عصا وخلافه
أحاول جاهداً وأنا أستمع لخطابات الرئيس السوداني "البشير"، أن أربط بين ما يقول والتي عادة تحمل مفردات التحدي بما تتطلبه من أيمان مغلظة، وبين حركة عصا المارشالية بيده اليمنى، لكن عادة ما أخلص إلى نتيجة مفادها أن لا علاقة تذكر بين الكلمات التي ينطق بها اللسان وبين تلك التي تدلل عليها حركة العصا، ورغم أن العصا التي يحملها لا علاقة لها بالعصا المارشالية، لا من حيث الحجم أو النوع، إلا أنها تحمل معانيها كونها تأتي مترافقة مع البذلة العسكرية، المهم أن الفلسفة التي تأتي بها حركة العصا في يد المسئول هي ذاتها، سواء كان ذلك باستخدامها أم بلغة الإيحاء بها.
والعصا شاركت الإنسان منذ القدم، وتطورت مفاهيمها بيده من أداة يدافع بها عن نفسه أو يتكئ عليها، إلى اعتقاد البعض بأنها تعطي حاملها مكانة قيادية داخل المؤسسات الرسمية وبخاصة العسكرية، كما الحال مع مرتبة المارشال الألماني زمن حكم هتلر، أو داخل العشيرة والقبيلة في المجتمع العربي في يد شيخها وكبيرها، وحديثنا عن العصا بالمؤكد لا علاقة له بعصا "المايسترو" الصغيرة التي يضبط بها إيقاع الفرقة الموسيقية، وكذلك الحال بعيده كل البعد عن غاية الممثل شارلي شابلن منها، فقد لجأ إليها لاستكمال المشهد المضحك، ورغم ذلك تعرضت عصاه للسرقة مراراً من يد تمثاله البرونزي في بلدة فوفيه على بحيرة جنيف، ولسنا أمام عصا الكتاب والأدباء ومنهم الكاتب توفيق الحكيم، وإن كانت عصا سيدنا موسى آية من آيات الله عز وجل حول قدرته في أن يقول للشيء كن فيكون، فإن سيدنا موسى قد حدد الغاية منها، فهو يهش بها عن غنمه وله فيها مآرب أخر، وإن كانت منسأة سيدنا سليمان هي التي قادت من حوله لمعرفة وفاته، إلا أن المؤكد أن اقتناء القادة اليوم للعصا ليس له علاقة بإتباع السلف الصالح.
ما يعنينا هنا العصا الغليظة التي عادة ما يستخدمها القادة والزعماء ولا يراها المواطن، وهي بفعلها وتأثيرها تصل للمفهوم الحقيقي للعصا الغليظة في اللغة العربية "المرزبة"، وبالتالي لا تستوقفنا العصا طالت أم قصرت بيد القائد وهو يلوح بها للجماهير أو يضعها تحت أبطه مستعرضاً قواته التي تشكلت لأجل هذا الغرض، بقدر ما تعنينا تلك العصا الغليظة الغير مرئية التي يهش بها القائد المواطنين ولا يهش عنهم ما يلاحقهم من الفقر والمرض، وعصا المسئول متنوعة في قدرتها واستخدامها، وتسخر القوات لتنفيذ مهامها، والعصا بيده غالبا لا تتوقف عند حدود من عصا، ولمن شق عصا طاعته، بل تتوسع طولاً وعرضاً في الوطن مستهدفة شرائح المجتمع المختلفة.
والعصا تدرجت في مفاهيمها من القائد إلى الشرطي، وفي العالم الثالث الذي نحن جزء منه أو على أبواب الولوج إليه نكثر من رفع شعار "الشرطة في خدمة الشعب"، دون أن نتوقف عند مفهوم العصا في يد الشرطي، ففي العالم المتقدم وفي الحالات التي تستوجب تسليح الشرطة بالعصي، تبقى العصا على خاصرة الشرطي، تلازم مكانها ولا تخرج منه عند كل شاردة وواردة، فيما لدينا العصا وخلافه بيد الشرطي يلوح بها في الهواء، وكأنها تبحث عمن ستحل على جسده ضيفا غير مرحب به، أو أن يقبض عليها الشرطي بيد ويضرب بها يده الأخرى، وكأن خلايا استشعاره مستفزة لعدم وجود زبون لعصاه.
أكثر ما كنا نخشاه عصا المدرس، نرصد طولها وقطرها ونعد التجاعيد على وجهها، وكم صفقنا لقانون منع الضرب في المؤسسات التعليمية، رغم إيماننا بأن القانون يلفظ دوما أنفاسه الأخيرة قبل الوصول إلى ردهات المدارس، ما زلنا حتى يومنا هذا نحب من مدرسينا القدامى من كان يوزع علينا ابتسامته ويحنو علينا بكلمة طيبة، وأعتقد أن عصا المدرس لم تفرض علينا يوما ما تبجيل حاملها، ولم تتمكن من فتح أدمغتنا لحشر المعلومات في دهاليزها، لم نتقبل عصا المدرس، فهل يمكن لنا أن نستسيغ عصا القائد أو الشرطي؟.
لقد حرم رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم تخويف وترويع المسلم، حتى وإن كام ذلك من باب المزاح، لقوله " من أشار إلى أخيه بحديده فإن الملائكة تلعنه، حتى وإن كان أخاه لأبيه وأمه".
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت