حق العودة وانتصار الأسرى
جيل واعد بالنصر والتحرير والعودة استلم الراية والمفاتيح قبل أيام من أسلافه ، وعاهدهم على المضي في طريق استعادة الأرض والوطن والديار وانتزاع الحق من مغتصبيه ، فقد أحيا الملايين من أبناء شعبنا الفلسطيني في الوطن والشتات والمنافي في جميع أنحاء العالم ذكرى جديدة للنكبة التي حلت بهم وبآبائهم قبل أربع وستين عاماً ما زالت أحداثها شاخصة أمام ناظريهم ، وما زالت ماثلة في خواطرهم وضمائرهم ، يوم أن شردوا من وطنهم بقوة الحديد والنار في عملية تطهير عرقي استهدفت وجودهم في مدنهم وقراهم الفلسطينية ، وفي جريمة حرب لم يحاكموا عليها ولم يعاقبوا ولم يلاحقوا ، لكن عليهم أن يوقنوا أنها أبداً لن تسقط بالتقادم .
عقود مضت منذ أن زحف الأعداء بحقدهم الأسود فاغتصبوا أرضنا وشردوا أهلنا ، وارتكبوا ضدهم المجازر الرهيبة والمذابح الوحشية في دير ياسين والدوايمة وغيرها لترويعهم وإرهابهم وإخراجهم من ديارهم لإقامة دولتهم اليهودية فيها .
فالاحتلال الإسرائيلي الغاشم لفلسطين يختلف عن أي احتلال عرفته البشرية في التاريخ المعاصر ، فقد دأب منذ انعقاد المؤتمر الصهيوني في بال بسويسرا عام 1897على استقدام الغزاة المغتصبين والمستوطنين اليهود من شتى بقاع الأرض ليزرعهم مكان أصحاب الأرض الأصليين ، وتبنَّى سياسة الإبعاد القسري ضد الفلسطينيين خارج وطنهم بسبب او بغير سبب ، وزج بمئات الآلاف منهم داخل سجونه وأقبية ظلمه ، واتَّبع كل الإجراءات ضد مدينة القدس منذ احتلالها عام 1967 لتهويدها وتفريغها من أهلها ، وانتهك حرمة مقدساتها وفي مقدمتها المسجد الأقصى المبارك ، وتفنن في ممارساته ضد أهلنا في فلسطين المحتلة عام 1948 في العمل والسكن والبناء وانتهاك الحقوق والتعامل في مقابل الامتيازات التي يتمتع بها اليهود ، كل هذه المآسي والنكبات تحل بالشعب الفلسطيني منذ عشرات السنين والمجتمع الدولي كأنه لا يرى ولا يسمع .
إن العودة إلى الوطن والممتلكات حق تتمتع به كل شعوب الأرض ، فالحروب التي وقعت بين كثير من الدول نتج عنها لجوء جبري للسكان الذين يفرون من مناطق الصراع إلى أماكن آمنة للنجاة بأنفسهم وأهليهم ، ويقيمون في مخيمات مؤقتة ، فإذا انتهت الحروب عاد السكان المشردون إلى وطنهم ، شاهدنا ذلك في البوسنة والهرسك ، وفي كوسوفو وأفغانستان ، أما الفلسطينيون فقد حرموا وحدهم هذا الحق المشروع إرضاء لإسرائيل واستجابة لمنطق القوة الذي تفرضه على العالم ، وهذا عدوان يتنافى مع الشرائع الإلهية والقرارات الدولية ، التي تعتبر تهجير المدنيين قهراً إلى خارج أراضيهم المحتلة انتهاكاً جسيماً لحقوق الإنسان في حالات الحرب أو الاحتلال ، وتفرض العقوبات على الدول التي تقترفها .
إن عودة اللاجئين من الشتات يمثل جوهر القضية العادلة لشعبنا وركناً أساسياً من أركان السيادة الفلسطينية ، فهو حق مقدس نص القرار رقم 194 وغيره من القرارات الصادر عن مجلس الأمن الدولي على شرعيته ، وإلغاؤه يعني تفريغ هذه القرارات من محتواها ، وبالأخص أن عدد اللاجئين الفلسطينيين في الشتات يبلغ الآن حوالي خمسة ملايين لاجئ يشكلون ثلثي الشعب الفلسطيني ، وهذه أعلى نسبة لاجئين بين شعوب العالم على الإطلاق ، مما يعني أن الغالبية العظمى من الشعب الفلسطيني لن تتمكن عندئذ من ممارسة حقوقها الكاملة التي نصت عليها تلك القرارات .
أما أبناء شعبنا فلا تزيدهم هذه السنين إلاَّ تمسكاً بأرضهم وبحقهم هذا ، ولا يتنازلون عنه رغم المساومات والإغراءات ، ويعتبرونه من المقدسات الوطنية التي لا يمكن التفريط فيها أبداً ، ولا يسمحون لأي طرف كائناً من كان أن يقرر إلغاءه ، فإن أحداً لا يملك التنازل عنه باسمهم أو نيابة عنهم ، فالتفريط فيه أو قبول التعويض عنه هو تصفية لقضيتهم ، واستسلام لإرادة عدوهم المغتصب . وعلى الرغم من الترويج لفكرة توطين اللاجئين في العالم العربي بل وفي فلسطين نفسها ، إلاَّ أنهم يرفضون هذه المؤامرة الخبيثة التي تحاك ضد حق العودة وتثار بين الحين والآخر ، ويرون أنه مخطط قديم انهار أمام صمود الشعب الفلسطيني وإصراره ، ولا يمكن اليوم إحياءه من جديد ، فهم لا يرضون لوطنهم الحبيب وأرضهم التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم منذ آلاف السنين بديلاً ولو كان فردوس الدنيا .
فقد علمنا المصطفى صلى الله عليه وسلم أن حب الوطن من الإيمان ، حيث تآمر مشركو مكة للقضاء عليه والخلاص من دينه ورسالته ، فلما أُخْرِجَ منها رغماً عنه وقف يخاطبها حزيناً لفراقها " والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ؛ ولولا أني أُخْرِجْتُ منكِ ما خرجت " رواه الترمذي ، ومع ذلك استمر صلى الله عليه وسلم في دار هجرته عاملاً مجاهداً ، حتى دخل مكة فاتحاً في السنة الثامنة للهجرة فانهزم الشرك والمشركون ، وظلت مكة المكرمة ، وعاد إليها محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين أُخرجوا منها بغير حق ، عادوا إلى ديارهم وأولادهم .
إن إحياء الذكرى لا يكون فقط بالمهرجانات والمسيرات والخطابات والتغني بحق العودة ، وإنما بالتأكيد عليه والعمل على تطبيقه في الواقع ، لأنه لب القضية الفلسطينية العادلة بجميع أبعادها : البعد الديني والتاريخي والقانوني والإنساني ، وحق مقدس تجتهد إسرائيل ما استطاعت في إنهائه واغتصابه ، لكن شعبنا الفلسطيني العنيد في المقاومة مصر على التمسك به رغم القهر والمساومة .
فالعودة حق شخصي غير قابل للتصرف لكل من أبعد عن أرضه ويخص ورثته من بعده ، فيجب توريث هذا الحق جيلاً بعد جيل حتى يعودوا جميعاً إلى أرضهم وممتلكاتهم ، وهو حق عام لكل فلسطيني ويمثل بالنسبة له حق الانتماء إلى وطنه ، فكل فلسطيني وإن لم يكن يملك أرضاً أو عقاراً فيها هو شريك في كل ذرة من ترابها وفي كل نسمة من هوائها ، فالانتماء حق مرتبط بالهوية والوجود وبالامتداد الإنساني من الآباء والأجداد ومن بعدهم إلى الأبناء والأحفاد ، فلا يجوز لأي مواطن أن يقطع هذا الانتماء . فقضيتهم أقدم وأعدل قضية لاجئين في العالم ، وقضية فريدة من نوعها لا نظير لها لذا احتاجت الحماية الكاملة من المجتمع الدولي ومنظماته الرسمية جميعاً .
إن العودة حق قانوني للشعب الفلسطيني ، فقد ارتبط قبول عضوية إسرائيل في الأمم المتحدة بقبولها شرطين : الاعتراف بقرار التقسيم رقم 181 الصادر في 29|11|1947 ، والاعتراف بقرار حق العودة والتعويض رقم 194 الصادر في 11|11| 1948 ، والذي ينص في أهم فقراته على وجوب السماح للاجئين الفلسطينيين بالعودة في أقرب وقت ممكن إلى ديارهم ، ووجوب دفع الحكومات أو السلطات المسؤولة تعويضات عن كل فقدان أو خسارة أو ضرر في ممتلكاتهم ، بحيث يعود الشيء إلى أصله وفقاً لمبادئ القانون . فوافقت إسرائيل عليهما ، لكنها لما حصلت على الاعتراف بعضويتها تنكرت للمجتمع الدولي في هذين الشرطين ، وأعاقت تطبيقهما وما انبنى عليهما من قرارات وتأكيدات لعدة عقود منذ صدورها وحتى اليوم ، سواء في ذلك حق العودة والتعويض وحق إقامة الدولة الفلسطينية على الأرض الفلسطينية . فليعلم العالم أن عدم تطبيق حق العودة والتعويض يفقد إسرائيل الاعتراف الدولي بها ، فهذا مفهوم اشتراط المجتمع الدولي لعضويتها الأممية .
ولأن فلسطين أرض وقف إسلامي غير خاضعة للبيع ، فإن قبول اللاجئين أي تعويض عن أراضيهم وممتلكاتهم لا يجوز شرعاً بإجماع علماء الأمة ، لأنه بيع للأرض وتنازل كامل عنها للمحتل الغاصب ولو كان مقابل المبالغ الطائلة ، فقد أفتوا بحرمة ذلك قطعياً مطلع القرن الماضي ، وأحد منهم لم يخالف هذا الإجماع منذ ذلك الزمان وحتى اليوم .
أما فكرة تعويض اللاجئين عما عانوه من أضرار مادية أو نفسية حلت بهم وبأبنائهم وأحفادهم منذ النكبة فتمثل حقاً إضافياً آخر لهم ، لكنه ليس بديلاً عن حق العودة ولا ينفصل عنه لا بل هما حقان متلازمان . وتتحمل أعباء هذا التعويض جميع الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة وجيوشها والمنظمات الصهيونية وكل المؤسسات التي أسهمت في إيقاع الضرر بالشعب الفلسطيني لأنها الجهات التي تسببت بهذه الأضرار ، وتتحمله أيضاً جميع الدول التي تؤيد إسرائيل وتساندها في إعاقة تطبيقه .
وهي فكرة ممكنة واقعياً وعالمياً ، فقد نفّذت بنجاح لبعض المتضررين في حرب البوسنة والهرسك مثلاً واستفاد منها بعض المتضررين من اجتياح الكويت ، ويتولى الخبراء والمختصون العالميون في هذا المجال تقدير قيمة التعويض .
ولن يقبل الشعب الفلسطيني أبداً بفكرة التوطين والإقامة في أي وطن آخر مهما كانت المغريات أو عظمت التضحيات ، فالتوطين القسري هو الآخر جريمة حرب كالتهجير ، لأنه يحرم اللاجئ الفلسطيني من حقه في العودة إلى أرضه وبيته ، ويعني نفيه وإلى الأبد خارج وطنه ، فالتمسك بحق العودة فرض لازم لأنه الضمان الوحيد لإبقاء القضية الفلسطينية على قيد الحياة ، لذلك فإننا نتمنى على الدول العربية الشقيقة أن تؤازر الشعب الفلسطيني وتدعم حقه في العودة والتعويض ومقاومة فكرة التوطين ، وألاّ تعتبر جنسيتها الممنوحة للاجئين الفلسطينيين بديلاً عن هذا الحق الثابت .
أما فكرة الوطن البديل فيقبل بها الشعب الفلسطيني على شرط أن يُبارك الله تعالى حوله في كتابه الكريم ، وأن يرثه عن آبائه وأجداده ، وأن يكون فيه المسجد الأقصى المبارك ، وأن يُسرى إليه برسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يفتحه الفاروق عمر ويحرره الناصر صلاح الدين ، وأن يُروى ثراه بدماء المجاهدين الأخيار والشهداء الأبرار .
وأوضح دليل على ذلك الانتصار العظيم الذي حققه أسرانا الأماجد في زنازين القهر والإذلال والعزل الانفرادي ، جاء هذا الانتصار ليلقن سلطات الاحتلال الإسرائيلي أن الشعب الفلسطيني الصابر المرابط على أرضه يأبى الركوع ، لأنه أقوى من الجوع ، وأقوى من كل المؤامرات التي تحاك ضده ، فقد قهر السجان بصموده الأسطوري ، وضرب أروع الأمثلة على إرادته القوية التي لا تنثني وعزيمته الثابتة التي لا تلين .
بقلم الشيخ تيسير رجب التميمي/ قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت