مقص الرقيب
عند احدى محطات الوقود ترك السائقون عرباتهم وتجمهروا بشكل دائري حول المحطة، والمشهد لا يخلو من الصبية والأطفال الذين حضروا لأسباب مختلفة، فيما العربات تمتد لمئات الأمتار بعيداً عنهم، أول ما يتبادر إلى الذهن عند رؤية المشهد هو التضامن مع العربات الأخيرة، فهل بإمكانها التزود بالوقود أم أن الكمية لن تسمح لها بذلك، وعندها لن يكون أمامها سوى العودة بخفي حنين من حيث أتت هذا إن كان بمقدورها فعل ذلك، في خضم التفكير بالمعادلة الحسابية التي يمكن لها أن تقترب من وضع الإجابة، يشدك التصفيق والصفير من قبل المتجمهرين حول المحطة، يبدو أن الطقس الجميل الذي يتمتع به القطاع في مثل هذا التوقيت من كل عام، ولحاجة الناس لما يخفف من منسوب النكد لديها، دفعها لأن تخلق من المكان مسرحاً تجد فيه نوعاً من التسلية والترفيه عن الذات.
توقفت قليلاً كي أعرف سر هذا الابتهاج، الذي تؤكد عليه ابتسامات تعلو الوجوه، تكشف اللثام عنها إنارة عربة جاءت من بعيد اخترقت عتمة المكان، من الواضح أن الحضور نجح في كسر جمود المكان والتخفيف من فاعلية الأجهزة العصبية، فما أن يفرغ مواطن من ملء ما لديه بالمحروقات حتى يقابله الحضور بعاصفة من التصفيق والصفير، وضحكات تعلو المكان تأتي متتابعة لتعليقات من هنا وهنالك، والجميل أيضاً أن من ينهي مهمته يلوح للجمهور بيديه ولا ضرر في أن يرفع شارة النصر لهم، وكلما جاء بحركات وإيحاءات جديدة كلما علا التصفيق وجلجلت الضحكات في المكان، لعل المشهد يفرض عليك أن تخرج ابتسامتك من كهفها، وأن تتابع نمطاً من المسرح المكشوف حيث يختلط الممثلون بالجمهور، ويجذبك «السيناريو» بما فيه من إيحاءات عجز مقص الرقيب عن العبث بها.
العالم الغربي يسجل علينا غياب المسرح من حياتنا الثقافية، ويعتبر ذلك نقيصة نابعة عن جهل بمكانة المسرح في حياة الشعوب، وله أن يفعل ذلك طالما أن مفهوم المسرح لديه يقتصر على قاعة مغلقة ترتفع في ركن فيها خشبة يعتليها الممثلون، ومن الطبيعي أن يختزل العالم الغربي فهمه للمسرح ضمن هذا الفهم الضيق، حيث تغيب عن يومياتهم أبجديات القيل والقال، والمواطن لديهم لا يعير اهتماماً بما يحيط به، حتى رحلة ذهابه وإيابه من العمل لا يقطع سكونها كلمات متباعدة يتبادلها مع زميل أو رفيق درب.
الحالة لدينا مختلفة بالتمام، وهي تقترب في مفرداتها اليومية من مسرح مكشوف يشارك الجميع في اعتلاء خشبته وتقمص دور البطولة عليه، وبالتالي إن كان مقص الرقيب قادراً على بتر ما يشاء من الأعمال الفنية، فهو بالمؤكد عاجز بالمطلق عن أداء الشيء ذاته في «سيناريو» الحياة اليومية في مجتمعاتنا العربية، فكيف يمكن للرقيب أن يلاحق بمقصه الأحاديث المتبادلة داخل سيارة الأجرة؟، وهل باستطاعته أن يتابع ما يقوله صاحب بسطة الخضار الذي زادت الشمس من حدة تفاعلات عقله، فاختلطت لديه الخضار بالسياسة؟، وكيف يمكن لمقص الرقيب أن يتابع ما يدور من حديث في ديوان أو مكتب أو على قارعة الطريق؟.
وعلى اعتبار أن مسرح الحياة لدينا مفتوح على أنماطه المتنوعة بدءاً من المسرح التراجيدي وصولاً إلى المسرح الكوميدي، فعادة ما يلجأ المواطن لحياكة ما ترصده العين لنكتة تصل بمضمونها للمتلقي، وتمكن في الوقت ذاته الابتسامة من قهر عقد الحاجبين، وكثيراً ما استند المختصون بدراسة السلوك المجتمعي عليها في رصد التغيرات السياسية داخل المجتمع. وبالطبع في ظل الانقسام الذي يعيشه المجتمع الفلسطيني بتبعاته المختلفة باتت الألوان مادة خصبة تتداخل خيوطها بين الكلمات، ليلقي من خلالها المتناول لها ما في جعبته من توجهات، والتي عادة تحمل بين طياتها ألواناً من الترفيه وتسلية الذات، ومن الواضح أن من الاستحالة بمكان لمقص الرقيب أن يتابع كل ذلك.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت