استهلال...
بادئ ذي بدء، فإنني أتشرف كثيراً بمبدئيتي الوطنية التي أعلنتها مراراً وتكراراً والمتمثلة برفضي لنهج أوسلو واستنكاري لاتفاقيات الذل والعار التي أدخلتنا في نفق مظلم كان آخره الانقسام والتشرذم والتناحر، وإنني لأومن أنها قد قيدت طاقات شعب فلسطين وكبلت لهم قدراتهم وحجمت فعل مقاومتهم وتصديهم للعدو الصهيوني الغادر، حتى أننا تناسينا أناشيد الثورة والجهاد ومقارعة المحتل، وصارت لعمري إرثاً من تراث شعبنا يحن إليه دوماً!!.
قد أزكمت أنوفنا، وترسخ الإحباط في دواخلنا بعدما طال الحديث وتشعب عن الانقسام في المشهد الفلسطيني، ذاك الانقسام الذي لا يختلف اثنان من أصحاب الضمائر الحية على أنه قد حصل بعد انطلاق قطار التسوية في أوسلو، ومراهنة من استقل صهوته على تحقيق حلم العودة وإقامة دولة فلسطين!!، في وقت ظل المشهد الفلسطيني موحدا متماسكا قوياً متيناً برغم الاحتلال الصهيوني حتى أطلت علينا أوسلو برأسها الخبيثة يوماً لتقلب كل الموازين رأساً على عقب، بعدما اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية بـ"إسرائيل" وحقها في العيش الآمن وأدخلت تعديلات على بنود الميثاق الفلسطيني لاسيما تلك التي تتعلق بإزالة "إسرائيل" من الوجود وما يتعارض وتلك الاتفاقية المشئومة التي ساهمت بتقسيم المشهد الفلسطيني، كما وتعهدت بنبذ الإرهاب، كل ذلك على أمل تحقيق حلم إقامة دولة فلسطينية تقلصت مساحتها حتى بلغت 22% من أرض فلسطين التاريخية!!، وكان من المنطقي والبديهي أن يخرج في المشهد الفلسطيني صوت رافض لذاك النهج معارضاً له ومتصدياً لتداعياته، فتطور الأمر إلى تناحر مأساوي وتقاتل دموي وتشرذم مؤسف للصف الفلسطيني استمر حتى يومنا هذا!!.
"الاختلاف بالرأي لا يفسد للود قضية"، تلك لعمري مقولة شهيرة يرددها العقلاء ويسير عليها الحكماء، غير أن الاختلاف عندنا نحن العرب عموماً والفلسطينيين تحديداً لا يشبه الاختلاف في أي بقعة على وجه هذه البسيطة، وأخطر ما يمكن أن نتلمسه من اختلاف بوجهة النظر انعكاسه على المواطن ذاته وتأثر مصدر رزقه ورزق عياله!!، وقد نستطيع تبرير ذاك الخلاف بالنهج على اعتبار انه اجتهاد في طريقة إدارة النزاع مع العدو الصهيوني وكيفية انتزاع حقوقنا السليبة من براثنه، وبدلاً من أن نجلس ونتحاور وندلي بآرائنا لنعرف أي النهجين أقوم وأصوب، إلا أننا وجدنا أن الاختلاف قد أشتد وطيسه وانعكس بشكل خطير مزق المشهد الفلسطيني ورسم له صورة كالحة مأساوية، ولم يقف عند هذا الحد بانتظار جهود الخيرين لوأد تلك الفتنة ورأي الصدع، بل وامتدت تداعيات ذاك الخلاف بالنهجين لتطول رزق المواطن وظروف معيشته، هنا أو هناك وعلى امتداد الرقعة الجغرافية الفلسطينية، وإنني لأتساءل، أيعقل أن تكون لخلافات الرؤى والنهج انعكاسات سلبية مريرة على المواطن الفلسطيني ذاته، سواءً في الضفة الغربية أو في قطاع غزة، سواء المستقل غير المنتمي لأي فصيل أو من كان له انتماء فصائلي أو سياسي يعارض هذا الجانب أو ذاك!؟، ذاك لعمري أمر يصعب تبريره ومبعث للسخرية والتندر والاشمئزاز!!، لاسيما في ظل اشتداد الهجمة الصهيونية واتساع مطامعها في ترسيخ أقدامها وفرض سياسة الأمر الواقع!!.
قبل يومين، كنت في حديث ودود وعبر الفيس بوك، مع أحد الأصدقاء الطيبين من فتحاويي غزة ممن تضرروا جراء تلك النظرة الفصائلية الضيقة لكلا الطرفين، حيث فقد وظيفته ومصدر رزقه ورزق عياله منذ الانقسام حتى يومنا هذا، أحسست بالألم الكبير والحسرة والإحباط بين حروف عباراته التي كان يسطرها على شاشة الحوار، إلا أنه ويشهد الله، ورغم انتمائه لحركة فتح فأنه لم يشخصن الأمر من منطلق انتمائه الفتحاوي، بل تحدث بشكل شمولي عما يحدث في الضفة الغربية وقطاع غزة سواء بسواء، فذكر لي بأن ما جرى لأبناء فلسطين من سكان غزة، فإن مثله قد جرى على سكنة الضفة الغربية من أبناء فلسطين، وقد أشار بألم وحسرة وإحباط شديد بأن قيادة كلا الفصيلين الفلسطينيين المتناحرين قد أجهدا أبناء شعبهما على حد سواء بجملة من الإجراءات الوظيفية القسرية والمعيشية التعسفية، فيما تناست تلكما القيادتان المتنازعتان أن اقتتالهما وتناحرهما وخلافهما قد صبّ في خدمة الكيان الصهيوني وخدم مشروعه التوسعي البغيض، وقوّض أحلام شعب فلسطين بتحقيق حلم العودة وإقامة دولة فلسطينية خاصة بهم بعد طول احتلال صهيوني وحرمان من كل مستلزمات السيادة والكرامة!!.
أقول ومن هذا المنبر الإعلامي الكريم، ألا رفقاً أيها القادة الفلسطينيون - في الضفة والقطاع - بأبناء شعبكما، رفقاً بأسرهم وأبنائهم، داووا جراحاتهم، هوِّنوا عليهم مصيبة ووطأة الاحتلال وممارساته، فلا تكونوا بالله عليكم (بما تمارسونه من قصر نظر فصائلي بغيض) همـّاً عليهم يضاف لهَمِّ الاحتلال البغيض، وإنه تالله وبالله ليكفيهم ما عانوه من اضطهاد العدو الصهيوني وممارساته طيلة العقود المنصرمة، سواءً من خلال احتلاله البغيض للضفة الغربية وعدم احترامه لعهود وبنود اتفاقيات ما يسمى زوراً وبهتاناً بالسلام، أو من خلال حصار العدو الجائر الظالم على قطاع غزة واعتداءاته العسكرية الوحشية المتكررة على أبنائه، بل كونوا لهم بلسماً يشفي جراحاتهم تلك ويعيد البسمة إلى أفواههم، ليزدادوا قوة يستطيعون من خلالها الصمود بوجه أطماع العدو ومخططاته حتى تحقيق أحلامهم!!.
ومن هذا المنبر الإعلامي الكريم أوجه كلمتي إلى:
أولاً ... قادة حماس، الفصيل الإسلامي الأكبر الذي حمل راية الإسلام وانتهج نهج الرسول الأعظم محمد بن عبدالله "صلى الله عليه وسلم"، وأقول لهم بلغة إسلامية محمدية واضحة لا لبس فيها، إن كنتم ترون بأن قيادة فتح والسلطة الفلسطينية قد أخطأت بنهجها السياسي وتعسفت بممارساتها، وأنها قد فشلت حتى اليوم بتحقيق ما وعدت به أبناء شعبها الصابر المحتسب، فإن ذلك لا يبرر على الإطلاق إقدامكم على إقصاء إخوتكم في الدين والمواطنة من أبناء غزة (ممن يدينون بالولاء لتلك القيادة) من وظائفهم ويحرمون من رواتبهم!؟، فهم رعيتكم ومواطنوكم شئتم أم أبيتم، ولقد كان من الأجدر بكم يا قادة حماس أن تضربوا للعالم الإسلامي والعربي وللعالم أجمع أروع أمثلة التسامح وبعد النظر السياسي من خلال رعاية أبناء فلسطين وإن اختلفوا معكم بوجهة النظر والانتماء الفصائلي والسياسي امتثالاً ونزولاً لقول الله تعالى في محكم آياته "إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ" ﴿النحل: ٩٠﴾، "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا" (النساء: 58).
ثانياً ... قيادة السلطة الفلسطينية (ومن خلالها إلى قيادة فتح، كبرى الفصائل الفلسطينية وصاحبة الأمجاد والتاريخ النضالي العريق)، أقول لهم بلغة النضال والوطنية، استحلفكم بالله أن تضربوا أروع أمثلة التسامح من خلال التخفيف على مواطنيكم ورعيتكم، أشقائكم في المصير والدار، أبناء الضفة الغربية ممن يخالفونكم الرأي والتوجه السياسي، فهؤلاء هم أبناء فلسطين، وهؤلاء هم أحفاد جيل النكبة وأبنائهم!!.
ولكلا الفصيلين المتناحرين ومن يؤيدهما من الفصائل الأخرى أضيف قائلاً:
1. وحتى يأذن الله تعالى بوحدة الكلمة ورص الصف (وذاك لعمري لن يحصل إلا بإصلاح النفوس واجتثاث الأطماع الدنيوية)، فإنني أدعوكما معاً لضرب أروع المثل بسعة الصدر وبعد النظر لأبناء شعبكما على امتداد الرقعة الجغرافية الفلسطينية، من خلال رفع الغبن ومداواة جراحات من يخالفونكما الرأي والاجتهاد والتوجه السياسي والانتماء الفصائلي، فهم أولاً وأخيراً أبناء هذا البلد المنكوب والسليب، وأن اختلاف وجهات النظر بينكما لا يستدعي بكما البطش والتنكيل بجماهير الطرف الآخر المعارض لكما!!.
2. وحتى يأذن الله سبحانه وتعالى فيجمع الشتيتين المتناحرين على قلب رجل واحد، تذكرا بأن كليكما راع، وأدركا أن كليكما مسئول أمام الله عن رعيته بحكم ظروف الانقسام والتشرذم والتناحر، وتذكراً جيداً بأن مفهوم الرعية - سواءّ من منطلق إسلامي عقائدي أو من مفهوم وطني – إنما تعني المساواة بين الأحمر والأصفر والأخضر ومن لا لون له من أبناء الوطن الواحد، بكافة ألوان طيفه الديني والعرقي والفصائلي والسياسي، هكذا هي المواطنة الحقـّة التي نتبجح بها كشعارات صارت جوفاء، وهذا هو مفهوم احترام الرعية من خلال تأمين أبسط مقومات ومستلزمات عيشه الكريم ولو بحده الأدنى!!.
3. قد يبرر هذا الفصيل أو يدعي ذاك، أن ما اتخذ من خطوات هنا أو هناك – في الضفة أو القطاع- إنما قد جاء كردة فعل إزاء ما مارسه الطرف الآخر، والمتمثل بالاعتقال والإقصاء والطرد من الوظائف وقطع الأرزاق، لكن الحقيقة الساطعة تقول بأن كلا الطرفين على حد سواء قد أجرم بحق أبناء شعبه الفلسطيني المرابط والمنكوب، وأنه بما مورس بحقه من تعسف وظلم فإنه قد أضاف على كاهله عبئاً كبيراً رغم ما تحمله طيلة العقود المنصرمة جراء الاحتلال الصهيوني وممارساته القمعية والوحشية!!، ولقد بلغ السيل الزبى، وأزكمت الأنوف جراء ما يجري في المشهد الفلسطيني الداخلي الذي منح العدو الصهيوني الأمان وراحة البال وأطلق له اليدين ليفعل بالأرض الفلسطينية ما يشاء، فارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، وتذكروا جيداً ما قاله رَسُولُ اللَّهِ محمد "صلى الله عليه وسلم" في وصف الحاكم: "لا تَصْلُحُ الإِمَامَةُ إِلا لِرَجُلٍ فِيهِ ثَلاثُ خِصَالٍ: ورَعٌ يَحْجُزُهُ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ، وحِلْمٌ يَمْلِكُ بِهِ غَضَبَهُ، وحُسْنُ الْوِلايَةِ عَلى مَنْ يَلِي، حَتّى يَكُونَ لَهُمْ كَالْوَالِدِ الرَّحِيمِ"، ثم أنعموا النظر فيما قاله الإمام علي بن أبي طالب "كرم الله وجهه" وهو يخاطب الحاكم: "وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ، وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَلا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، أو نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ"!!.
4. تذكروا جميعاً حكمة "شعرة معاوية" التي تركت غير مقطوعة كخيار لعودة الأمور إلى سابق مجاريها الطبيعية، تترك ليوم يفطن فيها الجميع إلى حقيقة ثابتة راسخة مفادها أنهم أبناء بلد سليب واحد، وأن مصيرهم مشترك، وأن الكيان الصهيوني هو العدو المشترك للجميع، وأنه يستهدف الجميع!!.
وأردد أخيراً على مسامع صاحب القضية والمأساة الكبرى، شعبَ فلسطين الصابر المحتسب المرابط الذي ذاق ما ذاق جراء احتلال صهيوني بغيض وما ناله من سوء تدبر وقصر نظر وفصائلية قادته، ما جاء في محكم آيات الله تعالى: "وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ" (البقرة: 155).
أقول قولي هذا وأحتسب إلى الله العزيز القدير، وأردد مع نفسي وعلى مسامع الجميع ما جاء في محكم آيات الله البينات: "قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ"... (هود: 88 )... صدق الله العظيم.
سماك العبوشي
4/5/2012
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت