هذه هي الانتخابات الحقيقية التي يقوم من خلالها الشعب بالتعبير عن مكنونه الذاتي بدون ضغوط مسبقة وبدون توقعات مؤكدة ، لا أحد يستطيع التكهن بشكل جدي وحاسم حول ما سيقوله الشعب في اللحظة الأخيرة وهذه هي الديمقراطية الحقيقية التي نسعى الى تحقيقها والتي تتلخص في منح المواطن العادي أن يعبر عن رأيه بشكل حر ويختار من يراه مناسبا لقيادته وعلى الجميع احترام هذه الإرادة مهما كانت مخالفة لتوقعات الكثيرين خاصة أن كل من وافق على خوض غمار العملية الديمقراطية عليه أن يحترم نتائجها طائعا مقتنعا وليس مجبرا أو مكرها ولا يجوز لأي جهة أن تستخف برأي الشعب أو تستحقره أو تقلل من شأن خياراته لأن الشعب صفحة مفتوحة أمام الجميع بالتساوي ولكل جهة آمنت بالعملية الديمقراطية أن تقدم نفسها وتشرح برنامجها ثم تترك للمواطن الاختيار ، لا توجد جهة في العملية الديمقراطية مقدسة وأخرى غير مقدسة أو جهة تدعي أنها لا تقبل الهزيمة ولا يوجد هناك من هو فوق إرادة الشعب .
لماذا تلجأ بعض القوى لشراء الذمم ودفع أموال لكسب الأصوات واستغلال حاجة الفقراء والمعوزين ولماذا يلجأ البعض لعمليات تزييف في البطاقات الانتخابية ولماذا كل هذا التحايل الذي يكلف صاحبه الكثير من سمعته وأمواله ؟ أليس كل من يقوم بتلك الأفعال مهما كان اسمه أو هدفه هو اعتراف مسبق بهزيمته حتى لو حقق انتصار أو حضور ؟ لماذا يغضب البعض ويتوتر ويبدأ استعداداته بشكل مبكر للتشكيك بنزاهة الانتخابات إذا لم يحقق الفوز الذي كان يتوهمه ؟ لماذا نكذب على أنفسنا وندعي أننا نؤمن بالديمقراطية ثم نتصرف وكأننا أعداء لها ؟
تجربة الانتخابات الرئاسية في مصر نجحت بامتياز والنتائج المفاجأة تؤكد ذلك ، المرشحين الأقوياء حصلوا على نسب متقاربة ولا يستطيع أي منهم الإدعاء بأنه حقق فوزا خاصا بل أثبت حقيقة التوجه الشعبي للشعب المصري ، فاز اليمين واليسار والوسط وحقق الإسلامي والعلماني والليبرالي حضورا قويا كلهم كانوا قريبين من الشعب وكلهم حصلوا على حضورهم الحقيقي ، وكانت رسالة الشعب الواضحة والصريحة لهم جميعا " أريدكم كلكم ولا أريد جزءا منكم " ، هذه هو الشعب الصادق الواعي الذي لا تخدعه الشعارات ولا الإغراءات الكاذبة ، الشعب هو الممثل الحقيقي لنفسه وذاته .
لقد حقق حزب الحرية والعدالة – الإخوان المسلمون - حضورا لم يكن مفاجئا بحكم عمرهم الزمني الطويل في العمل السياسي والنقابي بالرغم أنهم بذلوا جهودا جبارة خلال المرحلة السابقة لتحقيق فوز مميز مستندين على ما حققوه خلال انتخابات مجلسي الشعب والشورى ولكهم حققوا الحجم الذي أراده الشعب لهم ، وكانت رسالة واضحة ودرسا بعدم الارتكان الى الحجم الشكلي والتاريخي ، وأن الماضي ليس دائما شرطا لاستشراف المستقبل بل الحاضر هو من يصنع المستقبل القريب .
وحقق اليسار المصري انتصارا تاريخيا مدويا لم يتوقعه الكثير حيث حقق المرشح اليساري الناصري القومي حمدين صباحي نتائدج توازي ما حققه حزب الحرية والعدالة وهذا يدل على حاجة الشعب للتنوع الثقافي وحاجة الشعب الى العودة للغة خطاب الشارع البسيطة والمباشرة دون رتوش وبعيدا عن رجال المال أو الشعارات الكبيرة التي أفرغت من مضمونها من كثرة تكرارها دون تحقيق الحد الأدنى منها .
وحقق المستقلون حضورا قويا أكد الحالة النفسية التي أصابت الشعوب من الأحزاب ونمط تفكيرها وتعاملها مع الشعب ، وكان الدكتور عبد المنعم ابو الفتوح الفائز الحقيقي في هذه الانتخابات عندما تحدى بفكره وطرحه البراغماتي الإسلامي كل الأحزاب التاريخية واستطاع خلال فترة زمنية قياسية أن يحقق ذات الحضور الذي حققته الأحزاب التاريخية ، فهو استند على ما يقدمه من فكر نحو بناء مستقبل أفضل وحاز على ثقة الشباب الطامح للتغيير .
وكانت المفاجأة الغير متوقعة هو حصول الرجل العسكري الفريق أحمد شفيق على حضور شعبي مساو تماما للقوى التي قدمت نفسها على أنها البديل عن حكم العسكر الماضي ، وهذا يعد حضورا وانتصارا كبيرا حيث كان الفريق شفيق الوحيد الذي كان يسبح عكس التيار الجارف ، ولكن الشعب المصري قال كلمته أنه لن ينسى الماضي بل يريد إصلاح الفاسد فيه وليس هدمه كله ، ورأي مصير الشعوب التي حطمت ماضيها ولم تنجح في بناء حاضر متماسك .
وهكذا أعطى الشعب ثقته للجميع وأرادهم كلهم أن يحملوه الى بر الأمان حيث تحقيق الكرامة الإنسانية على أرض الوطن ، فهل فهم الكبار رسالة شعبهم ؟ أم لازالوا في سكرتهم الحزبية المقيتة حابسين أنفسهم ؟ بغض النظر عن شخصية الرئيس القادم فإن الشعب المصري انتصر لذاته فهل سينتصر الكل لمصر التي أعطتهم ثقتها ؟
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت