الحضارة: أي حضارة التي يتحدثون عنها؟! (الحلقة الخامسة)/مصطفى إنشاصي


نكتب عن الحضارة في زمن (ثورات الربيع العربي) والتغيير والمطالبة بالدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، دولة المواطنة وحقوق الإنسان والحريات والحقوق الفردية والعامة، وعناوينها واضحة لنا جيداً من خبر طالعتنا به اليوم المواقع الالكترونية من أن المتعرية (علياء مهدي) اختارتها منظمة نسائية سويدية لتمثل المرأة المصرية! أمهزلة هذه أم أنها عنوان امرأة الدولة المدنية الديمقراطية المستقبلية التي يرديها الغرب؟! وعدد قتلى وجرحى الجندي الأمريكي في أفغانستان الذي دخل أمس منازل الأفغان العزل وأطلق عليهم النار بلغ 16 مسلماً، وقبلها جندي والعياذ بالله يمزق المصحف الشريف، وآخر يبول على جثث ضحايا الغارات الأمريكية، وقبلها انتهاك حرمات المسلمين والمصحف في العراق وكوانتانامو وجرائم سجن أبو غريب، ويخرج علينا ذاك القس أو المسئول أو المفكر الغربي ليعلن أن الإسلام دين إرهابي وأن المجاهدون والمدافعون عن دينهم ووطنهم ضد الهمجية الغربية في وطننا ونهب ثرواتنا ومقدراتنا وقتلنا وتعذيبنا وهدر كرامتنا إرهابيين، وأنه لا يصلح لنا إلا أقامة دول مدنية ديمقراطية لا دور للدين فيها من قريب أو بعيد..

وسرعان ما تجد تلك الأقوال والمطالب صداها يتردد في جنبات الوطن المذبوح المنهك والمنتهك كرامته من الداخل والخارج وتتحول لبرامج وتجند لها قوى إعلامية وبحثية لفرضها بالقوة، وتتحول إلى قوانين وفرمانات ملاحقة وتُسير لتنفيذها جيوش بالتعاون مع الأمريكي سواء من الجو أو على الأرض دون أن نتعلم من التجربة، وندرك استحالة القضاء بالقوة على تلك الأفكار ومجموعات الشباب الضحية لسياسة أنظمة أقطاره التابعة للغرب التي استجابت لمخطط الغرب برفض استقبالهم في أوطانهم التي خرجوا منها بدعم منها بعد انتهاء الحرب في أفغانستان أو غيرها لدفعهم لفعل شيء ثم يتهمهم بـ(الإرهاب) ويدعو للتصدي له والقضاء عليه، لأن الغرب بعد تفكك الاتحاد السوفيتي كان بحاجة لعدو (بعبوع جديد) يخيف به شعوبه ويستمر في خداعها بأنه واحة الحرية والديمقراطية والمدافع عن حقوق الإنسان والعدالة في العالم، واستمرت اللعبة الغربية وشاركنا فيها وبدل البحث عن وسائل أخرى لاحتوائها ودمج أصحابها في المجتمع والحياة العامة تقمصنا الدور وعشناه حقيقة في معركة ليست معركتنا، وبدل القضاء على تلك الأفكار نجدها تنتشر وتتسع على مساحة الوطن كله، وتتسع معها دائرة الدم وإهدار الأموال لمواجهتها ونفقد الأمن والأمان في شوارعنا ومدننا ومنازلنا فذلك ما يريده العدو اليهودي-الغربي لننشغل عن مخططاته ضدنا! والقائمة التي تبشرنا بحقيقة ونوع الحضارة والحرية والمواطنة التي تنتظرنا في ظل الدول المدنية الديمقراطية على الطريقة الغربية في زمن الربيع العربي تطول ..

وفي مقابل تلك الصورة المختزلة لجرائم العدو الغربي ضد الأمة والوطن ومطالبه من (ثورات الربيع العربي) ماذا نجد؟ نجد شريكه في الإرهاب العدو الصهيوني يُفشل كل ما يزعمونه (عملية سلمية) في (الشرق الأوسط، وطننا يعني) بإصراره على الاعتراف الفلسطيني بيهودية كيانه الغاصب لقلب الأمة والوطن قبل الاعتراف بأي حقوق وطنية لنا، ويمارس كل أنواع الجريمة وعلى جميع المستويات والأصعدة في فلسطين وآخرها شن غارات القتل والدمار منذ يوم الجمعة ضد أهلنا في غزة وحتى كتابة هذه السطور بلغ عدد الشهداء سبعة عشر شهيداً، ولم نسمع صوت غربي اتهم اليهود والصهاينة بالتخلف أو الرجعية لمطالبتهم الاعتراف الفلسطيني بيهودية الدولة، بل على العكس أقرت ذلك أداتهم في تمرير كل مخططاتهم هم والغرب ضدنا (الأمم المتحدة)! ولا أحد اتهم الدين اليهودي الذي يطفح بأوامر القتل والإبادة والتدمير للحرث والنسل من قبل الرب (يهوه) لليهود تحت طائلة الوعيد إن لم ينفذوا أوامره بأنه سيفعل بهم ما كان سيفعله بأعدائهم، ولا إدانة أو اتهام لا بإرهاب ولا ما هو أقل من الإرهاب؟! ولم يسأل أحد من أولئك البلهاء أذناب التبعية للغرب حضارة ومنهج في وطننا نفسه: أي عدالة وحضارة وحقوق إنسان ومواطنة وغيرها التي سنجلبها لأنفسنا وأمتنا، ويدرك أن مطالبه صدى صوت غربي غريب؟!.

لماذا ثلاثة كلمات عربية؟!
إذا ما حاولنا تقصي منشأ الاختلاف في الترجمات العربية للمصطلحات الغربية نجد البداية أن مَنْ نقلها وترجمها لنا ترجمها ترجمة حرفية تضليلية بعيداً عن تضمين الترجمة دلالة ورمزية المصطلح في لغته الأصلية وبيئته الحضارية التي نشأ فيها، دون أن يُبين أو يَتبين أوجه الاختلاف بين الثقافة الغربية التي نشأت فيها تلك المصطلحات ثقافة مجتمعنا الذي يختلف اختلافاً بيناً في نشأته وتطوره عن المجتمعات الغربية. أضف إلى ذلك اختلاف المناهج والمدارس والمرجعيات الفكرية للمترجمين، فهذا تأثر بالمدرسة الفرنسية وذاك تأثر بالمدرسة الإنجليزية، وثالث بالمدرسة الألمانية ورابع بالمدرسة الأمريكية ...إلخ. ولم تقف إشكالية الترجمة والمصطلح عند تلك الاختلافات ولكن يضاف إليها الاختلاف بين مترجم ملتزم بتراثه التاريخي والأدبي ومفاهيمه اللغوية النابعة من ذلك التراث، وآخر متأثر بالمفاهيم الغربية وفكر الحداثة والعصرنة. كل ذلك لعب دوراً في اختلاف ترجمة تلك الكلمات عند نقلها إلى اللغة العربية.

وعلى الرغم من تطور العلوم ووسائل البحث وتبين الاختلافات بين المجتمعات والحضارات واستحالة التطابق بينها تاريخاً وتجربة مازال دعاة التغريب لا يريدون الاعتراف بتلك الفروق وأن لكل مجتمع وحضارة خصوصية ثقافية تميزه عن غيره، وأن المجتمع الغربي يمتاز عن المجتمع الإسلامي تحديداً بأنه نتاج الجهد والعقل البشري وليس نتاج الدين والمنهج السماوي، وتلك خصوصيته منذ نشأته الأولى التي صاحبته عبر مراحل تاريخه وتطوره ولم تفارقه حتى في الحقبة الزمنية التي حكمت فيها الكنيسة باسم الدين، وعندما تخلص المجتمع الغربي من سطوة وسيطرة الكنيسة نهاية العصور الوسطى الأوروبية انتكس انتكاسات مدمرة إنسانياً في إلحاده ووثنيته إلى أن وصل به الحال إلى ما نحن عليه الآن من وثنية بشرية، ودين "أخلاق السوق" كما وصفه الفيلسوف روجيه جارودي.

وإن كانت الحضارات والمجتمعات الإنسانية الأخرى غير الغربية تحتفظ بخصوصيتها الثقافية المميزة لهويتها الذاتية لنفسها وعند احتكاكها وتعاملها مع المجتمعات والحضارات الأخرى تؤثر وتتأثر بقدر ما بينها وبين تلك الحضارات، إلا أن الغربيين لا يعترفون ولا يُقرون بخصوصية غيرهم الثقافية وينظرون إلى ثقافتهم وتراثهم على أنه ثقافة وتراث الإنسانية جمعاء، وتلك هي العقبة التي واجهتهم بشدة عندما حاولوا عولمة القيم الغربية خلال العشرين سنة الأخيرة! منذ قرنين وللآن لم يراجع متغربي وطني أنفسهم ويدركوا تلك الخصوصية ويصححوا منهجيتهم في النقل والتلقي عن الآخر وخاصة أعداء الأمة (الغرب)، أو يحاولوا تصحيح تلك الترجمات الخاطئة المتناقضة فيما بينها حول بعض المصطلحات التي لم تعتمد الحيادية ولا الموضوعية العلمية ولم تتبع المنهج العلمي في الدراسة والترجمة! فمثلاً منذ حوالي قرنين تقريباً ترجموا كلمتي (Culture & Civilization) الغربيتين إلى ثلاثة كلمات عربية هي (حضارة، ثقافة، مدنية) لم يعيدوا النظر فيها أو يصطلحوا على ترجمة واحدة لهما!:
* البعض ترجم (Culture) بمعنى "حضارة". والبعض ترجمها بمعنى "ثقافة".
* البعض ترجم (Civilization) بمعنى "حضارة" ـ أي ثقافة. والبعض ترجمها بمعنى "مدنية".
* البعض ترجم (Civilization) بمعنى "حضارة" وقصد بها اشتمالها على الجانب الذهني والمعنوي (العقائد والأفكار والعادات والتقاليد والعرف والآداب وغيرها) من الأمور العقلية في أي ثقافة، وعلى الجانب المادي (العلوم والتكنولوجيا وغيرها) أي "مدنية" .
* والبعض ترجم (Culture) إلى الجانب الذهني والمعنوي والأمور العقلية في حياة أي مجتمع، وكلمة (Civilization) إلى الجانب المادي والعلوم.
مما سبق يتضح أن هناك من ضيق مفهوم ومدلول كلمة "حضارة" وهناك من وسع ذلك المفهوم وجعله شاملاً لجميع نواحي الإنتاج الإنساني العقلي والمادي. وهناك من اعتبرها مرادفاً لكلمة "ثقافة"، وهناك من اعتبر الثقافة جزء من الحضارة، وهناك من اعتبر أن كلمة "حضارة" تشير إلى جانب في حياة المجتمع وكلمة "ثقافة" إلى جانب آخر. وهكذا، ذلك ليس لعجز ديننا أو لغتنا العربية عن إيجاد معاني دقيقة مقابلة لها ولكن لأنها كلمات في أصلها ليست عربية ولا هي من إنتاج تاريخنا الاجتماعي وتطوره، وعجز عقول مَنْ قاموا بترجمتها إدراك خصوصية الثقافة الغربية ومفهوم ومدلول ورمزية تلك المصطلحات في المجتمعات الغربية التي تختلف دينياً وتاريخياً وواقعياً عن مجتمعنا الإسلامي. كما أن منشأ الاختلاف يعود إلى الترابط العضوي والتداخل بين كلمات مثل: الحضارة والمدنية والثقافة والمجتمع والتاريخ والوعي والدين، فكلها قد تترادف، وقد تكون إحداها جزء من كل، أو قد تكون صفة ملازمة للأُخرة..إلخ.
وللتوصل إلى معنى مشترك لمعاني تلك المفردات الغربية في اللغة العربية يكون أقرب لمفهومها ومدلولها ورمزيتها في بيئتها الحضارية الغربية ولغتها الأصلية، سنبدأ بعرض ترجماتها العربية:
الحضارة والمدنية (Culture & Civilization)
هناك مَنْ ترجم الكلمة Culture إلى الحضارة، والكلمة Civilization إلى المدنية، ومَنْ أخذ بهذا التفسير أو تلك الترجمة اعتمد على أن هناك تباين شديد في آراء المفكرين حول مدلول كل كلمة، وأن هناك تمييز عندهم بين معنى الحضارة والمدنية، فالحضارة تعني الظواهر الثقافية والمعنوية في حياة أي مجتمع، والمدنية تعني الظواهر المادية في حياة المجتمع. وقد فرق البعض بين الكلمتين؛ على اعتبار أن الحضارة ترتبط بالمُثل السائدة في المجتمع، التي تجمع بين أفراد المجتمع كله في وحدة معنوية واحدة، والبعض ربط المدنية بالأوجه العملية والمادية لحياة المجتمع، معتمدين إلى حد كبير على رأي الفيلسوف الألماني (كانت)، الذي اعتبر أن الأخلاقية ضرورية للحضارة، ويعني بالأخلاقية من حيث هي حالة باطنة، تطبع الحضارة بالطابع الباطن أيضاً، في مقابل المدنية التي هي أكثر تعلقاً بالمظاهر الخارجية للسلوك.

وهناك من فرق بينهما على أساس أن المدنية تتعلق بالوسائل والحضارة تتعلق بالغايات مثل ماكيفر، فالمدنية تشتمل على مظاهر التقدم الصناعي والاقتصادي والحضارة ترتبط بالقيم الإنسانية الكامنة التي هي غايات مقصودة لذاتها. أما ألفرد فيبر فقد وضع أساساً آخر للتمييز بين المدنية والحضارة، على أساس أن المدنية تقبل أن تنقل وتتوارث من جيل إلى آخر، وكل جيل يبدأ في مدنيته عند النقطة التي انتهى إليها الجيل السابق، فالمدنية تراكمية، ثم إن المدنية في وسع سائر الشعوب اقتباسها، أما الحضارة فهي إنتاج مستقل يصعب انتشاره من مجتمع لآخر، كما يصعب القول فيها أن الأجيال اللاحقة يمكنها أن تتفوق فيه على الأجيال السابقة.

وغالباً بدأ التمييز بين الحضارة والمدنية في المدرسة الألمانية والفرنسية، ففيلسوف الحضارة الغربية الألماني (أزوالد شبنجلر) صاحب نظرية صعود وسقوط الحضارات الذي تنبأ بانهيار وتدهور الحضارة الغربية ووصولها لنهايتها، وبغض النظر عن وجهات النظر المؤيدة والمعارضة لهذه النظرية، نقول: إن شبنجلر قد جعل لكل حضارة مدنيتها الخاصة معتبراً أن المدنية Civilization هي نهاية مطاف الحضارة، وأنها المصير المحتوم للحضارة، وأن المدنيات هي أضحل الأوضاع سطحية، وأبعدها على الطبيعة أصالة، وهي تدخل في حيز قدرة مرتبة معينة من مراتب الإنسانية. والمدنية عند شبنجلر هي، نتيجة الشيء "يصير"، يخلف الشيء في حالة الصيرورة، إنها الموت يتبع الحياة، فهو يرى أن حيوية الإنسان الحضاري تتجه في مجراها إلى الباطن، أي أنها تهتم بالجانب الذهني والمعنوي والعقلي والأخلاقي في حياة الإنسان والمجتمع، الذي يمثل الجانب الأقوى في أي أمة، ويحافظ على استمرار قوتها وتماسكها وتقدمها. بينما تتجه حيوية الإنسان المدني إلى الخارج، أي للاهتمام بالجانب المادي وتوفير الرفاه والراحة للإنسان، وإشباع حاجاته ورغباته، وذلك يؤدي إلى تراجع في الجانب الأول الذي هو أصل الحضارة، مما يؤدي إلى الانحلال والتراخي الخلقي والاجتماعي وغيره، الذي يؤدي إلى تدهور تلك الحضارة وسقوطها ونهايتها. وبذلك تكون Culture عند شبنجلر هي الحضارة أي الجانب الذهني والمعنوي وCivilization هي المدنية أي الجانب المادي.

في حين يرى البعض أن العرف جرى على اعتبار أن لفظي "المدنية والحضارة" مترادفين عربيين لمفهوم كلمة Civilization، ولكن العلوم الإنسانية الحديثة تقصر مصطلح المدنية على المستوى الراقي من حياة المجتمع المادية التي تتمثل في العمران وتخطيط المدن وتنظيمها وتوافر مرافقها، والتنوع والتفنن في مطالب الحياة الضرورية والكمالية، من مأكل ومشرب، وملبس، ومسكن وترويح للنفس. أما الحضارة: فمصطلح يُطلق على النواحي الفكرية والخُلقية والاجتماعية من حياة المجتمع، التي تتمثل في العلوم والآداب والفنون ونظم الحكم ودساتير السلوك والآداب والتقاليد والأخلاق العامة والعقيدة الدينية. ولقد رأى البعض أن معنى الحضارة يشمل نتاج العقل والفكر ممثلاً في الكتب والصور والعقائد والمعارف والنظم الاجتماعية والسياسة والمعاني الضخمة الجميلة والسلوك الحميد ووسائل النقل والسفر..إلخ. ومعنى هذا أنها تشمل الدين واللغة والأخلاق والعلوم والفنون والصناعات والعادات، فهي إذن ثقافة أو طابع يتسم به جماعة كبيرة من الناس فترة من الزمان.

وعلى ذكر الثقافة، فإن معظم الباحثين اليوم يتفقون على أن كلمة ثقافة عندنا -في اللغة العربية- تقابل ما يسميه الغربيون Culture، فبين اللفظين شبه في أصل المعنى وكلتاهما تعني التهذيب والتربية والتنمية، ومن هنا أصبح المدلول العام لكل من هاتين الكلمتين العربية والإفرنجية الجانب الروحي المعنوي من حياة الفرد والجماعة. أما المدنية: تعني جانب العلم أو المادة والاختراع من حياة الأمم، ويستعمل بعض الكتاب كلمة "حضارة" مرادفة لكلمة "مدنية" وكلتاهما تقابل الكلمة الغربية Civilization .

التاريخ: 11/3/2012

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت