نظرة الى واقع الفصائل الفلسطينية وامكانية التغيير

بقلم: عباس الجمعة


أكثر الظواهر المقلقة التي تترسخ اليوم في ذهن كل وطني فلسطيني، تلك التي تتجلى في التزايد المتسارع لتراكمات الاحباط واليأس في نفوس أبناء شعبنا الفلسطيني في الوطن والشتات في ظروف باتت فيها وحدة شعبنا السياسية والمجتمعية والاقتصادية والثقافية مهددةً بالفعل بعوامل التفكك والانقسام والصراع على المصالح الفئوية بصورةٍ غير مسبوقة في تاريخنا الحديث والمعاصر، حيث نشهد في هذه اللحظة المهينة من تاريخنا، تراجعاً حاداً للأفكار التحررية الوطنية الجامعة، لحساب الأفكار والرؤى الانتهازية والمصالح الطبقية التي تروج لسياسات "الاعتدال" والواقعية في هذه المرحلة التي يتبدى فيها نوعاً من التطابق في النتائج السياسية الكارثية ، بين مسار الحركة الوطنية ما بعد عام 48 ، ومسار ما بعد أوسلو وصولاً إلى مشهد الاستقطاب ، وهو مشهد زاخر بعوامل التفكك والانفصال بين الأهداف الوطنية التي ناضل وضحى من أجلها شعبنا الفلسطيني.

وفي ظل هذا المشهد ، أو على هامشه، تتزايد بشاعة ممارسات العدو الصهيوني وحصاره، وهذا يتطلب من الجميع رفض العودة من جديد لخيار المفاوضات، باعتبار ان هذه المفاوضات تشكل غطاءً للاحتلال الإسرائيلي لمواصلة عدوانه واستيطانه وتهويد القدس، وتنكره للحقوق الوطنية الفلسطينية.
ان شعبنا العربي الفلسطيني قدم الكثير من التضحيات الجسام شهداء وجرحى ومعتقلين من اجل تحرير فلسطين والتمسك بحق العودة وبالمقاومة بكافة اشكالها ، كمشروع سياسي وطني كبير، ولم يرضى بالحلول التصفوية التي تنتقص من حقوقه الوطنية المشروعة .

وفي مثل هذه الظروف ، فإن من واجب الفصائل وألاحزاب أن تنتقل من حالة الركود الراهنة إلى حالة التفاعل الذي يحقق قدرتها على الاستجابة والتحدي للمأزق السياسي والمجتمعي الراهن، مما يتطلب استنهاض و إعادة بناء الفصائل والاحزاب وتجديد طاقاتها واعطاء دور فاعل واساسي للشباب والمرأة في الهيئات القيادية ،‌ وهي الخطوة الضرورية من أجل النهوض بالعمل الوطني والنضالي ، وبناء الأفكار والرؤى السياسية والنضالية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية المطلوبة لعملية التغيير المنشود.

من هنا نرى ان على الفصائل والقوى والاحزاب الخروج من حالة المرض الذي ينخر بجسمها نتيجة المحسوبيات والتمسك بالمنصب على حساب الموقف السياسي والنضالي وتطوير وتعزيز موقف االفصيل او الحزب ، مما يتوجب على الشباب والشابات في اي فصيل وحزب خلق ربيع فصائلي لاعادة التجديد والتخلص من إرث الأفكار البالية والمتخلفة، وامتلاك الوعي السياسي والتنظيمي وامتلاك الرؤية الإستراتيجية الكفيلة بإنهاء كل مظاهر الاستغلال التنظيمي .

المهم أن ننطلق من قناعتنا بأن "الناس هم الذين يصنعون التاريخ ... هذه هي القيمة الثورية التاريخية لاي تنظيم، خاصة وأننا نعيش اليوم في ظروف الانتفاضات العربية و انتشار الروح الثورية ضد أنظمة التبعية والتخلف من ناحية وفي ظروف انتشار ما يسمى الإسلام السياسي والثورة المضادة والفتن الطائفية ، وتفاقم مظاهر الفقر والصراع الطبقي، وغياب الأفكار التوحيدية على الصعيدين الوطني والقومي، وبالتالي فإن الحاجة إلى برنامج وطني ديمقراطي يعيد للتنظيم دوره التاريخي .

وفي كل الأحوال فإن تساؤلاتنا وإجاباتنا – حول الواقع ستكون بالضرورة محدودة بحدود معرفتنا أو طبيعة التزامنا... وكلنا ثقة بأن السواد الأعظم من كافة مناضلي واعضاء الفصائل والقوى في فلسطين ، على توسيع معارفهم التنظيمية والحزبية بمثل حرصهم على وعيهم لمكونات واقعهم في مشهد الانتفاضات الشعبية المليء بالاحتمالات والقلق المشروع ،في اللحظة الراهنة ،من امكانية استعادة قوى الثورة المضادة بدعم صريح ومباشر من القوى الامبريالية ودولة العدو الصهيوني ، لإعادة إنتاج التبعية والاستبداد والتخلف بصور وأشكال جديدة ، الأمر الذي يتطلب استنهاض كافة القوى الوطنية والتقدمية والديمقراطية من أجل توفير كل مقومات القوة والوحدة السياسية والفكرية والتنظيمية بما يمكنهم من استعادة دورهم الطليعي في تحقيق الاهداف الوطنية المشروعة التي تنتظرها الجماهير بشوق كبير.

إن الشهداء القادة العظام وفي مقدمتهم الرئيس الرمز ياسر عرفات وابو جهاد الوزير وابو العباس والحكيم جورج حبش وابو علي مصطفى وطلعت يعقوب وابو احمد حلب وسمير غوشة وبشير البرغوثي وعبد الرحيم احمد وزهير محسن والشيخ احمد ياسين وفتحي الشقاقي وعمر القاسم فضل شرورو الذين تميزت مسيرتهم الكفاحيه الطويلة بمحطات نضالية استثنائية، يشهد لهم أعداؤهم قبل رفاقهم ، وقد تعاملوا مع كافة الاوضاع بصلابة لا تعرف المهادنة ، وكانت هناك محطات بارزة في تاريخ قضيتنا الفلسطينية أكدت جميعها شموخ وبسالة هؤلاء القادة الذين جسدوا ما قالوه دوماً " لا وجود لليأس في قاموسنا، حيث ان كل من عرفهم طوال مراحل نضالهم أكد على أن هؤلاء القادة يمتلكون إرادة فولاذية لا تؤثر فيها وحشية أدوات العدو الرهيبة ولا مشاريعه التصفوية ، هذه الإرادة التي صمدت ايضا في وجه كل المؤامرات المعادية تستحق منا التقدير والوقوف والمراجعة .

ان مسيرة النضال الحافلة بالبطولات التي قضاها قادتنا الشهداء العظام في خدمة شعبهم ووطنهم وقضيتهم بوعي مستنير وبعزيمة قلّ نظيرها ، يجب ان نكون الأوفياء لمسيرتهم الرائدة وللأهداف السامية التي نذروا حياتهم من أجلها نحو فلسطين ، الأرض والإنسان والهوية .

وما الاضراب التاريخي عن الطعام ومعركة الكرامة والحرية التي خاضها آلاف الاسرى في معسكرات وسجون الاحتلال بأمعائهم الخاوية ، والتي في نهاية الامر انتصر فيها الضحية على الجلاد الا دليلا على انتصار ارادة شعبنا النضالية تلك الارادة والإيمان والتصميم من اجل الحرية والكرامة والاستقلال ، الامر الذي يؤكد بأن الشعب الفلسطيني المؤمن بعدالة قضيته وبمقاومته ووحدته وصموده هو اقوى من جبروت وظلم الاحتلال و هو ماض في رفضه المطلق للتوطين وتمسكه بعودة اللاجئين الى ديارهم .

وغني عن القول نؤكد ان وطأة اللجوء والمؤامرات و الصعوبات لن تثني من عزيمة شعبنا الفلسطيني ، فقد حمل قضيته عميقاً في قلبه وعقله ، كما حمل لواء المقاومة لأجل حريته ، وحرية وطنه ، وهذا بكل تأكيد ما راينا من خلال الهبة الشعبية في الذكرى الرابعة والستون من عمر النكبة ، حيث اكد الشعب الفلسطيني رفضه للاحتلال وسلب الارض واقتلاع الانسان وطمس الهوية وتزوير التاريخ والتطهير العرقي والعنصرية ، واكد على التمسك بكافة اشكال النضال وتقديم التضحيات من أجل انتزاع حقوقه الثابتة غير القابلة للتصرف وجوهرها حق العودة.

بين الأمل والألم نرى نحن المناضلين العزيمة والإصرار وروح التحدي وصلابة الانتماء ، لنقول بالحرف الواحد لكل هؤلاء الذين لا يريدون تصحيح بوصلة العمل ويقفون عائق امام عملية التجديد والتغيير وضخ الدم الجديد في القيادة التي اصبحت عندهم منصب وليس مهمة مكلفين بها ، ان ثورة تقود مرحلة تحرر وطني لا يمكن ان تنتصر اذ لا تؤمن بالتغيير والديمقراطية وعقد المؤتمرات وانتخاب الهيئات القيادية دون محسوبيات وبشكل ديمقراطي ، وأعتقد أن جبهة التحرير الفلسطينية تمتلك في داخلها مخزون نضالي فهي ايضا قادرة على تجاوز الماضي والرد على التحديات التي تواجهها بل وتتقدم نحو الافضل.


أن هناك مصاعب كبيرة محيطة بالوضع الفلسطيني الآن، وجبهة التحرير الفلسطينية تشهد تقدماً وتراجعاً، فهناك ايجابيات كبيرة في المسيرة الكفاحية وهناك سلبيات وأخطاء لهذه المسيرة. وعندما ندعو الى ضرورة تطوير وتعزيز الفصائل نتطلع الى واقع الجبهة واهمية التحضير للمؤتمر الوطني العام الثامن وأعداد الوثيقة السياسية والتنظيمية والتعديلات على النظام الداخلي، ونأمل ان نعطى فرصة لدراسة أوضاع الجبهة ودراسة سبل النهوض والتقدم بأوضاعنا، نحن بحاجة إلى استنهاض أوضاعنا، وبحاجة إلى دراسة جوانب القصور والسلبيات في عملنا حتى نتمكن من الاستمرار في خدمة أهداف شعبنا الفلسطيني.
نعم نحن نحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى، إلى منظومة جذرية من القيم الفكرية والتنظيمية والسياسية التي تكرس هويتنا الوطنية الديمقراطية آخذين بعين الاعتبار وبوعي تجاوز الرؤية النظرية الشكلية المبسطة والوعي العفوي، اليوم علينا ان نكون مع الجماهير، انطلاقا من إيماننا بالمستقبل... والطريق إلى ذلك، يكون من خلال التجربة السياسية والثقافية والاجتماعية .

وعندما نتحدث عن واقعنا ، نؤكد باننا نسير على مبادئ الشهيد القائد فارس فلسطين ابو العباس ونشتق الطريق صوب المستقبل، من خلال تمسكنا في الفكر السياسي والرؤية الواضحة بكل تفاصيلها، انطلاقاً من الوعي والالتزام بضرورة الربط المتبادل بين النضال الوطني الفلسطيني والنضال القومي العربي، كوحدة وعلاقة جدلية واحدة، هذه الرؤية الموضوعية التي صاغها الشهيد القائد، هي اليوم رغم كل ما يتبدى من أزمات أو تراجعات مؤقتة تعتبر رافداً نوعياً متميزاً في مسيرة التحرر الوطني وفي مسيرة النضال والكفاح الفلسطيني، بل لا نبالغ في القول إنها تمثل حتى اليوم أحد مكونات الذهنية الشعبية والوعي السياسي والاجتماعي للجماهير الفلسطينية، وهو ما نعتبره في الجبهة، وفاءاً من جماهير شعبنا وأمتنا لكل شهدائنا ومناضلينا عموماً ولفارس فلسطين الشهيد ابو العباس بشكل خاص، بما تركه لنا من إرث ثوري وطني وقومي، فقد كان فكره السياسي مرتكزاً على الوحدة والمنهجية العلمية الجدلية، وبالحفاظ على منظمة التحرير الفلسطينية الكيان السياسي والمعنوي للشعب الفلسطيني والجبهة الوطنية العريضة لكافة فصائل العمل الوطني ، تستذكر العديد من الإسهامات والانجازات الثورية التي تبلورت وتجلت عبر المحطات أو العمليات البطولية ضد العدو الصهيوني، كل ذلك إلى جانب دور جبهة التحرير في تأسيس العديد من العلاقات مع الكثير من الحركات الثورية وكل القوى الثورية اليسارية في أرجاء العالم.

إن جهود وحوارات واتفاقات المصالحة لن تنجح، إلا إذا كانت: جزءاً من المبادرات الرامية إلى إعادة الاعتبار للمشروع الوطني، فالمصالحة ليست مطلوبة من أجل المصالحة، وإنما توفيرها شرطاً ضرورياً لمتابعة الكفاح لتحقيق الأهداف الوطنيّة الفلسطينيّة، فمن دون تعزيز الصمود وإفشال تهويد واستكمال أسرلة القدس، وتدفيع الاحتلال ثمناً لاحتلاله يفوق المكاسب التي تعود عليه، لا يمكن إنهاء الاحتلال وإنجاز الحرية والعودة والاستقلال.

ومن هنا علينا الاستناد إلى حراك شعبي، الذي يجب أن يفرض على الفرقاء الانصياع إلى إرادة الشعب ومصالحه الوطنية.
وعلى هذه الارضية نرى ان الشعب يريد إنهاء الانقسام، كما يريد التغيير، وهنا علينا أن نستخلص الدروس والعبر، ونعمل على أساس أن الشعب هو من يفرض إنهاء الانقسام كجزء من المشروع الوطني لإنهاء الاحتلال وتمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه في تقرير مصيره في جميع أماكن تواجده، وهذا لا يمكن ان يتم سوى بتغيير المسار وشق مسار جديد قادر على الانتصار.


آن الأوان لكي يتم إعادة تشكيل الخارطة الفصائلية الفلسطينية ، خاصة تلك الفصائل التي تنضوي تحت راية منظمة التحرير ، باعتبارها قوى لها تأثيرها في الشارع ، وحتى تكون ايضا صاحبة قرار ليس فقط ببيانات الشجب والإستنكار عبر وسائل الإعلام ، والتقاط الصور التذكارية.

ختاما : حان الوقت لرفض الأثر المخدر لكافة الخطابات السياسية الهابطة، وعلينا أن نختار إما أن نكون مع النخب الحاكمة ضد التطوير والتحديث، أو مع المناضلين والجماهير الشعبية ضد كل شيء يحول بينها وبين الحياة الخالية من الاضطهاد والاستغلال والمعاناة.

كاتب سياسي

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت