مع تدهور النسق الديني والقيمى في عالمنا العربي والإسلامي ، ومع ارتباط الدين بالسياسية الدنيوية ، وتسخيره لأهداف ومصالح فئوية وحزبية ضيقة، وتطويعه لخدمه الأغنياء ، وأصحاب النفوذ وأتباعهم وأتباع أتباعهم ، وقفت بضع ساعات أمام المراجع الدينية القيمة في مكتبتي، أتصفح في أبواب الظلم ومخاطره في كتب الحديث والتفسير ، ومسكت قلمي وشرعت اكتب رؤيتي المستمدة من القرآن والسنة ، ولا أبالغ إني ذهلت حين قرأت هذا الحديث :
قال الرسول صلى الله عليه وسلم ("إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا
إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد،
والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها". صدق رسول الله وكذب الخراصون
ونستنتج يا سادة أن الظلم هو انتقاص الشيء ووضعه في غير موضعه الصحيح . ولقد جاء في الكتاب والسنة نصوصٌ عظيمة , وتحذيرات بليغة من الظلم وأحوال الظالمين , وما توعدوا به من والعذاب , وذلك بما قدمت أيديهم ، وما ربك بظلام للعبيد . قال تعالى: { وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}. وقال تعالى: {وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا}. وقال سبحانه: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ}. وقال عزَّ من قائل: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا}. يشوي الوجوه إذا قرب منها , فكيف بالحُلوق والبطون التي تتجرَّعه. ونظراً لشناعة الظلم وبشاعته فلقد حُرِّم في جميع الشرائع الإلهية , بل لقد حرمه الله على نفسه , ففي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه : ((يا عبَادي إنِّي حرَّمت الظُّلم على نفسي وجعلتُه بينَكم محرَّماً فلا تَظَالموا)) والمعنى أنَّه منع نفسه من الظلم لعباده كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ}. وقال عز وجل: { وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ}. وقال تبارك وتعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}. وقال: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ }.
والظُّلم نوعان :
النوع الأول: ظلم النفس وأعظمه الشِّرك كما قال سبحانه: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}. فإن المشرك جعل المخلوق في منزلة الخالق فعبده وتألَّهه فوضع الأشياء في غير موضعها , وأكثر ما ذُكر في القرآن من وعيد الظالمين إنما أريد به المشركون كما قال تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}. ثم يليه المعاصي والذنوب على اختلاف أجناسها من كبائر وصغائر.
والنَّوع الثاني : ظلم العبد لغيره وهو المذكور في الحديث السابق
عقاب الظالمين فى الدنيا والاخرة
في الآخرة :ما أعظم عقوبة الظلم , وما أبأس حال الظالمين إنه ظلماتٌ يوم القيامة , قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الظُّلم ظلماتٌ يوم القيامة)). وقال صلى الله عليه وسلم : ((إن الله لَيُمْلِي للظالم حتى إذا أخذَه لم يُفلته ثمَّ قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} )). [رواهما البخاري ومسلم].
في الدنيا :لقد أظلمت السماء , واقشعرَّت الأرض , وقلَّت البركات , وتكدَّرت الحياة من عدوان الظَّلَمَة وتسلطهم على المؤمنين في أقطارٍ كثيرة , فها هم المسلمون في العالم يمارَس ضدهم أبشع الجرائم والفتك والتقتيل من الحاقدين , ويقف العالم موقف المتفرج على صور الظلم البشعة ... وقل مثل هذا في كثير من الأقطار حيث يعيش فئات من المسلمين تحت قهر الظلمة وتسلطهم وما ربك بغافل عما يعملون. وسبحان الله العظيم كيف ينسى هؤلاء الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أن لهم موعدا عظيما, وموقفاً لن يَنسوه فويل لهم من عذاب عظيم , يوم تخشع أبصارهم ويقفون خاشعين من الذلِّ والهوان ,
قال تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} . ويل لهم من يوم الآزفة: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ}. أين مَن يظلمون الناس من دعوةٍ تُرفع فوقهم تُفتح لها أبواب السماء ويُستجاب لها , وإن كان صاحب هذا الدعاء فاجراً فإن فجوره على نفسه ..
وفي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: ((اتَّق دعوة المظلومِ فإنَّه ليس بينها وبينَ الله حِجاب)). روي أن يحيى البرمكي لما نُكب وصُودرت أمواله وسُجن هو وابنه قال الابن : يا أبت بعد العزِّ أصبحنا في هذه القيود والسجن . فقال له يا بنيّ : هذا بدعوة مظلوم سَرَتْ بليلٍ غفلنا عنها ولم يغفل الله عنها.
لا تَظلمنَّ إذَا ما كُنت مُقتدرا فالظُّلم تَرجع عُقباهُ إلى النَّدمِ
تَنامُ عَيناك والمظلومُ مُنتبــهٌ يَدعو عَليكَ وعينُ الله لم تَنَمِ
رسالة إلى قضاة العرب والمسلمين وحكامهم :
إياكم وظلم الناس وبخسهم حقوقَهم فإنكم ستقفون بين يدي حكم عدل : {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}.
واعلَم أيُّها الظالم : أنَّ من لا يستطيع أن يأخذ حقَّه منك في هذه الدنيا فإنه والله سيأخذه يوم القيامة , قال صلى الله عليه وسلم : ((أتَدرون مَن المُفلس ؟ قالوا : المفلس فينا مَن لا درهمَ لهُ وَلا متاع , فقال صلى الله عليه وسلم : إنَّ المُفلس من أمَّتي مَن يأتي يومُ القيامة بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ ويَأتي وقد شَتم هَذا وقَذف هَذا وأكلَ مالَ هذا وسفَك دمَ هذا وضربَ هذا فيعطَى هذا من حسناته , وهذا من حسناته , فإن فَنِيَتْ حسناته قبل أن يُقضى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه ثم طُرح في النار)). [رواه مسلم].
الشكل الأخر للظلم المتفشي بين العباد :
كما أن الظلم أيضاً أخْذُ حقوق الغير وتملكها بدعوى أنَّها له كما يفعله البعض في الأراضي ونحوها , وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((مَن ظَلَمَ من الأرضِ شيئاً طوَّقه من سبعِ أَرضين)). [رواه البخاري]. قال العلماء في معنى (( طوَّقه )) أما أنه يكلف نقل ما ظلم منها في يوم القيامة إلى أرض المحشر فهوى الطوق في عنقه , وأما أن يكون المعنى أنه يُعاقب بالخسف إلى سبع أرضين .
فيا مَن ظلم الناس بأكل أموالهم أو الكذب عليهم ونقل الكلام عنهم أو منع حقوقهم , تُب إلى الله قبل حلول الأجل وانقطاع العمل , قبل أن يكون ظلمك ظلماتٍ عليك. وتذكَّر مصارعَ الظالمين وكيف يقومون يوم القيامة تعلوهم الذِّلَّة والصَّغار , والفزع والنار. والله الذي لا إله غيره لن ينفعك أحد من البشر ولن يخلِّصك من العذاب إلا عمل صالح وتوبة نصوح ترجع فيها كل حق إلى صاحبه. والله الموعد وهو حسبنا ونعم الوكيل.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت