في نهاية ثمانينات القرن الماضي , شهدت أورويا الشرقية , انهيار الأنظمة الشيوعية الدكتاتورية , وهو ماعرف أيضا بربيع أوروبا الشرقية , وتراوحت مجريات ذلك الربيع بين ثورات مخملية سلمية وأخرى دموية كما كان الحال مع نظام تشاوتشسكو في رومانيا , ورغم مرور سنوات طويلة على ذلك الربيع , فمازال هناك خلاف في كتابة تاريخه , فبينما يتمسك كل من يتسلم مقاليد الحكم برواية موحدة تتحدث عن تحرك عفوي للجماهير وعن ثورات شعبية تواقة للحرية , فان عشرات الكتب والاف المقالات تحدثت عن تحريك خارجي من قبل أجهزة مخابرات وسفارات أجنبية , وخاصة المخابرات الأمريكية والسوفيتية , بل وان الموساد الاسرائيلي أشير الى تورطه في الأحداث التي دارت في بلدان أوروبا الشرقية وأطاحت بأنظمتها الشمولية , فاتحة المجال لأنظمة تعددية وديمقراطية....
وانني وقد شهدت وتابعت مباشرة , أحداث الربيع الروماني في ديسمبر 1989, أجزم بأن مايعرف اليوم في الأدبيات الرسمية للدولة الرومانية ب " الثورة الرومانية" لم يكن سوى انقلاب عسكري وسياسي تم ترتيبه واخراجه ليبدو ثورة شعبية....ومع أن معظم الشعب الروماني انخرط فعلا في التظاهرات المعادية لنظام تشاوتشيسكو , فان تقنيات صناعة الثورة وتحريك الجماهير بوسائل ذلك الزمن ( لم يكن هناك انترنت ولا فضائيات ) لم تكن خافية على من يدقق ويحلل , كما أن قيام رئيس أركان الجيش الروماني بدفع تشاوشيسكو للهرب بل وتأمين طائرة هليوكبتر لترحيله من مبنى اللجنة المركزية ومن ثم فتح أبواب المبنى للجماهير الغاضبة , مشهد تم بثه على محطة التلفزيون الروماني مباشرة .
تفاصيل كثيرة من مشاهد الربيع الروماني رايتها تتكرر في تونس ومصر....وبصورة أفظع في ليبيا وسوريا واليمن...
في العصر الحديث , من المستحيل اسقاط نظام دكتاتوري على يد شعب أعزل دون توفر دعم خارجي....دعم يستخدم الجهد الاستخباري والاعلامي والاقتصادي في تحريك الثورة والمحافظة على استمرارها وصولا لتحقيق أهدافها...فعالم اليوم بالغ الترابط , وثورة الاتصالات زادت من التأثير الاقليمي والدولي في الأوضاع المحلية , , وحين تتقاطع مصالح الشعب مع مصالح قوى دولية واقليمية , بغض النظر عن طبيعة المصالح والأهداف , فان الثورة تصبح حقيقة تجهد الأيدي الخفية في تحريكها والتحكم بمجرياتها مع الحفاظ على صورتها العفوية المصطنعة.
أكثر من عشرين سنة مرة على ربيع أوروبا الشرقية , ويبدو أن مؤشرات الأحداث في الربيع العربي , تسجل تشابها كبيرا مع مجريات ذلك الربيع , ففي الربيعين كان استثمار الغضب الشعبي هو الأساس , ومازالت القوى الخارجية الفاعلة هي نفسها وفي مقدمتها الولايات المتحدة , أما الاتحاد السوفياتي الجورباتشوفي , فقد تم تعويض دوره بالاتحاد الأوروبي , بينما تلعب وريثته روسيا اليوم دورا مناوئا للربيع, والهدف المعلن واحد في الحالتين : الديمقراطية وحقوق الانسان والعدالة والحرية ......ومن الواضح أن الشعوب مستعدة للترحيب بالقوى الخارجية للخلاص من الظلم الدخلي.
انطلاقا من أوجه الشبه بين الربيعين ,وأوجه الاختلاف أيضا وخاصة أن ربيع أوروبا يعتبر بداية ثورة الاتصالات والعولمة . بينما ربيع العرب جاء في قمة ازدهار ثورة الاتصالات, ولكن القوى الفاعلة والأليات المستخدمة هي ذاتها تقريبا, وغالبا , سيسفر الربيع العربي عن نفس النتائج الي أسفر عنها ربيع أوروبا الشرقية.
وقياسا على ذلك .ستشهد السنوات الأولى التالية لانتصار الربيع في أي بلد عربي , حالة من الفوضى والاضطرابات , وصراع بين قوى جديدة وأخرى محافظة . وكما هو واضح , يبرز تيار الاسلام السياسي وكأنه البديل أوالمنقذ , ولكن الاطاحة به شعبيا ستكون حاسمة وبعد تجربته والاطلاع على ممارساته....
يلي فترة العامين المضطربين , نحو خمس سنوات هي فترة التشكل الديمقراطي ودسترة الديمقراطية وصياغة قوانينها وتشكل أحزاب سياسية , يكون لرأس المال وللسفارات الأجنبية دورا هاما في تشكيلها وتوجيهها...وستلعب اسرائيل دورا خفيا في البداية ولكنه سيكون دورا علنيا ومعترفا به في فترة لاحقة .
بعد دورتين برلمايتين , لبرلمان منتخب على الطريقة الديمقراطية الغربية , سيبقى في الساحة حزبان أو ثلاثة أحزاب قوية تتصارع ديمقراطيا لتداول السلطة , والسمة العامة لهذه الأحزاب أنها غبر وطنية وغير قومية . وتتنافس لحصول على الدعم الاسرائيلي والأمريكي....أما الرأي العام فسينشغل دائما بالمسلسلات الديمقراطية والخلافات بين الأحزاب ونقاشات البرلمان ..ولكل حزب أنصار من مختلف فئات الشعب , فمن رأسمالي ينشد زيادة الثروة بوصول حزب يدعم الرأسمالي حملته الانتخابية لقاء وعود فب مستنقع فساد اضطراري., الى طالب لوظيفة في الدولة سيتكفل الحزب حال فوزهه بتأمينها له , الى عامل ينشد زيادة الأجر..
أما قضية فلسطين , فلن تكون على راس الأولويات , فالطبفة السياسية التي تفرزها لعبة الديمقراطية , ومهما اخنلفت في الفكر والممارسة , فانها لن تقترب بشكل حقيقي من القضية الفلسطينية , الابقدر رغبة سفارات الدول الكبرى ذات التاثير في الوضع المحلي.
انه ربيع ....لابد منه . ولكن أزهاره النهائية لن تكون وردت في الحلم التاريخي للشعوب , ستكون كثيرة الشوك . رمادية اللون .
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت