أبو حميد
الثامن من آذار عام 2002 لم يكن يوماً عادياً، توغلت قوات الاحتلال في ساعته الأولى في المنطقة الشرقية بمحافظة خان يونس، إطلاق نار كثيف من أسلحة ثقيلة شارك الطيران فيها، فجأة أفاق سكان المحافظة على هول المصيبة، استشهاد اللواء أحمد مفرج "أبو حميد"، كأن الخبر أحدث زلزالاً أيقظ سكانها من نومهم، تدافع الجميع إلى مستشفى ناصر، كأنهم يبحثون هنالك عن من يكذب الخبر، توالت الأخبار عن شهداء سقطوا تباعاً، الجميع يبكي ومنهم من أخذ يجهش والغضب يتطاير في المكان، شهيد آخر يتبعها جملة "استشهد أبو حميد"، كأن الجميع تسمر عند حجم المصيبة التي طالت القائد أبو حميد، اقتربت والدة الشهيد عارف حرزالله لتقول لي استشهد عارف مع القائد أبو حميد، اكتظت المستشفى بالجماهير وامتلأت الشوارع بالشيوخ والنساء والشباب، مع آذان الفجر بلغ عدد شهداء جريمة الاحتلال ستة عشر شهيداً، عندما سقط أبو حميد شهيداً تدفق من حوله إلى الشهادة، رياض القصاص وعارف حزالله والثلاثيني وأبناء قديح والنجار وغيرهم.
اعتاد اللواء أبو حميد أن يكون على رأس قواته وفي المقدمة خلال تصديه لقوات الاحتلال التي تتوغل عند أطراف المحافظة المختلفة، يشهد له بذلك المخيم الغربي والربوات والقرارة والشرقية، وفي ذلك اليوم سارع كالعادة مع قواته لمواجهة آليات الاحتلال، ورغم أن رفاقه في قيادة الأمن الوطني طلبوا منه مراراً ألا يتقدم كثيراً، إلا أنه حرص يومها أن يكون في الصف الأول مع مقاتليه، أجزم بأن التوغل الإسرائيلي في ذلك اليوم كان الهدف منه اغتيال القائد أبو حميد ، وما يدلل على ذلك الطريقة التي نشرت بها قواتها، وأن مهمتها انتهت وبدأت بسحب قواتها مباشرة بعد استشهاده، أبو حميد كان الحاضن للعمل المقاوم، ولم يتوان يوما ما في توفير متطلباته لهم.
لم أكن أعرف القائد أبو حميد قبل قدوم السلطة الوطنية، تنقل مع الثورة الفلسطينية وخاض حروبها، وبعد تسلم السلطة الوطنية لمهامها تولى قيادة الأمن الوطني في المنطقة الجنوبية، لم يخلع بذته العسكرية، اعتقدت دوما أنه ينام ويصحو بها، كانت العسكرية بالنسبة له تفاصيل حياته، استطاع أبو حميد أن يفرض احترامه وتقديره على الجميع، كان يحرص على مشاركة الناس أفراحهم وأتراحهم، وفتح باب مكتبه للجميع، وجعل من مقره ملاذاً للباحثين عن حل لقضاياهم بما فيها المجتمعية منها التي لا تمت للأمن بصلة، كان يقيم بشكل دائم في ثكنته مع قواته، نادراً ما غادرها حتى عندما أخذت القوات الإسرائيلية تقصف المقرات الأمنية، كان يطلب من قواته الانتشار خارج المقر في الوقت الذي يصر فيه على البقاء داخل المقر، المقر الذي اعتاد سكان خان يونس لقاء الرئيس "أبو عمار" فيه، ولعل زيارات الرئيس "أبو عمار" المتكررة لمقر قيادة الأمن الوطني في محافظة خان يونس يدلل على طبيعة العلاقة القائمة بينهما.
اعتدت أن ألتقي به مساءاً في مكتبه، لأكتشف الجانب الآخر من صورة هذا القائد، كان عاشق للقراءة، وإن كانت الكتابات السياسية والأمنية تستحوذ على اهتمامه، ويتابع من خلالها ما توصلت إليها الدول المتقدمة من تطوير ترسانتها العسكرية، إلا أن الكتب العلمية والأدبية كانت لها نصيباً لديه، وكثيراً ما كان ينهض أثناء الحديث ليحضر مجلة تناولت الموضوع قيد النقاش، كان يحرص على متابعة شؤون المدينة وقاطنيها، وكثيراً ما كان يتحدث حول رؤيته لتطوير مرافقها، حتى المرافق الرياضية والأنشطة فيها كانت حاضرة مراراً في حديثه، اقترابي منه جعلني أطلع على حقيقة علاقته بأفراد قواته، كان صارماً في تنفيذ تفاصيل الفهم العسكري ولا يتهاون بها بالمطلق، في القوت ذاته كان بمثابة الأب الحنون على أبنائه، يتابع قضاياهم ومشاكلهم حتى الثانوي منها، مما كرس حباً له من قبل قواته قلما رأيته في مكان آخر، لعل هذه العلاقة هي التي دفعت رياض القصاص ورفاقه في الأمن الوطني على محاولة إنقاذ القائد أبو حميد وإن كانت الشهادة نصيبهم، كنت أعرف الشهيد عارف حرزالله عن قرب منذ اليوم الأول الذي عاد فيه من دولة الإمارات ليشارك أهل فلسطين انتفاضتهم الأولى، وأعرف مدى التقدير الذي يحتفظ به للواء أبو حميد، لذلك من الطبيعي ألا يغادر المنطقة التي استشهد فيها القائد أبو حميد إلا شهيداً.
كم هو مؤلم أن تفقد مجموعة من الأصدقاء في لحظة واحدة، ومؤلم أكثر عندما يكون من بينهم قائد بقيمة اللواء أبو حميد، لكن ما يخفف من وطأة الألم أن عطائهم وانتمائهم الصادق للوطن يبقى خالداً في ذاكرة الشعب، بعد استشهاد اللواء أبو حميد اتخذت بلدية خان يونس قراراً بتسمية ميدان وشارع باسمه، لم تكن البلدية بحاجة لبذل جهد يذكر لترسيخ اسم أبو حميد عليهما، كأن سكان خان يونس أرادوا أن يحافظوا باسمه على تواجده بينهم، كم نفتقدك أيها القائد ليس في ذكرى استشهادك بل في كل محطة نحتاج فيها لتواجد الرجال.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت