بمناسبة الذكرى الرابعة والستين على ولادة القضية الفلسطينية
سلسلة مقالات تحليلية لاستشراق آفاق الحلول الممكنة
أربعة وستون عاماً مرت على ولادة القضية الفلسطينية ورؤيتها للنور وظهورها للعلن بعد أن مرت في فترة حمل استغرقت خمسة عقود ونيف وذلك منذ عام 1897م، وطيلة فترة الحمل الطويلة تلك لم تشعر الحامل بحملها، ولم تتخذ الوسائل الناجعة والنظام الغذائي الصحي السليم لمقابلة هذا الحمل، حيث كانت تعاني من فقر في الدم والكلس انعكست على الجنين الوليد، فولدت جنيناً معاقاً ويعاني من الضعف والفقر والجهل في ظروف استعمارية بغيضة عملت على إشغال الحامل بهموم الحياة اليومية وانستها حملها.
تمر القضية الفلسطينية بعد أن شب وليدها ومر في مراحل الطفولة والمراهقة والشباب وأصبح في سن الكهولة اليوم تمر في أدق وأخطر مراحلها، وبالرغم تزايد التحديات لم يبلغ الوليد سن الرشد بعد رغم تخطيه الستين من العمر، ولم يرتفع لمستوى تلك التحديات ، فهو منقسم على نفسه، فأصبح في كهولته اليوم مرتداً على شبابه الزاهر يوم أن كان يحمل مشروعاً وطنياً يعلو على كل الهموم ويوحد الجميع تحت رايته مهما اختلفت عقائدهم وتوجهاتهم الفكرية ، فمنذ عام 1987م بدأت ملامح الإنقسام والإنفصام الفكري تلوح بالأفق. وتحولت هذه الملامح الى واقع مؤلم للجسد الفلسطيني ومرير على النفس الفلسطينية.
أصبح الإنسان الفلسطيني اليوم منشغلاً بهمومه الذاتية المعيشية والوطنية المنفصمة المنقسمة، ومثقلاً بمشاكله وأمراضه الفكرية والنفسية ، فطغى الحديث الفلسطيني في الشارع والمجالس والمنتديات عن الهم الخاص على الحديث عن الهم العام، واختفى الهم الوطني العام وغاب عن ساحة النضال الفلسطيني.
هنالك ثلاثة عناصر أساسية في أي مسألة سواءً كانت علمية (رياضية أو فيزيائية أو كيميائية ....الخ) أو حياتية (اجتماعية أو سياسية أو إقتصادية ....الخ). ولا بد من فهم هذه العناصر الثلاثة في الطريق الى الحل لتلك المسألة.
العنصر الأول هو : المُعطيات ، وهي المعلومات والوسائل التي وفرها المُمتحِن للمُمتحَن وهي بمثابة علامات وإشارات ودلالات ولافتات باهتة وغير واضحة على طريق الحل، وإن مر عليها المُمتحَن دون أن يتفحصها جيداً ويعرف مقاصدها فسوف يتوه في طريقه الى الحل. وربما لا يصل الى هدفه بحل المسألة المطروحة عليه ، وربما يصل متأخراً بعد أن سبقه الكثير الى هذا الهدف. وربما وصل الى منتصف الطريق الصحيح ولم يسعفه الزمن في تكملة الحل. وهنا يجب الاّ يضيع جهد الطالب وأن ينال القسط المستحق عن هذا المجهود الذي بذله.
العنصر الثاني هو : المطلوب من المسألة (أي القدرة على تحديد الهدف الذي يتوجب الوصول اليه في نهاية المطاف) ، ومن لم يدرك جيداً ما هو المطلوب وتردد في تحديده واختلف مع نفسه على الهدف فسوف يفشل في الوصول اليه.
العنصر الثالث وهو : الحل أي رسم خارطة طريق للوصول الى الهدف، أي أقرب طريق مع تحديد اتجاه المسيرة ومن ثم شق هذه الطريق وتعبيدها وتخطي منعطفاتها ومطباتها بأمن وسلام والوصول بأقل مجهود بأقل كلفة.
وهنالك ثلاثة عوامل أساسية تحدد وتفرز مستويات الطلبة المُمتحَنين وتعتبر المعايير الأساسية في التقييم التي يعتمد عليها المدرس في فرز طلبته وتحديد مستوياتهم.
أولها : القدرات الذهنية والعقلية (الذاكرة ومستوى الذكاء)، وهي القدرة على استدعاء وسائل الحل من الذاكرة والسرعة في الربط بين المعطيات ووسائل الحلول والهدف باستخدام العقل بمصوغات وأصول المنطق المنسجم مع قوانين الطبيعة والفطرة.
ثانيها : إدارة المسألة (حسن الأداء والتنظيم والترتيب الفكري واللباقة الذهنية والحكمة العقلية)، وهي القدرة على تنظيم وسائل الحل الناجعة وموافقتها مع المطلوب وتحديد الأولويات في تقديم وسائل الحلول على بعضها البعض واستدعاء المناسب منها وذلك لسرعة استنباط الحلول من المعطيات ومما اكتسبه المتلقي من تاريخ في هذه المادة موضوع المسألة وذلك بأسرع وقت وبأقصر الطرق وبأقل مجهود. لذا يتوجب على المدرس الذي يجمع أوراق الإجابة أن يثبت زمن تقديم ورقة الإمتحان من قبل الطالب باستخدام ساعة تضع ختم الوقت على ورقة الإجابة عند تقديمها، لكي يدخل المدرس عامل الوقت في أسس التقييم. حيث أن الوقت من ذهب. وكلما وصل الطالب بوقت أقل كلما استحق علامات أكثر على اجابته من طالب قدم ورقته متأخراً عنه.
ثالثها : الجدية وإخلاص النية في الإستعداد للإمتحان بإعطائه الوقت الكافي للدراسة والمراجعة (أي أن يعقل ويتوكل)، بالإضافة الى الإستنارة بتجاربة السابقة في معالجة مسائل مشابهة لهذه المسألة أي استثمار التراكمات العلمية المكتسبة من الماضي (الثقافة العلمية). والقدرة على استخدام جسور وأنفاق من التاريخ العلمي (معادلات وقوانين طبيعية أساسية لا غنىً عنها طيلة المسيرة العلمية) للعبور الى الحل. على سبيل المثال والتبسيط لا الحصر"جدول الضرب والإشارات الرياضية السالبة والموجبة وأساسيات القسمة والضرب والجمع والطرح ....الخ".
وعندما تضع لجنة الإمتحانات الأسئلة للطلبة في المراحل الدراسية الإنتقالية تتوخى فرز القدرات العقلية والذهنية للطلبة الممتحَنين، فتراعي المستوى العام للطلبة وتضع ثلاثة مستويات من الأسئلة:
المستوى الأول : مستوى الطبقة الوسطى ، وهو ما يمثل تقريباً 60% من العلامة الكاملة ، بحيث يتضمن أسئلة مباشرة وغير مباشرة على المنهاج فيها من السهل الممتنع والصعب المستطاع. المباشرة تحتاج الى تطبيق مباشر للقانون ، وغير المباشرة تحتاج الى استخدام قوانين وسطية واستنتاجات غير معقدة ضمن المستوى العام وتحتاج الى التحايل واللف والدوران حول القوانين، وتعتمد على التراكمات العلمية لربط الماضي العلمي المكتسب بالحاضر.
المستوى الثاني : الطبقة الضعيفة ويمثل 30% من العلامة الكاملة، وهو عبارة عن أسئلة مباشرة من المنهاج لا تحتاج الى اللف والدوران حول القانون.
المستوى الثالث : مستوى الطبقة العليا وهم المبدعون ويمثل10% من العلامة الكاملة. وهو عبارة عن مسائل خارجة عن المنهاج تحتاج الى الإبداع والخلق والفكر المعمق والذاكرة القوية ولا يقدر على حلها الاّ المتميزين وهم القلة.
والمسألة الفلسطينية هي من المستوى الثالث الذي يحتاج الى الخلق والإبداع والتميزوالعبقرية، لأنها تعتمد نظرية خارجة عن كل مناهج الطبيعة والشرائع السماوية والقوانين الإنسانية والفطرية، حيث أنها قامت وما زالت تقوم على اقتلاع شعب من أرضه التي عمرها وورثها عن أجداده الموغلين في عمق التاريخ واحلال شعب قادم من شتات الأرض ليستولي على الأرض ويطرد ساكنيها منها بالسطو والقوة المفرطة ويعتمد الجريمة في وسائل تحقيق ذلك ، ومن لا يمتثل لترك أرضه يتعرض للتصفية الجسدية والعرقية. لذلك كانت المسألة صعبة ومفاجئة على عموم الشعب الفلسطيني وكانت الإخفاقات أكثر من الإنجازات. لماذا وكيف؟؟
لو طبقنا عناصر المسألة وعوامل البحث عن حلول لها والمذكورة أعلاه لوجدنا الإجابة الشافية على هذا التساؤل المحير.
المعطيات : قد تغيرت وتبدلت المعطيات منذ بدء المسألة الفلسطينية الى يومنا هذا ، ففي بدايات المسألة كانت بمثابة السؤال الصعب الخارج عن المنهاج والموجه الى النخبة الفكرية من طلبة الفصل، وطرح هذا السؤال الصعب المعقد لعامة الشعب الفلسطيني الذي كان يعاني من الفقر المدقع والجهل، وتندر فيه النخب العلمية والفكرية الواعية والقادرة على قيادة هذا الشعب، بالإضافة الى عنصر المفاجأة الذي كان بمثابة الصدمة المروعة التي غيبت العقل في علاج الأزمة. فغابت كل عوامل الحل الناجع نظراً لعدم استيعاب المأساة المروعة ضمن إطار العقل القاصر عن مواجهتها. وكانت المعطيات تتمثل في تخطيط خبيث وماكر من فئة صهيونية متنفذة مالياً ومسيطرة على عقول القوى الفاعلة المُستعمِرة والمتحكمة بمصائر الشعوب في ذلك الوقت باستخدام الأيدلوجيات المستندة الى أباطيل افتروها على الدين وصدقت هذه الأكذوبة القوى الفاعلة في لحظة تلاقٍ لمصالحها مع هذه الفئة المنحرفة (الصهيونية) وتحالفت معها وسخرت إمكانياتها في سبيل تحقيق أهدافها القذرة. فغابت عن الفلسطينيين وحلفائهم العرب كل عوامل الحل الناجعة من حكمة وحسن أداء وإدارة وتنظيم وترتيب، واختفت من الآفاق وباءت كل مجهوداتهم ومساعيهم بالفشل. نظراً لغياب القدرة على تحديد الهدف المستطاع. وكان العمل ارتجالياً فوضوياً دون اتفاق وإجماع على رسم خارطة طريق للوصول الى هدف بدا من منظور الواقع صعب التحقيق والمنال. فقد تم تحديد الهدف الذي يصعب تحقيقه والذي يعلو بمستواه علواً شاهقاً عن المعطيات والإمكانيات وذلك بإجماع شعبي فلسطيني وعربي دون تناسب مع المعطيات وكانت نتيجته الخسارة الفادحة. وتم رفض المعطيات المتوفرة حسب قرار التقسيم عام 1947م. ورفض العرب قيام دولة في ذلك الوقت. ويبدو أن الأعداء كانوا يتوقعون ردة الفعل تلك فلم يتورعوا من المصادقة على القرار. وظلت الإدارة الحكيمة وحسن الأداء وكل عوامل الوصول الى حل مرضٍ في منظور اليوم مغيبة من المشهد الفلسطيني والعربي، مما أدى الى ما نحن عليه من حال هذه الأيام، وما حصل من إخفاقات أصبحت أسبابه واضحة للجميع ولا فائدة من الإعادة في هذا الموضوع، والفائدة هي أن نقف على المشهد اليوم ونستطلع آفاق الحلول الممكنة مستفيدين ومعتبرين من تجارب الماضي. وندرس معطيات الحاضر ونتلمس وسائل الحلول الناجعة التي نضع بها القدم على أول خطوة في طريق النجاح.
ولكي نستطيع الخروج من المأزق الذي وضعنا أنفسنا فيه وأصبح واقعاً نعيشه لا نستطيع تجاهله والإنفكاك منه بقفزة فوق حواجزه دون وعي بها لكي نتجنب السقوط من جديد، علينا أن نعي المعطيات جيداً ونرسم خارطة طريق باتجاه الهدف الذي نجمع على هويته ونتفق على وسائل الحلول باستخدام العقل والمنطق والإعتبار من التجارب وإدارة الأزمة بأداء لا يحتمل مزيداً من الأخطاء.
المعطيات السالبة اليوم :
1. وضع عربي ممزق ومتناقض، ويعاني من مشاكل متراكمة ومتزاحمة، فكل نظام عربي له مشكلاته وأزماته الخاصة به ويضعها في أولويات أجندته متقدمة على القضية الفلسطينية. وبالتالي لا يحتمل الوضع العربي في حالة الضعف تلك مزيداً من الأعباء التي ربما تهدد كيانه الجغرافي، فتجربة العراق ما زالت ماثلة للعيان، حيث تم تدمير مقدراته وقواه وأصبح ممزقاً ومنقسماً على نفسه جيوسياسياً ، وانفتحت البوابة الشرقية مشرعة لكل معتدٍ ومتربص بهذه الأمة. وليس هنالك دولة عربية واحدة تستطيع فتح ذراعيها لمقاوم فلسطيني يحمل بندقية. وليس هنالك دولة عربية تدعم مقاومة مسلحة فلسطينية وتتحمل أعباء هذا الدعم مادياً وسياسياً. لذلك فكل من يتحدث عن المقاومة المسلحة فهو يغالط نفسه الاّ إذا كان يرفعها شعاراً للإستهلاك السياسي والحفاظ على العذرية المفقودة. وهذا ما وقع فيه قادة حماس الذين يعتبرون المقاومة المسلحة اليوم ضرباً من الخيانة والخيال ويعاقبون من يقومون بها لأنها ضد المصلحة الوطنية. وتجربة الحرب على غزة أثبتت زيف هذه الشعارات التي تتجمل بها هذه النظم الممانعة للمفاوضات. فتحملت غزة وشعبها النتائج الكارثية الإنسانية لوحدها تصفق بيد واحدة، وكأنها ترقص بالعتمة. وما زالت تعاني من الحصار الذي أحكمت حلقاته بعد الحرب. كما أن قادة حماس قد درجوا على تجيير أعمال المقاومة التي تقوم بها الفصائل الأخرى لصالحهم في وسائل الإعلام من أجل الكسب الشعبي المعنوي بينما هم يتعقبون المقاومين ويعتقلونهم ويجهضون عملياتهم قبل القيام بها. وصار حالهم من حال حكام الضفة الغربية حريصون على أمن اسرائيل التي لم تتوقف عن انتهاكاتها لهدنة من طرف واحد. وكل دولة عربية أو إسلامية ترفع شعار المقاومة المسلحة من أجل فلسطين عليها أن تفتح حدودها للمقاومين وتقوم بدعمهم وإسنادهم ولا تستجدي مفاوضة اسرائيل من خلف الستارة، لتحول الشعارات الى أفعال أو تسكت عن لوك الشعارات الخادعة البراقة واللعب على الحبال فتحرم على غيرها ماتحلله لنفسها. وتقي شعبها من المآسي ولا تأبه بشعب شقي
2. وضع فلسطيني منقسم على نفسه انقساماً جيوسياسياً وهو تحت الإحتلال ، ولا أعتقد أنه خلاف على الهدف، إنه خلاف على الدور السياسي المنتظر في ضوء الحلول المطروحة على الطاولة وبالتالي صراع على قيادة المرحلة. فمشروع حكام غزة هو دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران الذي هو نفس المشروع الوطني الفلسطيني الذي يتبناه حكام الضفة الغربية. إذن هنالك خلاف على الدور وليس خلافاً استراتيجياً على الهدف إنه خلاف سياسي وليس خلافاً نضالياً وطنياً. مهما حاول تجار السياسة والسوق السوداء خداعنا بالأساليب الملتوية.
3. ظهور مشاريع إقليمية في المنطقة كانت كامنة ونشطت في ظل الضعف الدولي نتيجة لخلل في التوازنات الدولية وتحكم القطب الأوحد وتفرده في قيادة العالم (النظام الدولي الجديد) وتخبطه في إدارة الأزمات مما أدى ظهور أحلاف دولية متناقضة المصالح انعكست بتناقضاتها على الوضع العربي والوضع الفلسطيني ورسخت حالة الإنقسام العربية والفلسطينية، مشتتة الجهد ومقدمة الملفات الإقليمية الطارئة على الملف الفلسطيني بدعم من اسرائيل في إطار جهودها لتعطيل تطبيق القرارات الدولية بخصوص فلسطين
4. حكومة اسرائيلية يمينية متطرفة لا تؤمن بالسلام وتتمادى في مصادرة الأراضي والممتلكات والمعالم الحضارية والتراثية للشعب الفلسطيني. وتصدر الأحكام العرفية الجائرة بحق الشعب الفلسطيني الذي يتواجد على أراضي السلطة الوطنية الفلسطينية متجاهلة كل الإتفاقات والمواثيق والعهود. وتحظى هذه الحكومة بشعبية كبيرة في أوساط الإسرائيليين دلالة على عدم جاهزيتهم للتعايش بسلام. ومدعومة في توجهاتها الإستيطانية بالقوى المسيطرة على مقدرات العالم وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وخير دليل على ذلك تصريحات أولمرت الأخيرة بأن اليمين الأمريكي قد أفشل الوصول الى سلام مع الفلسطينيين.
5. إرتهان اقتصادي ومعيشي فلسطيني كامل تحت مسمى بند واحدٍ في حساب سياسي متراكم ومدين في الميزانية الفلسطينية (ميزانية السلطة الوطنية الفلسطينية)، ويقابله عدة حسابات دائنة تحت مسميات سياسية متعددة متراكمة وتصب كلها لصالح ميزانية العدو الصهيوني، فالإقتصاد الفلسطيني في مجمله يقوم على أركان معادية لقضيته، مساعدات الولايات المتحدة الأمريكية، والغرب الآوروبي واليابان وكلها تقدر بمليار ومائتي مليون دولار تستطيع دولة عربية غنية واحدة تغطيتها. لذلك فإن قراره السياسي مرتهن ومرتبط بقراره الإقتصادي. فغابت الإستقلالية في القرار وستظل غائبة ما دام الإقتصاد مرتهناً بالعدو وأحلافه.
المعطيات الموجبة اليوم:
1. الصمود والتشبث بالأرض ، فهنالك شعب فلسطيني صامد ثابت في أرضه رغم الإذلال والقتل والحصار والجوع، شعب يفضل الموت على ترك الوطن، شعب لا يكل ولا يمل من تقديم أروع صور الفداء والصمود والتمسك بالأرض. وسيظل هو مكمن الرهان على تحقيق الأهداف والنصر بغض النظر عن نخبه السياسية الحاكمة والمتناحرة اليوم. وهذا الشعب هو خزان الوقود الذي لا ينضب ونستمد منه أشعة الأمل الذي لن يخبو فينا أبداً. وبفضل صمود هذا الشعب داخل الخط الأخضر وخارجه فقد جمد المشروع الصهيوني الإستيطاني وقزمه ووضع قدم هذا المشروع على أول درجة في سلم التراجع التصاعدي.
2. التحول في الرأي العام العالمي الذي بدأ يكشف الممارسات الإسرائيلية الإرهابية ضد شعب أعزل ويتلمس حقائق القضية الفلسطينية التي كانت مغيبة عنه وأصبحت حاضرة وماثلة أمامه بفضل التقدم العلمي والتكنولوجي، والذي صار يرفع صوته مطالباً بقيام دولة فلسطينية على التراب الفلسطيني على الأراضي المحتلة عام 1967م بما فيها القدس الشريف. وبالتالي أثر هذا التحول الشعبي في القيادات السياسية الحاكمة. وبدأت تظهر مواقف متقدمة ترفض سياسة التوسع الإستيطاني الإسرائيلي وتدينها. وهذا بفعل تراكمات النضال الشعبي الفلسطيني منذ بداية المسألة الى يومنا هذا.
3. الإعتراف الأمريكي (الحليف المخلص لاسرائيل والداعم القوي لها مادياً ومعنوياً) بأن قيام دولة فلسطينية أصبح مصلحة أمريكية متوازياً مع تقلص الدور الوظيفي لدولة اسرائيل التي صارت تعاني من النقد الحاد والعزلة الدولية أدت الى صدامها مع أقرب حلفائها.
4. قيام سلطة وطنية فلسطينية كنواة للدولة الموعودة، وبالرغم من هشاشة هذه السلطة وظروف ولادتها الصعبة وانتقاصها السياسي والإقتصادي الا أنها أصبحت واقعاً لا بد من التشبث به والبناء عليه وعدم العودة عنه مهما كان الثمن، ومهما كانت ظروف الولادة لأن العودة عنه تعني النكوص والسير الى الخلف.
وحتى نستثمر هذه الإيجابيات القليلة وسط هذه السلبيات الكثيرة التي لن تقودنا الى الإحباط أبداً، فإن ذلك يحتاج منا الى رسم خارطة طريق فلسطينية وعربية توصلنا لأهدافنا على مراحل، لأن الزمن يعمل لصالحنا، فلا داعي للإستعجال وسفك الدماء الفلسطينية على مذبح العدو وأمام المتفرجين المتخاذلين ودون تحقيق أية انجازات. مستثمرين هذه المعطيات بأقل المخاطر التي تحف بهذه الطريق. ويجب أن نغلق الطريق في وجه اسرائيل والتي تمكنها من الهرب وعدم تسديد التزاماتها وتعليق أسباب هربها على شماعة أخطائنا في إدارة الأزمة وعدم توحدنا حول الأهداف والأساليب. ففي هذه المرحلة نحتاج الى تكثيف المقاومة الشعبية التي لا تضر بصمود شعبنا مع احتفاظه بكرامة العيش، متوازية مع العمل السياسي الدؤوب على كافة الصعد الدولية ومستقطبة العمل العربي في هذا الإتجاه وإعلام تقني متقدم يهدف الى توثيق الجرائم والممارسات الإسرائيلية وفضحها بالصوت والصورة ونشرها على صفحات الإنترنت، لتصل الى كل العالم وعدم إعطاء الفرصة لاسرائيل باستخدام ترسانة الأسلحة الفتاكة التي تمتلكها ضد شعبنا الأعزل وذلك باجتراح وسائل مقاومة تضعنا في مواجهة مباشرة ومفتوحة مع جيش اسرائيل المدجج بالأسلحة المحرمة دولياً. ومطلوب من الأشقاء العرب دعم صمودنا سياسياً واقتصادياً، لأننا نمثل لهم خط الدفاع الأول في مواجهة هذه الدولة الإستعمارية الإستيطانية التوسعية المارقة على القانون. ويجب عليهم تعزيز الإقتصاد الفلسطيني والإستثمار داخل فلسطين والإنفتاح على الشعب الفلسطيني وخلق فرص عمل للشباب الفلسطيني. فكل الشعب الفلسطيني يشكل جيشاً متقدماً لهذه الأمة وسداً منيعاً يمنع عنهم العدوان ويستحق كل مواطن فلسطيني صابر ومرابط الدعم العربي الذي يمكنه منه الإستمرار والصمود والتصدي والعيش بكرامة لأنه جندي في معركة هذه الأمة من المحيط الى الخليج ومن النيل الى الفرات.
ويحق لنا أن نطرح سؤالاً على الأطراف الفلسطينية التي تتلاعب بالقرار الفلسطيني وتحرفه عن الإتجاه الصحيح. هل هذا الوضع المنقسم على نفسه يخدم القضية الفلسطينية ؟؟
وجواب المجنون والطفل المولود حديثاً فينا قبل العاقل والبالغ هو لا. وما هي المبررات الوطنية لهذا الإنقسام؟؟ هل هو الخوف من تصفية القضية الفلسطينية والتفريط بالثوابت؟؟
الجواب : ليس فينا وليس منا من يفرط بحقه بغض النظر عمّن يوقع في أسوأ الحالات، لأن الحق الفلسطيني هو حق شخصي فردي لا ينتفي بالتقادم، ولا ينوب فيه أحد عن الآخر. هل هو بسبب الإختلاف على وسائل المقاومة؟ لا أحد يصدق هذا، فحال حكام غزة أصبح حالة متأخرة عن حكام الضفة في نهج المقاومة. فصرامة حكام غزة مع المقاومين أشد قسوة وصرامة مع من حكام الضفة. وهل المقاومة المسلحة في هذا الظرف ستوصلنا الى تحقيق التحرر والإستقلال في ضوء موازين القوة بيننا وبين العدو؟ فلا داعي لمغالطة أنفسنا والتحدث بالنظريات والعذرية الوطنية بعيداً عن واقع الحال. المقاومة المسلحة في الداخل لن تكون في صالح القضية الفلسطينية في هذا الوقت بالذات وهي حق نحتفظ به لموعد استحقاقه عندما تتهيؤ له الظروف المناسبة وتصبح مجدية ومربحة. لأن مخاطرها على القضية الآن أعظم وأفدح بكثير من منافعها وعوائدها وذلك لكي نتجنب التفريغ السكاني من الأرض ونحافظ على وجود العنصر الفلسطيني ليبقي للأرض هويتها وانتمائها. وأين العمق الإستراتيجي العربي والإسلامي الذي سنقاتل منه والقادر على تحمل أعمال المقاومة المنطلقة من أراضيه. نظرياً يمكن أن يكون ذلك موجوداً ومتوفراً، ولكنه عملياً وفي هذا الوضع العربي المتردي من ضروب المستحيلات. إذن لنفكر بعقولنا وننسى عواطفنا ووطنيتنا المتأججة في صدورنا جانباً، ولنتدرب على مزيد من الصبر وكظم الغيظ لأن المسألة المطروحة علينا صعبة ومعقدة ومن العيار الثقيل، وتحتاج الى إعمال العقل قبل اليد واللسان، والى حسن الإدارة والأداء ، والى تحفيز الذاكرة واستدعاء التجارب، والى إخلاص النية لأجل العمل الجاد في سبيل مصلحة الوطن والمواطن، ونبذ كل ما يتناقض مع هذه المصلحة الوطنية. ومن هنا يتوجب العمل على دعم أركان الثقافة والتنوير والتراث والتعليم الهادف، تلك الأركان التي تخاطب العقل والمنطق والحسابات الدقيقة للربح والخسارة في أي عملية هادفة، وتتجنب إثارة العواطف في عملية إنفاق مبذر وحرق وإهدار للطاقات الشابة مستغلين لين وطراوة عقولهم وتأجج عواطفهم وقدرتنا على تشكيل هذه العقول وتسييرها باتجاهات خاطئة في أطر مصالح شخصية دون طائل يعود علينا بالنفع. فقد أثبتت التجارب أن التعامل مع القضية الفلسطينية بالعواطف والعذرية الوطنية قد أفقدنا الكثير من النجاحات وشتت قوانا وأهدرها. كما أن التركيز على المناهج العلمية المتطورة والمتقدمة في التعليم يؤدي الى التعامل بالواقعية بعيداً عن الخيال والتمنيات صعبة التحقيق، فالعلم يُعلم المنطق وينشط العقل ويبعث الحكمة ويؤدي الى حسن إدارة الأزمات ويهدي الى سبيل الرشاد والتوفيق والنجاح.
يتبع الجزء الثاني حول استراتيجيات وآليات عمل جديدة لحلول ممكنة.
فك الإرتهان الإقتصادي للعدو وأحلافه
بقلم أحمد ابراهيم الحاج
12/5/2012م
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت