، والرؤى العربية المتباينة في حل الأزمة السورية، فالمؤكد أن الخبرة الكبيرة في العمل الدبلوماسي التي يتمتع بها الأخ ناصر القدوة تعطيه مقومات لنجاحه في هذه المهمة الصعبة، يضاف إلى ذلك ما يتمتع به من قراءة دقيقة للواقع السياسي الدولي والإقليمي المرتبط بالمشكلة السورية، ويحضرني هنا ما قاله أحد أعضاء اللجنة المركزية لحركة فتح، حين قال بأنه يشعر بأنه تلميذ أمام مدرس عندما يتحدث الأخ ناصر في السياسة، وإن ذهب بتوصيفه إلى حد المبالغة، إلا أنه يعبر عن هضم الأخ ناصر القدوة وفهمه المتعمق للسياسة الدولية والإقليمية وارتباطاتها.
قد يكون الهدوء ودماثة الخلق والتاريخ الحافل بالعمل الدبلوماسي ما يميز هذا الرجل، ولكن ما يسترعي الانتباه وأنت تستمع إليه حجة المنطق بشموليتها للمشهد الدولي والإقليمي التي يتحدث بها، وينتقي كلماته كأنه يمررها على سلسلة "فلاتر" قبل أن تسمعها منه، من الصعب استفزازه وإدخاله في طور رد الفعل الغير محسوب العواقب، يستمع كثيراً ويتكلم قليلاً، قد يكون للابتسامة التي لا تفارقه دوراً في امتصاص شحنات الغضب، فتبقيه أسير الذات، لكن يبقى السؤال الذي نود أن نخلص به، إن كانت جامعة الدول العربية قد اختارت الأخ ناصر لهذه المهمة المعقدة، وفي ذلك اعترافاً منها بقدرة هذا الرجل الدبلوماسية والعقلانية في التعاطي مع هذا الملف الشائك، فلماذا أبقيناه بعيداً عن العمل الدبلوماسي الفلسطيني خلال السنوات القليلة السابقة؟، وبخاصة في المرحلة الأخيرة التي نحن أحوج ما نكون لدبلوماسية ناصر وخبرته وتجربته في صراعنا مع الاحتلال، يبدو أن صديقي في تعليقه على خبر اختيار ناصر القدوة لهذه المهمة أصاب حين قال "لا كرامة لنبي في وطنه".
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت