وما أشبه اليوم بالبارحة ،فعندما ينتشر الإسلام الشكلاني،من الانشغال: بلحية الرجل ولباسه،حجاب المرأة وعلاقتها بالرجل،تشييد المساجد والتباهي بعددها وبعدد حفظة القرآن أكثر من التباهي بعدد الجامعات والعلماء،الغرق في تفاصيل قضايا ثانوية كإرضاع الكبير ومضاجعة الزوجة المتوفاة ومحاكمة الفن والفنانين، وتكفير كل من يخالفهم الرأي الخ ،فإنهم يبتعدون عن روح وجوهر الإسلام ويبقون خارج التاريخ وخارج الفعل الإنساني،وهذا هو حال المسلمون العرب الخاضعون اليوم لهيمنة أيديولوجية جماعات الإسلام السياسي الشكلاني.أما عندما يأخذ المسلمون بالإسلام العملي الذي يقوم على إعمار الأرض وإعمال العقل وبفقه الواقع فإنهم يؤسسون لأمة إسلامية حضارية،وتركيا تعطينا نموذجا معاصرة على الإسلام العملي.
لم يستمد حكام المسلمين - منذ بيعة السقيفة إلى اليوم - شرعيتهم من الدين بل من قوتهم ودهائهم أو من توافق الناس عليهم قناعة ورضا أو خوفا ومداراة،لا يعني هذا أن حكام الدول الإسلامية كانوا خارجين عن الدين أو لا يطبقون الشريعة الإسلامية،بل أنهم كانوا يطبقونها حسب رؤيتهم وفكرهم ومصالحهم موظفين (فقه الواقع) ،ذلك أن القول بتطبيق الشريعة لا يعني أن الشريعة ستُطبق على مستوى نظام الحكم من تلقاء نفسها بل ستُطبق من خلال البشر الذين سيفسرون ويؤولون النصوص حسب فهمهم ومصالحهم ومصالح الجماعة حسب متطلبات العصر،نفس الأمر بالنسبة للقول (الإسلام هو الحل) فهذا القول لا يعني شيئا ذلك أن مشاكل الناس الدنيوية من فقر وبطالة وتعليم وصحة وتلوث البيئة والتصحر الخ تحتاج لحلول دنيوية من أولي الخبرة والاختصاص وهي غالبا حلول لا يوجد عليها نص في القرآن والسنة،ومن الحكمة الإلهية عدم وجود نصوص عليها.
إنه لَوَهم كبير الاعتقاد بأن الدين يمنح شرعية سياسية لحاكم أو حزب سياسي، حتى إن حَكَم البعض باسم الدين لحين من الزمن فإنه سرعان ما يأتي من يسقطه من الحكم باسم الدين أيضا أو بثورة تكشف زيف شرعيته الدينية .حتى في هذا الحين من الزمن الذي يغلف به الحاكم سلطته بشعارات الدين فإن خضوع الناس لحكمه الديني أو الثيوقراطي لا يعود لقناعة الشعب بالصفة الدينية للحاكم بل نتيجة سلطة القهر والاستبداد التي يمارسها الحاكم باسم الدين،ومن يرجع لتاريخ الأمم الإسلامية والمسيحية ماضيا وحاضرا والتي مرت بحكم جماعات وايديولوجيات دينية سيلمس بأن المراحل التي سادها حكم ديني كانت أشد مراحل الفتنة والفوضى والتخلف،لأنه كما يستطيع هذا الحاكم خداع الناس باسم الدين فسيأتي من هو أكثر خداعا ونفاقا منه ليعيد توجيه تفكير الناس ضد الحاكم وباسم الدين أيضا فتحدث مواجهات بين جماعات كل منها تَزعُم بأنها الأكثر فهما وتمثيلا للدين من غيرها ،بينما في واقع الأمر هي جماعات تسعى للسلطة والجاه والدين منها براء،في مثل هكذا صراعات يكون العنف والقتل أكثر شراسة من قتال غير المسلمين لأن كل فئة تنظر للأخرى كجماعة ضالة وكافرة من الواجب على المسلمين قتالها .
الخلل ليس في الدين بحد ذاته ،فحيث لم تتعير النصوص المقدسة في كل الديانات عبر مراحل صعود وهبوط الأمم والحضارات فهذا يعني أن الخلل ليس في النصوص المقدسة بل في البشر وكيفية توظيفهم لها . طوال أكثر من أربعة عشر قرنا من تاريخ الإسلام تفاوت حال المسلمين ما بين نهضة وكبوة ،نصر وهزيمة،حضارة سيطرت على العالم ثم شعوب خانعة متخلفة،وطوال هذه الحقبة لم يتغير النص المقدس لا قرآن ولا سنة ،فلماذا هذا الهبوط والصعود؟. الأمر لا يتعلق بجوهر الدين أو بالنص المقدس بل بالبشر وما يريدون وكيف يفهمون ويوظفون الدين . المشكلة في توظيف الدين من طرف أشخاص وأحزاب طامعة بالسلطة والجاه لا تتوفر على قدرات عقلية وعملية واقناعية لتحشيد الشعب حولهم بخطاب عقلاني عملي يضع اليد على مشاكل الناس وهمومهم ويطرح حلولا عملية واقعية لهذه المشاكل ويقوموا بدلا من ذلك بتوظيف الدين من خلال تفسير وتأويل وتلوين للنصوص الدينية وتحويلها لأيديولوجيا ولوعي زائف،وفي مجتمعات يسودها الجهل والجوع وتخضع لحاكم استبدادي يصبح من السهل استقطاب الناس لهذا الخطاب الديني كمخلص من الواقع الرديء،إلا أن هذا الاستقطاب لن يطول طويلا،لأن الشعب لا يثور لنقص في إيمان الحاكم أو لأنه غير ملتحي،بل لحاجتهم لسكن أفضل وتعليم أفضل وصحة أفضل ولفرص عمل، وليس لأسياد جُدُد.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت