الصَّواف يدعـو للتغيير....بلا إصلاح

بقلم: عبد الحليم أبوحجاج

الأستاذ مصطفى الصواف دعا إحدى وزارتي التربية والتعليم العالي ! إلى إعادة النظر في تخصصات الثانوية العامة ( العلمي والأدبي ) ، ويقترح " إلغاء هذا التقسيم الضار " الذي أدى إلى عزوف الطلاب عن أقسام الكليات العلمية وانكبابهم على الكليات الأدبية والعلوم الإنسانية ، مرجعا ذلك إلى " وجود فهم مغلوط لدى الطلبة " بأن القسم الأدبي أسهل ولا يحتاج إلى جهد كالقسم العلمي ، وأبدى الأستاذ قـلقه من إنشاء قسم ثالث للدراسات الشرعية في الثانوية العامة وهو الناصح بإلغاء هذه التقسيمات تحت مسمى : واحد ثانوية عامة . هذا بنص مقالة الأستاذ الصواف في جريدة الرسالة ( الاثنين 19-3-2012) وقد فاته أن المشكلة ليست في الطالب وحده بقدر ما هي – في الأساس- في فلسفة المجتمع وفي فلسفة التربية والتخطيط التربوي وإغفال العامل الاقتصادي . هذا هو مربط الفرس كما يقولون – و نحن نشك في وجود الفرس وفي وجود مربطه... لأن أدعياء الفلسفة والقائمين على برامج التعليم الذين يفكرون عنا ويخططون لنا : إما أنهم ناقلون وإما أنهم مقلدون دون مراعاة لعوامل التنمية المختلفة ودون اعتبار للتنشئة الاجتماعية في بلادنا , فيزرعون المانجو في جبال الخليل وسهل غزة في غياب المهندسين التربويين المنوط بهم استصلاح التربة المدرسية قبل زراعة التربية وغرس رأس المال البشري فيها.
ولعلي أذكِّر الأستاذ – ولا أخاله ينسى – أنه قد مرت على مدارسنا ومناهجنا ومقررات دراستنا فترات من الجمود تخللتها هزات عنيفة زلزلت الأرض من تحت أقدام الدارسين والمدرسين , وخلَّفت وراءها نتائج سلبية أثقلت الجميع بهمومها – وبخاصة التلميذ من الصف الأول حتى الصف الثاني عشر. ولو نظر الأستاذ الصواف نظرة متأنية فاحصة إلى مناهجنا السقيمة وإلى عدد موادها ومقرراتها الدراسية الجافة العقيمة المحشوة بكلام يستعصى على الدارس هضمه ويستغلق عليه فهمه ، لعلم أنها تُنفِّره منها ، فيلعن مركز المناهج القائم على اختيارها وتأليفها بهذه الأساليب الجافة المقتضبة دون شرح أو تبسط , ودون أمثلة أو نماذج تعين الدارس على الفهم والاستيعاب , لهذا نجد كثيرا من الطلاب يهرعون إلى الدروس الخصوصية وإلى الكتب التجارية التي تبتزُّ منهم الأموال أثمانا لها مرتين في السنة ، وليتهم يجدون فيها ضالتهم ... ولو نظر الأستاذ صواف إلى المعلم وتحقق من إمكاناته الأكاديمية والتربوية لوجد أن الطالب معذور في قراراته وتوجهاته لأن أستاذه (عِلمُه على قدّه ) وفاقد الشيء لا يعطيه ، وباختصار فهو غير مؤهل للتدريس أكاديميا وتربويا ؛ لأن الجامعة التي تخرج فيها لم تكسبه المعرفة الجيدة ، وهو غير حريص عليها ؛ إذ لم يكلف نفسه قراءة كتاب ، ولم يتقن فن الغوص في أعماق المراجع والأبحاث للحصول على معـلومة تفيده ، إذ كفته شبكات " الإنترنت " ذلك . وقد كتبتُ في هذا الأمر مقالة في جريدة الرسالة ونُشرتْ أيضا في عدد من المواقع الالكترونية بعد الانقلاب العسكري في غزة , وبعد الدعـوة الهدَّامة التي طالت مدارس القطاع بانقطاع المعلمين عن العمل وعنوانها ( أيها المتخاصمون : ارفعوا أيديكم عن التعليم ...) طالبتُ فيها تحييد التعليم عن الخصومات السياسية وعدم جرِّه إلى حلبة الصراع السياسي , وبينتُ فيها مدى المأساة وحجم الكارثة التي حلت بالتعليم نتيجة الفراغ المهني ، مما دعا حكومة حماس إلى التحدي , وسد هذا الفراغ بتعيين معلمين ومعلمات جُدُد , حديثي التخرج , أو تعيين طلاب وطالبات لم يتخرجوا بعـد في جامعاتهم , وأُسْنِد إليهم تدريس الصفوف العليا في المدرسة الثانوية بقسميها العلمي والأدبي ... فزادت المأساة وتفاقمت المصيبة , فترى الطالب المجتهد خائفا على نفسه من يومه ، قلقا على مستقبله في غده , وترى الطالبة تعود من المدرسة إلى بيتها دامعة العينيين حزينة لاستغلاق دروسها على الفهم ، ولا تدري ماذا تفعل ؛ واليد قصيرة والعين بصيرة ، وتتصاعد الشكوى من عدم جاهزية كثير من المدرسين والمدرسات للتدريس ... ولا حياة لمن تنادي !...أتريد يا أستاذ صواف بعد هذا كله نهضة علمية ورقيا للتعليم ؟ أما زلتَ على إصرارك بعد هذا كله على دمج القسمين العلمي والأدبي في ثانوية عامة (كوكتيل دراسي)..؟ ألا تخشى من تفاقم الفشل وزيادة عدد الطلاب التاركين للدراسة ؟. فأيهما أفضل بربك : هَجْر المدرسة وتَـرْك التعليم أم الهَجْر الجزئي لأحد قسمي التعليم وبقاء الآخر بالرغبة المطلقة دون إكراه ؟.. فلماذا تدعـو إلى تغيير من غير إصلاح ؟!. ولماذا لا نترك لطلابنا حرية اختيار القسم الذي يرغبون فيه ؟ فلعل ابن القسم العلمي يصبح عالما ، فيتوصل يوما إلى صناعة صاروخ أو اختراع آلة أو اكتشاف دواء , ولماذا لا ندع ابن القسم الأدبي يشق طريقه ويصقل مواهبه ؟ فقد ينتهي به المشوار إلى أن يكون لدينا المفكرون والأدباء والشعراء والفنانون . ولا أراك يا أستاذ ترضى أن يقهرك أحد أو يجبرك أحد على أكل طعام تعافه نفسك ولا تهضمه معدتك ولا يستفيد منه جسمك وقد يضرك .. فإذا كان من حقك أن تختار طعامك الذي تشتهيه وتستسيغه , وإذا كان من حقك أنك اخترت دراستك كما تحب وترضى فلماذا تحرم هؤلاء الطلاب من حقهم اليوم في اختيار ما يريدون وما يحبون ؟. أستاذ صواف : أنت لا تستطيع أن تتحكم في ميول الدارسين ورغباتهم , ولا تستطيع أن تتجاهل الفروق الفردية والقدرات العقلية لديهم ، وليس من حق أحد أن يحدد لهم مسارهم , أو أن يجبرهم على حب شيء يكرهونه , ولا أن يجعلهم يُقبلون على شيء ينفرون منه . لأننا إذا أجبرناهم على دراسة ما لا حيلة لهم به وما لا طاقة لهم به , وما لا رغبة لهم فيه , وما لا يرون فيه أنفسهم ، فإن مصيرهم الفشل والانقطاع عن الدراسة والخروج من المدرسة إلى الشارع لبيع الترمس أو الجلوس في المقاهي للتخطيط للهجرة .
من هنا يجب التعامل مع هذه القضية المستقبلية بمسئولية كاملة من خلال بلورة رؤية تربوية شاملة واضحة تكشف عن قوامات النجاح وأسباب الفشل , وتضع الوسائل المعينة التي تُمكِّن المجتمع من تحقيق الأهداف المرجوة ... لهذا فمن حق الدارس علينا – كمجتمع – أن نترك له حق اختيار دراسته وتحديد وسائله بنفسه لبناء مستقبله وأن نعينه على تحقيق ما يريد أن يكونه من خلال تهيئة الظروف والأجواء والمناخات النفسية والذهنية والبيئية . فالدارس يتنفس الصعداء حين ينتهي من الصف العاشر بنجاح , ( ويُطلِّق بالثلاثة ) دراسة مساقات معينة فيدخل القسم الذي يخلو منها .
أما عن السبب الذي يجعـل الطلاب ينكبون على القسم الأدبي وينصرفون عن القسم العلمي ، فهو بالإضافة إلى الميول والقدرات الخاصة ، فإن القسم الأدبي أسهل للراغب فيه ويمكن الاستغناء عـن المعلم في كثير من مقرراته ، ولا يحتاج إلى دروس خصوصية كما في العلمي ، مع الإقرار بأن كليهما يحتاج إلى جـد واجتهـاد ومـواظبة ، ولكن الـفارق بينهمـا أن الكليات العـلمية المحتـرمة كالـطب والهندسة والصيدلة لا يدخلها إلا مـن حصد مجموعا بنسبة 90% فـما فـوق ، وتحتاج إلى آلاف الدنانير لتسديد الأقساط الجامعية والنفقات الخاصة طيلة مدة الدراسة , وقد يتعثر الطالب سنة أو اثنتين أو أكثر لسبب هو مسئول عنه أو بسبب عنجهية وجبروت وديكتاتورية هذا الأستاذ الجامعي الذي ( لم ينجح أحد) في مادته , حسب مزاجه ، أو أنه يريد أن يُسقِط إخفاقه السابق على طلابه دون رقيب أو حسيب . فما دامت هذه الأموال غير متوفرة ولا أمل في توفيرها في المستقبل . وما دام الطالب غير واثق من حصوله على أكثر من 90% في الثانوية لدخول الكلية التي يتمناها ، إذن أقصِرْ الطريق يا ولد ولا داعي لوجع الرأس . وهيَّا إلى القسم الأدبي فهو فعلا أسهل وأقل تكلفة وأقل (مزاهدة ومناهدة) ، وإنه يتساوى في النهاية مع غيره في عدم الحصول على وظيفة بعد التخرج ... وصدقني يا أستاذ لو أن الطالب يرى في نفسه الكفاءة للدراسة العلمية لما استطاعت قوة في الأرض أن تثنيه عنها . ولعل الأستاذ صواف يذكر أن الطلاب في قطاع غزة بعد الهجرة من فلسطين كانوا أشد حرصا على التعليم من طلاب اليوم , فالناس يتساوون في الفـقـر وراحة البال ، ولا منقذ لهم من مستنقع فقرهم إلا التعليم , فبه يحصلون على الوظائف التي تنتشلهم , فالحاجة الاقتصادية هي وراء اهتمام الآباء والأبناء بالتعليم , حين كانت المدارس توفر الكتاب والمعلم الكفء من أبناء القطاع أو من المعلمين المنتدبين من مصر , ومَن يتفوق من الطلاب يحصل على وظيفة أو يحصل على منحة دراسية في جامعات مصر , ومن لم يجد فيتعلم على نفقات والده من كد يده أو مما توفره الأم من وراء تربية الدواجن ، يساعدهم في ذلك ثمن ما يبيعونه مما يزيد عن حاجتهم من تموين وكالة الغوث ... لهذا كانت نسبة الصفوف العلمية إلى الأدبية (عشرة إلى واحد ) عكس الحاصل الآن . وكان على الطالب في القسمين أن يتخصص في إحدى المواد الدراسية ، وكانت العزيمة والإرادة والدافعية للتعلم وراء كل نجاح في وجود العوامل المشتركة التي تجمع الناس تحت خيمة الفـقـر وهـدأة البال والنفس الرضية . فتعال معي يا أستاذ لندعـوا أولي الأمر فينا – وما أكثرهم وما أقل بركتهم – إلى وحدة شعبنا وتَرْك الأحزاب ونبذ الحزبية ، والعمل في منظومة مجتمعية واحدة لتوفير سبل العيش الكريم للشعب كله من أمن وأمان ومن رغيف خبز وماء وغاز وكهرباء لفض غلاف عتمة ليالينا وإنارة نهاراتنا ، وتوفير فرص عمل لأرباب الأُسر المُعْـدَمَة ولخريجي الجامعات من الشباب المُقبل على الحياة . فهذه مسئولية الراعي عن رعيته أو يتنحى . تعال معي يا أستاذ نناشد جامعاتنا – استغفر الله شركاتنا التجارية القائمة على الربح المادي دون اعتبار للظروف الاقتصادية والضائقة المالية والبطالة الخانقة التي يمر بها القطاع , وليتـك تناشدها معي أن تشفق بالآباء وتعطف على الأبناء بخفض أثمان الساعات الجامعية حتى لا تُجْبِر الطالب وأباه على التسول على أبواب المؤسسات الخيرية أو تضطر الطالب إلى التوقف عن استكمال دراسته وترك الجامعة.
وكلمة حق أخيرة مشفوعة بالشكر والاعتراف بالجميل نرسلها إلى جامعات مصر وسوريا وليبيا والعراق والجزائر: شكرا لكم ، لقد كنتم بأبناء فلسطين رحماء أكثر من الجامعات الفلسطينية ، وبخاصة الإسلامية والأزهر بغزة . أستاذ صواف : لك مني تحية وأرجو أن تدع ما طرحته من الخواطر التي لا تسـُرُّ الخاطر ، وسيبك من التعليم وخليك في المطبخ السياسي ...*

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت