دعاة أم أدعياء الفضائيات

بقلم: فراس ياغي

لم ينظر الفتى خلفه..مشى واثقا ملكا بعد أن قرأ ما لم يقرأه جيله..فمجرد معرفة شيء يحول البعض لنابغة عصره..فالمعرفه بالنسبة للبعض ترديد عبارات وكلمات دون فهم المعنى..أذكر أيام الجامعة، كيف كان بعض الناشطين يحفظون مقولات لفلاسفة وقادة من الثوار العالميين والعرب والفلسطينيين ليستخدموها في أحاديثهم اليومية كتعبير عن ثقافتهم اللا محدودة..بل كانوا يستخدمون مصطلاحات لا يعرفها إلا القاريء المثقف والاكاديمي المتخصص..في أحدِ المرات الكثيرة جلست مع قادم جديد وكان من حسن حظه أنه لا يعرف الذي أمامه..بدأ حديثه بعبارة: "خيمة عن خيمه بتفرق"، فقلت ماذا تقصد؟! فقال: هذه الجامعة تختلف عن كثيرٍ من الجامعات، وإستطرد بقوله هنا ترى معظم الطبقات الاجتماعية من ملابس الطلاب، فهناك البرجوازيين وهناك أولاد الفلاحين وشبه الكادحين وأولاد البروليتاريا وأؤلئك المتفذلكين من أولاد البرجوازية الصغيره، لم أدعه يكمل..وضحكت بسخرية، وقلت: ألا ترى أنهم فقط طلاب وجزء أصيل من المجتمع الفلسطيني ويشكلون "في تلك الفترة" رأس الحربة في التحرك الجماهيري ضد الاحتلال..قال: نعم إنهم الطليعة الثورية في المجتمع..ضحكت مرة أخرى، وقلت: ألا يوجد في جعبتك كلمات أبسط تستطيع من خلالها إيصال الفكرة بسهولة ويسر لِمُستقبلها.

ثبت لاحقا أن النوابغة من جيلي ليسوا شيئا، أمام أدعياء الفضائيات، فبعد أن بدأ ومنذ أكثر من عقد من الزمان تحول في المجتمع العربي بالذات نحو الحركات والاحزاب الاسلامية، بدأنا نسمع مأثورات ومقولات وفتاوى لا حصر لها بعكس القوميين والماركسيين واليساريين..اليوم لا تكاد تفتح التلفاز حتى ترى قذيفه ترمى في وجهك من شيخٍ إمتهن الخطابة والدعوة، وحين تنتقل من محطة لأخرى يصدمك صاروخ تلفاز-أرض موجهة بفتوى صادره عن عالمٍ ما من علماء وشيوخ السلاطين والملوك والامراء، فتهرب نحو الفضاء الواسع في الانترنت لتجد سفينة "نوح" بإنتظارك ومليئة بالدعاة الاسلاميين من كل حدب وصوب..حتى الجوال يأتيك برقم غريب كما حصل معي، وإذا به من بلد "السنغال"، شيحٌ يطلب مني أن اقوم بطقوس دينية لم أدرسها لا في المدرسه ولا عبر ثقافتي المتواضعة ليصل بعدها لان أرسل له نقودا لكي يبتاع أضحية ليقوم بذبحها أمام المساجد كصدقة للتغفير عن ذونبٍ لم اقترفها.

والاكثر غرابه حين تقرأ عن ذاك الشيخ "الوهابي" الذي أفتى بتحريم لعبة كرة القدم، وقال: علينا وفقا لديننا أن لا نتشبه بالغرب، وكرة القدم بطريقتها الحالية هي تشبه ملعون ومحرم على المسلمين، وإقترح تغيير قواعد اللعبة بأن يكون مثلا عدد اللاعبين أقل أو أكثر من أحد عشر لاعبا، وأن لا يكون هناك إحتياط للاعبيين وأن لا يكون هناك حكم..إلخ، وإستفزني سماع إبنتي وهي تردد عبارة تتردد في كل وحدة في منهاج الدين للتوجيهي، وتتحدث عن حديث القائد المسلم "ربعي عامر" لقائد الفرس "رستم" حول سبب مجيئه لفتح إيران قائلا: " جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد ..إلى عبادة رب العباد"، بل يبدو لي من متابعة ذاك المنهاج كيف أن واضعيه لديهم إرتباطات منهجية بسلوك الحركات الاسلامية السلفية، بحيث أنه لا يسمح مطلقا للطالب بالتفكير، بقدر ما يملي عليه كلمات وجمل صماء لا بديل لها ولا يمكن مناقشتها، فالجاهلية ووأد البنات هي عنوان العرب قبل الاسلام ولا وجود لشيء آخر، وما بعد الاسلام أصبح مجتمع قريش ويثرب نموذجي ومثالي لا يشوبه شائبة..هم ينسون مطلقا، بل يتناسون طبيعة المجتمع القبلي، وكيف إستطاع سيد البشر، رسول الله الاكرم "محمد" " صلوات الله عليه وسلم" أن يهذب ذلك المجتمع ويضع الاسس لبناء جديد بقواعد جديده لا تزال حتى عصرنا الراهن بحاجة لصقل وتطبيق..وكان يركز على المعاملات والتسامح والتعاون والعمل الجماعي والاخلاق الانسانية والعلم إلى جانب العبادات، بل أكد على الحياة عندما قال: "حبب إلي من الدنيا النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة"..في عصرنا الحالي، يقوم من يسمون أنفسهم "أهل الحل والعقد" بالغوص في تفسيرات لا حصر لها، وكلها وللأسف مرتبطه بالاساس بالمرأة والسياسة، ولا نسمع كثيرا عن الجار والتعاون والتسامح وميراث المرأة والكسب غير المشروع والتحالف مع مسببي الفساد لدى العباد أمراء وملوك النفط، رحم الله الخليفة الراشدي "عمر بن الخطاب" رضي الله عنه الذي كان يقاسم الولاة اموالهم لصالح بيت مال المسلمين حين يكتشف أنهم أصبحوا أغنياء بقدرة قادر، ورحم الله الخليفة الراشدي "علي بن ابي طالب" الذي رفض إلا أن تتم مبايعته من جموع المسلمين في المسجد النبوي، كتعبير عن الحق الفردي للمشاركة في إختيار قائد الامة. ودين الاسلام رحمة وسلام لا فتنٌ وكلام، يقول نبي الله، صلى الله عليه وسلم:"إنما أنا رحمة مهداه"، ويحدثنا القرآن عن رسالته فيقول:" وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ".

النظام السياسي في المجتمعات العربية وبعد ما يعرف بالفتوحات الاسلامية لم يكن يوما مؤسسا على اساس نظام إسلامي متكامل، فالدولة "الراشدية" ما كادت تبدأ بوضع الاسس والقواعد، حتى دبت بها الفتنة وسيطر "الامويين" على الحكم الذي أصبح وراثيا وبإسم الدين، وجاءت بعدها "العباسية" ومرة أخرى بإسم الدين وأهل البيت "خرجوا عليها لاحقا" أصبحت وراثية لا علاقة لجموع العرب والمسلمين في المشاركة السياسية الفردية والجماعية، وإستمر الوضع حتى جاء الاستعمار "العثماني" للعرب وبإسم الدين، فالخليفة وسلطان الباب العالي كان يتحكم في الرقاب والعباد وتحت مسمى ديني، وعاشت البلاد العربية من فقر إلى جهل إلى فقر ومنعت عنها كل المتغيرات التي كانت تحدث في العالم وأهمها الثورة الصناعية وبداية ميلاد الدولة القومية..وحين سيطر الاستعمار الغربي على أرض العرب، قسموها بطريقتهم "السايكسبيكيه"، أما العرب وبعد التخلص من الاستعمار عبر الثورات او عبر تنصيب ملوك بقرار "بريطاني-فرنسي" ولا حقا "أمريكي"، فلم يستطيعوا خلق نهضة لا قومية ولا إسلامية حقيقية، ولم يستطيعوا مزج القومية بالتراث العربي الاسلامي-المسيحي، وكانت محاولات القائد الخالد "عبد الناصر" لخلق نموذج تطور لا رأسمالي ولا شيوعي والتي حوربت من الرجعية الملكية في جزيرة العرب متحالفه مع التيارات الاسلامية في تلك الفترة، ومن الغرب وإسرائيل، تُعد من أجرأ وأكثر المقاربات الممكنة التطبيق والقادرة على خلق عمق عربي موحد يكون مركزاً للعالم الاسلامي ويتعداه ليكون مركزأ لدول العالم الثالث.

أسوق ذلك أعلاه والعرب يمرون بفترة حرجة، يسميها البعض "ربيع عربي" والبعض الآخر ب "الصحوة الاسلامية"، وبين الربيع والصحوة مسافة ومساحة كبيرة تمثلها صحراء الربع الخالي وشبه الجزيرة حولها، وما يمكن أن يكون لها من دور واضح ومكشوف ومصرح به، يكون الاساس لتحويل الربيع لخريف وشتاء قارص وبارد، ويحول الصحوة لظلام يمثله أؤلئك العراعير والدعاة والشيوخ المتكرشين من الذهب الاسود، الجالسين والمتربعين على الفضائيات ليبثوا سُمّهم القاتل نحو تقسيم الامة المقسمة وتفتيتها وفقا لمذاهب وطوائف وديانات، متناسين "العهدة العمرية" كواقعة وتجربة رائدة يؤسس عليها، ومتجاهلين المحاربين المسيحيين من العرب والشرق في جيش "صلاح الدين الايوبي" كتعبير واضح عن التلاحم بين الشعب العربي والمسلم وبغض النظر عن المذهب والطائفة والدين..أليس التركيز على الوحدة هو اساس الاسلام الصحيح؟ الاجابة عن ذلك هي برسم جماعة "الاخوان المسلمين" واحزابها، فهم المسئولين عن محاربة فتنة المذاهب او تعزيزها..هم من سيقرر شكل وجوهر العقد القادم، تناحر مذاهب وصراعات طائفية وفق الرؤيا الاستعمارية-الرجعية النفطية، أم وحدة حال وتصالح بين المذاهب والشعوب.. يقول إبن الرشد "أن الله أمرنا بتحديث الأزمنة، لا بتخريبها."، ويقول الشاعر "عبد الرحمن بن مساعد" في قصيدته "نبض الشوارع": به شعوب ضاع أملها تكره الفعل المضارع...تلقى في الماضي عزاها أما حاضرها يلوع.
بقلم: فراس ياغي

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت