تحديث القوانين من أهم إنجازات القضاء الشرعي
الحلقة الأولى : مشروع قانون الأحوال الشخصية/1
تعتبر الأحوال الشخصية من أهم المواضيع التي تهم الإنسان في كل زمان ومكان نظراً لالتصاق أحكامها بجوانب حياته ومساسها بخصوصياته من قبل مولده إلى ما بعد مماته ، ولتنظيمها شؤون الأسرة لكونها اللبنة الأساسية التي لا يقوم المجتمع إلاَّ بها ؛ يقوى بتماسكها ويضعف بانفصام عُراها ، فعنيت الشريعة الغرَّاء بها أيما عناية ، فقد فصلت معظم مسائلها ، وأقامت العلاقة على المودة والرحمة بين أفرادها ؛ وجعلت السكينة والألفة مقصودها .
اهتمت القوانين الفلسطينية ـ كغيرها من قوانين الدول الإسلامية والعربية الشقيقة ـ بالأسرة وشؤونها ، وتولى رجال القضاء الشرعي الفصل في الخصومات بين المتداعين من أفرادها بما حصَّلوا من علم ودراية وخبرة مكنتهم من الاجتهاد والترجيح بين أقوال الفقهاء ، فمعلوم أن اختلاف فقهاء هذا الدين الحنيف لم يكن في حكم قطعي ، وأن مرده إلى أسباب عديدة كدلالات اللغة ودرجة حجية النصوص الشرعية وثبوتها والأعراف الصحيحة السائدة في المجتمعات ، ذلك أن شريعة الإسلام قطعت في الأحكام الثابتة ؛ ووضعت ضوابط عامة للاجتهاد في الأحكام المتغيرة ، وناطت بولي الأمر تشريعَ ما يَصْلُحُ به حال الناس وتستقيم معه أمور حياتهم ، وقررت أن رأيه يرفع الخلاف بين علمائهم وفقهائهم .
ولأن القاعدة الفقهية تنص على أنه " لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان " ، ولتسارع التطور في الحياة المعاصرة ، ولظهور كثير من المسائل المستجدة في الأحوال الشخصية فقد دعت الحاجة إلى صياغة قانون فلسطيني جديد للأحوال الشخصية يرفع الحرج ويزيل الإشكال ويلبي احتياجات الناس الحقيقية ، ويعتمد في نصوصه مبدأ الانتقاء من أقوال الفقهاء ، والاجتهاد في المسائل الحادثة بما يتفق مع قواعد الدين وثوابته ، فمن المعلوم للجميع أن المحاكم الشرعية في الضفة الفلسطينية تطبق قانون الأحوال الشخصية الأردني المؤقت رقم 61 الصادر في عام 1976 ، أما في غزة فتطبق قانون حقوق العائلة المصري المطبق بالأمر العسكري رقم 303 الصادر بتاريخ 26 يناير لعام 1954م .
خطوات عملية على الطريق
* بدأت إثارة الجدل حول وجوب تحديث القانون منذ عام 1997 ، فبادرتُ عام 1998 بتشكيل لجنة تضم كبار قضاة المحاكم الشرعية وأساتذة الفقه والتشريع والقانون في جامعاتنا الفلسطينية وبعض كبار المحامين في الضفة والقطاع لإعداد مشروع القانون .
* وقد أصدرتُ تعميماً للقضاة الشرعيين ، ونشرتُ في الصحف اليومية دعوة لمن لديه ملاحظات حول قانون الأحوال الشخصية النافذ في فلسطين أن يوافينا بها ، فوردنا منها النزر اليسير .
* ونظراً لصعوبة اجتماع هذه اللجنة واستحالة ذلك في كثير من الأحيان بسبب إجراءات الاحتلال التي قطَّعت أوصال الوطن وحوَّلته إلى كانتونات متفرقة يصعب الوصول إليها إلاَّ بعد المرور بحواجز القهر والإذلال ، ولتكرار الاجتياحات الاحتلالية المتواصلة لمعظم المدن الفلسطينية ، نظراً لذلك كله فقد انبثق عن هذه اللجنة مجموعتا عمل إحداهما في الضفة والثانية في غزة . واستمر عمل كل مجموعة منهما ثلاث سنوات تقريباً ، فكانت نتيجة الجهود المكثفة لكل منهما مسودة مستقلة لمشروع القانون .
* وفي عام 2001 أحلتُ المسودتين إلى دائرة البحوث الفقهية والقانونية في ديوان قاضي القضاة لدمجهما معاً . وبالفعل تم دمجهما في مشروع واحد اشتمل على أفضل ما فيهما من نتاج عمل النخبة المذكورة من ذوي الخبرة والاختصاص .
* وفي شهر أيار عام 2002 رفعتُ المشروع إلى الرئيس الراحل ياسر عرفات رحمه الله الذي أحاله بدوره إلى مجلس الوزراء ، ومن ثم رفعه مجلس الوزراء إلى ديوان الفتوى والتشريع .
* تولَّى ديوان الفتوى والتشريع الصياغة الفنية والقانونية لمواد المشروع وتعديل كثير منها ، وبذل في سبيل ذلك جهوداً مشكورة مستعيناً بتجارب بعض الدول العربية والإسلامية ، وبمشروع قانون الأحوال الشخصية العربي الموحد الذي أعدته مجموعة من الخبراء والمختصين على مستوى العالم العربي .
* بعد إتمام صياغة مسودة القانون مطلع العام 2004 تولَّى ديوان الفتوى والتشريع توزيعه على كثير من الوزارات ومؤسسات المجتمع المدني في فلسطين لإبداء الملاحظات عليه من قبل دوائرها القانونية المختصة .
* وفي مطلع شهر نيسان 2005 تم تشكيل لجنة مشتركة من ديوان الفتوى والتشريع وديوان قاضي القضاة لدراسة هذه الملاحظات للأخذ بالمفيد منها بما لا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية . أنهت اللجنة المشتركة دراساتها ومداولاتها ومناقشاتها يوم 19/6/2005 وقدمت مشروع القانون بصورته النهائية .
* بعد ذلك بفترة قصيرة ابتدأنا بعقد ورشات عمل مكثفة في جميع محافظات الوطن لمناقشة القانون ؛ شارك فيها قضاة وأكاديميون ومحامون وتربويون ومثقفون ومختصون ومهتمون بالموضوع من مختلف الأوساط لإبداء ملاحظاتهم وتقديم توصياتهم واقتراحاتهم على مشروع القانون ، وبالفعل رفعنا بعض التعديلات إلى ديوان الفتوى والتشريع ، والتي جاءت نتيجة للنقاشات التي جرت فيها .
وضعت اللجنة المشرفة على إعداد مشروع القانون نصب أعينها الأسس التالية :
1- الشريعة الإسلامية بمذاهبها المتعددة هي المصدر الوحيد الذي استُمِدَّتْ منه مواد هذا المشروع التزاماً بأمر الله تعالى الذي قال { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الذِينَ لاَ يَعْلَمُون } الجاثية 18 .
ومعلوم أن أياً من جزئيات مسائل الأحوال الشخصية ليست محل إجماع عند علماء الشريعة وفقهائها ، لذا فقد راعينا عند الانتقاء من المذاهب الفقهية والأصلح لمجتمعنا والأنسب والأنفع من أقوال الفقهاء الذين اجتهدوا لزمانهم وراعَوْا أعرافهم فاقتدينا بهم في ذلك ، فليس أحد الأقوال أولى بالأخذ من غيره ، إذ إنه لا يشترط عند التقنين الأخذ بالرأي الأرجح .
2- مع أن هذا القانون موضوعي ؛ إلاَّ أنه تضمن بعض المسائل الإجرائية بهدف تيسير التقاضي في المحاكم الشرعية بما يتفق مع أصول المحاكمات الشرعية المعمول بها في جناحي الوطن .
3- إن العمل في بناء وصياغة مشروع القانون بالإضافة إلى اعتماده النظرية العلمية ، وتوصيات بعض الأكاديميين والمحامين الذين درَّسوا قانون الأحوال الشخصية وشرحوه ؛ كان أيضاً ثمرة سنواتٍ طويلةٍ وعقود ٍعدة من الخبرة الميدانية ، ونتاجاً للتجربة العملية في القضاء الشرعي ، فالنظريات شيء والتطبيق شيء آخر .
وعلى الرُّغم من ذلك فقد تلقت اللجنة باهتمام بالغ ملاحظات ومشاركات قيّمة ممن اطَّلعوا على نصوص المشروع للوصول إلى قانون متكامل للأحوال الشخصية نفاخر به العالم ، ونحرص فيه على التطوّر والمعاصرة بما لا يتعارض مع ثوابت الدين ومحكمات الشرع .
بذلت جهداً كبيراً لعرض المشروع على المجلس التشريعي السابق والحالي بهدف إقراره ؛ لكن ذلك لم يتم نتيجة معوقات كثيرة ومتنوعة ، وانتظرنا ـ وما زلنا ـ أن يصدر هذا القانون عبر القنوات التشريعية وفق أحكام القانون الأساسي .
وبدعوة من الوحدة القانونية في مكتب الرئيس فقد عقدت ورشة عمل جديدة لإعادة قراءة القانون ومناقشته بتاريخ 31/5/2008 م حضرها قضاة وأكاديميون وقانونيون الذين انتخبوا من بينهم لجنة مصغرة من المختصين لإعادة صياغة القانون بصورته النهائية ، وبعد عدة اجتماعات مكثفة أنهت هذه اللجنة عملها بتاريخ 17/6/2008 م ، وسلمت مشروع القانون إلى الوحدة القانونية تمهيداً لرفعه إلى الرئيس محمود عباس لإقراره .
يتكون مشروع القانون من أربعة أبواب فصل فصولها وفروعها في (218) مادة على النحمو التالي :
الباب الأول : أحكام عامة في الخطبة والزواج ، ويتناول أحكام : الخطبة ، الزواج ، الولاية ، الكفاءة ، الوكالة ، أركان العقد وشروطه ، المحرمات من النساء ، أنواع الزواج وآثاره .
الباب الثاني : انحلال الزواج ، ويتناول أحكام : الطلاق ، التطليق والتفريق ، المخالعة .
الباب الثالث : الآثار المترتبة على التفريق بين الزوجين والولادة ، وبتناول أحكام : العدة ، الرضاع ، الحضانة ، نفقة الأقارب ، التركات .
الباب الرابع : ويتضمن الأحكام الختامية .
وفي الحلقتين التاليتين سأعرض بمشيئة الله تعالى أبرز ما تضمنه مشروع القانون من أحكام .
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت