فوُجد الإنسان عليها ليسعى في مناكبها نحو الإصلاح والعمارة ويحفظها من الفساد والدمار، وأحاطها الله بالحفظ من الزوال و الهلاك ما دامت إرادته قائمة على بقائها وقيام الناس عليها، ومع نمو البشرية وامتداد أعدادها توسعت مساحتها وتشكلت المجتمعات بحضاراتها وثقافتها المختلفة .
وبتنوع المجتمعات وتعدد الثقافات بين الناس بدأ الصراع بين الأمم على قوة البقاء واستلام القيادة العالمية، فنشبت بذلك الحروب وعم الفساد واختل الوجود الإنساني بما يفعله الإنسان كل يوم من سوء، وبالمقابل استمر النمو الإنساني بتطور العقل والعلم ليصل لأعظم الاختراعات والتطويرات العلمية التي تحتاج لسرعة حركة الإنسان في ملاحقتها ومواكبتها في حياته .
عم السلام والأمن والعدالة المطلقة عندما أكمل النبي المصطفى مهمة الدعوة للدين الخاتم فوضع أسس الحياة القويمة والسليمة الصالحة لكل المجتمعات والعصور وللبشرية جمعاء، ومنذ أن انتهى عصر الراشدين من بعده عليه الصلاة والسلام عم الأمة العربية والإسلامية التشتت والاضطراب في حياتها من جديد، فدخلت الفتن على ديارهم وأرضهم وضعفت شوكتهم كلما تقدم الزمان بهم، فوصلوا لأضعف المجتمعات وأكثرها تعرضاً للاضطهاد والظلم ممن سيطروا عليها بالاحتلال والغزو الخارجي أو من هيمنة الحكام والسلطان الظالم .
ونالت أرض فلسطين أكثر من غيرها من البلاد العربية الحظ والنصيب من عرضة الاعتداء والظلم من الغزاة والمحتلين ، فتوالت عليها الحقب المختلفة لتقع تحت نير الاحتلال المتنوع عليها وبقيت في قيد ظلمه ليومنا هذا لتتعقب الأجيال على معاناة وقهر الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين ليكون الأشد والأخطر على هوية الأرض الفلسطينية ووجودها .
ارتبط الإنسان الفلسطيني بأرضه منذ أن وجد عليها لتشكل له عقيدة وهوية ووجود، فكان منذ القدم مرتبطاً بها كأرض مقدسة ورد ذكرها بكتاب الله وسنة نبيه كمهبط الأنبياء وأولى القبلتين ومسرى النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم ومقر للرباط والجهاد ومن الواجب الحفاظ عليها والصبر في المرابطة عليها والدفاع عنها، وارتبط بها كمصدر للرزق ورمز للخير والعطاء فشكلت شجرة التين والزيتون عنواناً لذلك العطاء والارتباط التاريخي الممتد عبر الأجيال، وكان لسنابل القمح وما يتبعها من حصد البذور صورة لذلك الخير وتنوع الفصول وتشكلها لتحمل في كل فصل منها ثمار تلون بها الأرض وتزكي بها رائحتها وأفواه الفلاحين وقلوبهم .
ومنذ النكبات المتتالية على أرض فلسطين بالتهجير والتهويد والسرقة للمعالم والتاريخ، يجد الإنسان الفلسطيني علاقته بأرضه تشكل له عنوان البقاء والصمود، فيزداد ارتباطاً وتعلقاً بها والسعي في حمايتها فيقع الشهيد على أرضها ليموت مدافعا عن عروبتها، ويُعتقل الأسير مدافعاً عن قضيتها وهويتها، ويمارس الإبعاد والتهجير لاقتلاع جذور الصمود الفلسطيني، ويوضع الجدار ليلتف حول الأعناق ويخنق أنفاس الوجود، وتُسرق الأرض لتُقلع منها أشجار الحقيقة والتاريخ لتُزرع بأحجار الاستيطان والمحتلين، وتوضع الحواجز لتُعيق المرور والتنقل بين ربوعها والجذر في ترابها، وتُسرق المياه من أجوافها لتشح عن مزروعاتها وسكانها، وتلوثها بالمبيدات وغيرها لتنفر أهلها من الاقتراب منها أو الأمان عليها ويُمنع حق العودة للمهجرين لأهلها خوفاً من لملمت هويتها وبقايا أجزائها .
أرض فلسطين والانتماء إليها ليس كأي أرض، فهي الأرض التي نزفت الكثير وعانت من ويلات المحتلين فاستحقت ذلك الحب وارتباط العشق إليها قبل أن يكون واجبا دينيا وعقيدة سماوية، وهي أرض الإنبات للخير والعطاء للآخرين من حُشر فيها نال رحمة الرحمن ورضاه، فلا عجباً أن نرى أبناءها يموتون كل يوم بحبها ونيل حريتها ويَتحدّون ذلك المحتل بكل الوسائل والأساليب ليمسحوا وجوده المزور ويحفظوا لها هويتها ويعيدوا ما سرق منها ليُحفر من جديد على جبينها وعنوانها أنها أرض فلسطينية تستحق أن تبقى في الوجود .
فإن كانت أرض فلسطين تنزف الألم والقهر كل يوم من نير الاحتلال وظلمه، فلماذا نكون سبباً لزيادة ويلاتها وآلامها بأيدي أبنائها ومن سكنوا في ترابها وتنقلوا بين ربعوها، فتمنع الحقوق والحريات ويحاصر أهلها بالحرمان من حقوق الحياة الكريمة وانتشار البطالة والفقر والفساد المتنوع ليصد الناس عن قوة الانتماء إليها والدفاع عنها، ويكفي بذلك الانقسام والتناحر السياسي الحزبي الذي عم بالويلات والابتلاءات على كثير من الناس فأفقدهم الثقة بمن يتولون سلطتهم والخوف من أن تُفقد الثقة بالانتماء إلى أرضهم، فيبحث الكثير عن بلد للهجرة والكرامة الإنسانية، فتضيع الأرض دون أن تجد أيادي أبناءها يدافعون عنها ويصدون نير الظلم والعدوان والسرقة لهويتها ووجودها من أبناء صهيون .
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت