لقد رحل الرجل الذي أحب الناس وسعى لخيرهم دون تفرقة أو تمييز فأحبوه وتمنوا أن يتماثل للشفاء وهو يصارع المرض منذ سنوات، ولعل المرض الذي ألزمه السفر للعلاج المتكرر في الخارج قد نجح في النهاية بهزيمة هذا الصرح الكبير فآثر الرحيل عن الدنيا تاركاً إرثاً غنياً لمن سيخلفه في منصبه الذي تولاه منذ عام 1971 وحتى وفاته. لقد كان البابا شنودة مغرماً باللغة العربية ويتكلم فصيحها بطلاقة ملفتة، كما كان مغرماً بكتابة الشعر والرومانسي منه خاصة.
كيف لا وهو خريج كلية الآداب قسم اللغة العربية عام 1949 واشتغل بها قبل أن يترهبن في عهد البابا كيرلس السادس عام 1956 ويعمل سكرتيراً شخصياً له.
البابا الراحل كان عروبياً ووطنياً مصرياً بامتياز، حيث لا يمكن أن ننسى موقفه الرافض لاتفاقية الذل مع العدو الصهيوني وكل نتائج مفاوضات كامب ديفيد من جانب السادات التي أفضت لتوقيع اتفاقية لا زالت تكبل يد مصر وتمنعها من لعب دورها القيادي الطبيعي في المنطقة والوطن العربي. كان رحمه الله صريحاً وواضحاً في اعتبار الاتفاقية غير شرعية طالما تترك القدس وبيت لحم تحت الاحتلال، حتى انه أصدر فتوى لا تجيز للمسيحيين من رعاياه وهم بالملايين زيارة القدس وكنيسة القيامة وغيرها من المدن الفلسطينية طالما هي تحت الاحتلال واعتبر أي زيارة لهؤلاء خروجاً عن الدين والملة، الأمر الذي أغضب الرئيس الراحل أنور السادات ودفعه للتعامل بفظاظة وعدم لباقة واحترام مع الأنبا شنودة، والتي في محصلتها جعلت السادات وبمشورة أجهزة الأمن ينفي أو يبعد البابا إلى دير وادي النطرون في سيناء حيث مكث فيه سنوات انتهت بعد تولي الرئيس المخلوع مبارك زمام السلطة في جمهورية مصر العربية. يذكر أنه رغم التحريض الذي تقوم به مراكز الدعاية الأمريكية والغربية ضد مصر باعتبارها تضطهد المسيحيين فإن الرجل لم يشارك أو يستغل ذلك للمس بوطنه مصر أو بإحراج قيادتها، ولم يخرج عن ذلك سوى مرة واحدة لم تتكرر مطلقاً وكانت في عصر السادات المقبور حين أطلق العنان للمتطرفين الإسلاميين من إخوان وسلفيين وجماعات تكفيرية للعبث بالوضع الداخلي بما في ذلك التعدي على حقوق المسيحيين وممتلكاتهم بالإضافة للهدف الأكبر بإلهاء الشعب المصري عن أزماته المتفاقمة كالفقر والبطالة وتفشي الجريمة والتطرف فضلاً عن جمود عملية السلام وبقاء سيناء تحت الاحتلال رغم النصر المزعوم في أكتوبر 73.
لعل موقف الأنبا شنودة لا يتوضح تجاه اتفاق مصر المهين مع العدو الصهيوني رفضاً ومناهضة إلا بتبيان موقف شيخ الأزهر الشريف من هذا "السلام" وكذلك فتواه السيئة والخاطئة بجواز الصلح مع العدو رغم بقاء المقدسات وكل فلسطين في قبضته، ولعلنا نذكر كيف استغلت آية كريمة من القرآن لهذا الغرض في قوله تعالى: وإن جنحوا للسلم فاجنح لها.
إن معايشة البابا شنودة الثالث للبابا كيرلس السادس المعروف بعلاقاته الطيبة والمميزة مع الزعيم والقائد العربي الكبير جمال عبد الناصر وقيام هذه العلاقة على أسس احترام عقيدة الآخر والإقرار بوجودها في ظل تسامح متبادل لخصوصيات الطرف الآخر في إطار الوطنية والعروبة مع بقاء الكنيسة والمسجد بمنأى عن السياسة والصراع الحزبي هو ما أسس عليه البطرك شنودة سياسته البابوية في مصر وسائر المشرق العربي.
لقد جاء رحيل البابا قاسياً على مصر ومسيحييها على وجه الخصوص، فنحن نعلم الظروف الحساسة والدقيقة التي تمر بها الدولة المصرية وحجم التناقضات والصراعات الداخلية في خضم مرحلة انتقالية ليست ميسرة أو ممهدة، كما أن المعلومات تتحدث عن وجود خلافات ليست هينة بين أعضاء المجمع المقدس أو الكنسي وبين الأقباط عموماً تجاه قضايا التعامل مع الثورة المصرية الحديثة التي أولاها البابا الراحل اهتماماً خاصاً حين سمح لرعيته بالمشاركة فيها رغم علاقته الجيدة مع حسني مبارك والمسئولين المصريين عموماً.
وفي الختام فإنه رغم الانتقادات التي وجهها البعض للرجل حول قيادته للأقباط كزعيم سياسي وانه يعمل على خلق دولة داخل الدولة إلا أن التاريخ سيذكر هذا الرجل باعتباره أحد الرموز العروبية الكبيرة والمحترمة في مصر، وقد جاءت زيارة المرشد العام للإخوان المسلمين للبابا شنودة قبيل وفاته مباشرة لتظهر عمق الرابط الذي يجمع أبناء مصر العربية، وان قضية الاختلاف ألعقيدي والدين لا يمكن أن تؤثر على مكانة الإنسان أو حب الناس له. رحم الله البابا شنودة الثالث وأسكنه فسيح جناته وندعو الله أن يعوض مصر والإخوة المسيحيين عنه خيراً وإنا لله وإنا إليه راجعون.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت