المال والسلطة الحزبية.. بعض الآثار الاقتصادية الرئيسية "نظرة تشخيصية"


" اللهم إني أشكو إليك جلًد الفاجر وعجز الثقة " ....عمر بن الخطاب رضي الله عنه

لا شك أن هناك الكثير من الكتابات والجدل حول دور توظيف المال الحزبي في الاستقطاب السياسي في الانتخابات وغيرها من أوجه الحياة العامة ، سواء في الدول المتقدمة أو النامية. إلا أن دورها في الدول النامية - حيث لا ملامح بعد لدولة المؤسسات أو في تلك الدول التي لم تتشكل بعد- يعد جليا وواضحا وذات تأثير مسيطر. وليست هذه الآثار السياسية هي الوحيدة بل إن هناك آثار اقتصادية لهذا المال أكثر خطورة على المدى الطويل.
تعتبر التجربة الفلسطينية تجربة ذات طابع فريد خصوصا من حيث الفترة الزمنية في مواجهة العدو الصهيوني ، مما افرز العديد من الأحزاب والألوان السياسية بتوجهات أيديولوجية مختلفة، تفاوتت تفاوتا شديدا خلال هذه الفترة من حيث القوة والحجم والتأثير. إلا أن أموال الأحزاب تلعب دورا اقتصاديا مشابها دون اختلافات جوهرية بين مختلف الأحزاب الفلسطينية على اختلاف مشاربها. كما أن هذا الدور الفريد والواسع للأحزاب الفلسطينية جعلت من عملية الانتماء الحزبي طابعا شخصيا في المجتمع الفلسطيني.
على الرغم من أن للأحزاب السياسية المختلفة حق في احتراز المال واستخدامه في مصلحتها الحزبية إلا أن للحالة الفلسطينية خصوصية أن الأحزاب تتحكم بموارد مالية ذات وزن نسبي كبير نظرا لضعف "الدولة" او غيابها هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى أن جٌل هذه الأموال مستقطب من اجل خدمة القضية الفلسطينية سياسيا واقتصاديا وإنسانيا. ومن هنا فان غياب الحياة المؤسساتية والدور الرقابي الملائم جيَر استخدام هذه الموارد بشكل يخلو من الأمثَلة الاقتصادية ومن الهدف المرجو من استقطاب هذا المال.
هذا المقال يشير إلي بعض دور هذا المال والسلطة الحزبية في تشويه الأسواق الاقتصادية الفلسطينية كسوق العمل والأراضي ومزاحمة القطاع الخاص. هذا الدور الغير مبني على أسس الكفاءة الاقتصادية و رشادة اتخاذ القرار وإنما تلعب به العلاقات التنظيمية والمصلحة الحزبية الدور الأساس دون أي اعتبار للمهنية في توزيع واستخدام هذا المال، في حين يفترض بهذا المال أن يعمل للصالح العام لا لفئوية ضيقة.
أولا: إن أول واهم هذه التشوهات هو تشوه سوق العمل ، وذلك لاتساع نطاق التوظيف في مختلف المؤسسات على أساس الانتماء الحزبي لا الكفاءة المهنية والعلمية وذلك إلغاءً لمبدأ تكافؤ الفرص والذي تنادي به هذه الأحزاب وذلك على النحو التالي:
إن تعاقب الأحزاب الفلسطينية الكبيرة على السلطة دون وجود مشروع وحدوي أو صيغة للشراكة السياسية بينها جعلها تسعى لشغل وتضخيم القطاع البيروقراطي العام بعناصرها الحزبيين ، مما سبب مستويات مرتفعة من البطالة المقنعة وتفشي الفساد المالي والإداري والذي عكس مردود منخفض للإنتاجية بل وذا اثر سلبي في بعض الأحيان.
كما أن هذه السياسة لم ترافق مستوى معين من مستويات السلم الوظيفي بل انطبق على كافة المستويات خصوصا تلك المستويات الإدارية المتوسطة والعليا الحساسة التي ينعكس سوء الاختيار فيها إلي كارثة في إدارة النشاط الاقتصادي.
كما أن العديد من المؤسسات الأهلية المحسوبة أصلا على حزب أو أخر يجري عليها نفس آليات الاستخدام مما جعل من سوق العمل تبدو وكأنها سوقين –سوق متعدد الامتيازات والعوائد بإنتاجية منخفضة وبآلية تعيين سياسي وسوق أخر مهني يخضع للقواعد الاقتصادية بمستوى متدني من المزايا الوظيفية.
فإذا كانت أوجه النشاط الاقتصادي والاجتماعي العام (الحكومي) تدار بكاملها في قطاع غزة في حين أن هناك عشرات الآلاف من الموظفين الحكوميين يستلمون رواتبهم دون عمل - فأين الحاجة لهم- مما يدلل على حجم المشكلة ومدى تفاقمها. إن تضخم القطاع البيروقراطي العام حدد قدرة السلطة الفلسطينية على إتباع سياسة مالية رشيدة هي في الأصل انعكاس للسياسة الإسرائيلية بسبب الاتفاقيات مع إسرائيل. كما إن وجود جهازين بيروقراطيين متضخمين في قطاع غزة ، ربما يعتبر عائق جوهري أمام المصالحة الفلسطينية ، وعدم مهنية هذا الجهاز جعله ينقلب على المستوى السياسي المنتخب عام 2006 لمجرد انه يمثل تيار سياسي مخالف.
كما إن الاستفراد السياسي بالسلطة وما صاحبها من عقلية أمنية ومحاولات السيطرة على مختلف المؤسسات غير الحكومية أو الأهلية بالتأثير عليها بشتى الطرق لتعيين أهل الولاء من حملة البطاقات الحزبية بغض النظر عن الكفاءة الإنتاجية أو المقدرات المهنية. إن أشكال هذا التدخل قد تكون أمنية وبالترغيب أو الترهيب أو من خلال النفوذ الحزبي الذي لا تستطيع هذه المؤسسات مجابهته أو من خلال تعيينات الرئيس الذي لا تتعلق مهامه بمثل هذه التعيينات، وغير ذلك من الأشكال.
إن هذا الأسلوب من الاستخدام غير الرشيد لم يجر فقط لصالح الأحزاب الكبيرة وإنما طبق على باقي الأحزاب السياسية والهامشية "ذات التأثير الحدي الضئيل" لغرض الاستقطاب أو الرشوة السياسية أو إعطاء حالة الاستفراد (الاحتكار) السياسي صبغة المشاركة السياسية ، بل ربما سعت مثل هذه الأحزاب لاستئثارها بحصة اكبر في مقابل المساومة على مواقفها السياسية.
ثانيا: إن جوهر الصراع على فلسطين إنما هو صراع على الأرض مما أدى إلى محدودية شديدة جدا في الأراضي المتاحة داخل مناطق ""A وهي المناطق المنقولة مسئوليتها الإدارية والأمنية للسلطة الفلسطينية، وهي مناطق ذات كثافة سكانية عالية. وقد أدت السياسات الحزبية المطبوعة بطابع السلطة الحاكمة إلي تشوه شديد بهذا السوق نتيجة استخدام المال الحزبي في مضاربات أدت إلي ارتفاع حاد في أسعار الأراضي والعقارات" السلع الغير متاجر بها" بصورة عامة. من المؤكد أن الكثافة السكانية ومعدلات النمو السكاني المرتفع والأسعار والتقلبات الاقتصادية وعدم الاستقرار الذي جعل من العقار ملجأ دافئا وغيرها من المتغيرات الاقتصادية تلعب دورا جوهريا في ارتفاع الأسعار، إلا أن السياسات الغير رشيدة في استغلال وتوزيع الأراضي الحكومية على أهل الولاء لا الاستحقاق من جهة ، و من جهة أخرى استخدام الأموال الحزبية أو تلك المرعية حزبيا في عمليات الاتجار بالعقارات أو من اجل تسهيل عمليات تحويل الأموال للداخل بسبب القيود الإسرائيلية أو لغرض تجاوز عمليات الرقابة وعدم الشفافية لبعض الجهات المتنفذة والفاسدة داخل الأحزاب خصوصا الكبيرة منها. إن مثل هذه السياسات تجعل من عمليات تقييم أسعار الأراضي تقييما مرتفعا وغير اقتصادي مما يؤدي إلى هدر مالي وامتصاص للمدخرات المحلية وزيادة الفجوة في توزيع الثروة الوطنية بين شرائح المجتمع. فكما كان يقال أن أصحاب الدولار هم أصحاب القرار بل إن التأثير بات متبادلا ويصبح أصحاب القرار هم مٌلاك الدولار.
وأخيرا فان انخفاض مهنية العمل العام وعدم القدرة على إدارة النشاط الاقتصادي لتحقيق أهداف قومية وطنية وإنما لمصالح فئوية ضيقة قاد لاختلاط المال العام بالحزبي. كما أن حالة الانقسام الفلسطينية الأخيرة لخير دليل على عدم القدرة لإيجاد شراكة أو صيغة توافقية لإدارة المصلحة العامة بما فيها الاقتصادية والذي يشير لطغيان النزعة الحزبية على الأهداف العامة. وقد سادت الفترات الماضية ضبابية شديدة في التمييز بين الأموال العامة والنفقات الحزبية وآلية تحديد المخصصات المالية للأحزاب بل وسقف هذا التخصيص فيما يتعلق بالحزب الحاكم. كما إن انعدام الشفافية والمساءلة وهزالة الجهات الرقابية بسبب تدخل القيادة السياسية في التصرف بالمال العام بمعزل عن الجهات الفنية المختصة أدي إلى بروز قوي للمصلحة الخاصة والذي تجلى بمستويات حادة من الفساد المالي والإداري الذي شاع عن أداء السلطة والأحزاب الفلسطينية.
أدت هذه السياسات إلى تراكم لرؤوس أموال حزبية من مصادر عامة تدار من قبل أفراد متنفذين في مشاريع خاصة ذات صبغة احتكارية بسبب الرعاية السياسية لها تزاحم القطاع الخاص وتؤثر سلبا على الكفاءة الاقتصادية للمشاريع الوطنية. كما أن عدم الشفافية والمساءلة أدى لدخول هذه الأموال على شكل ملكية خاصة لذوي النفوذ أو أقرباءهم إلى شركات خدمية احتكارية كبيرة مما أدى لانخفاض في مستوى الخدمة المقدمة للجمهور. كما أن تداخل مصالح هذه الفئات بمصالح أصحاب القرار جعل لهم تأثيرا سلبيا واضحا في اتخاذ القرار الاقتصادي.
إن إساءة إدارة المال العام وطغيان المصالح الحزبية الضيقة على الصالح العام شكل ولا شك سمعة دولية سيئة للطبقة السياسية والبيروقراطية مما انعكس سلبا وبصورة حادة على المساعدات الخارجية التي يمكن أن توجه لتحقيق أهداف تنموية وحدد هذه الأموال في قنوات دولية أو لإغراض نفقات جارية أو إغاثية.


د. محمود محمد صبرة
كاتب واكاديمي فلسطيني

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت