تحديث القوانين من أهم إنجازات القضاء الشرعي

بقلم: تيسير التميمي


الحلقة الثالثة : مشروع قانون الأحوال الشخصية/2
تضمنت مسودة قانون الأحوال الشخصية الفلسطيني تعديلات عديدة أبرزها ما يلي :
1- رفع سن أهلية الزواج : لا خلاف بين العلماء في إباحة تزويج الصغار (قبل سن البلوغ) من الجانب الشرعي ؛ بدليل قول الله سبحانه وتعالى { وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ } الطلاق 4 ، فمن المعلوم فقهاً أن لا عدة إلا من طلاق ، ولا طلاق إلا من زواج صحيح ، مع التأكيد على عبثية هذا الزواج كما قرر كثير من الفقهاء في مصنفاتهم ، لأنه يحمِّل هؤلاء الصغار مسؤوليات هم عاجزون عن الوفاء بها ، وهم في غنى عنها أصلاً لعدم حاجتهم إليها ، فالصغر ينافي معظم مقاصد الزواج .

واستناداً إلى منع غير الراشد التصرف بأمواله لاحتمال إتلافها ؛ فالزواج بلا رشد أعظم ضرراً لاحتمال فشله وعدم نجاحه ، ولصدوره غالباً عن غير رضا الزوجين ، ولوقوفه حجر عثرة في طريق مواصلة الدراسة والتحصيل العلمي وبالأخص الإلزامي ، وغالب ضحاياه من الفتيات ، لذا فقد نصت المادة (7) من مسودة القانون على أنه [ يشترط في كل من الخاطبين أن يكون عاقلاً ، وأن يتم ثماني عشرة سنة شمسية ] ، وجاء في المادة (8) من المسودة [ يجوز للقاضي استثناء أن يأذن بزواج من لم يتم الثامنة عشرة في حالات الضرورة وبموافقة قاضي القضاة بما لا يقل عن البلوغ ، ويصدر قاضي القضاة التعليمات الخاصة بذلك ] .

2- تحديد الولي في الزواج : جاء في المادة (13) من مشروع القانون [ الولي في الزواج هو العاصب بنفسه من القرابة النسبية حتى الدرجة الثانية ] ، وجاء في المادة (14) من المشروع [ يشترط في الولي أن يكون راشداً ] .
على الرغم من أن المذهب الحنفي قرر عدم احتياج المرأة البالغة العاقلة الراشدة إلى الولي لتزويج نفسها ؛ إلا أن القانون النافذ حالياً أخذ برأي الجمهور في هذه المسألة فاشترط رضا الولي بالزواج التزاماً بقوله صلى الله عليه وسلم { أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فنكاحها باطل } رواه الترمذي ، ومراعاة لمصلحة المرأة في زماننا ، إلا أن القانون اشترط رضا الولي حسب الترتيب المنصوص عليه في المذهب ، وهذا يجعل للولي مهما كان بعيداً عن المرأة سلطة رفض أو قبول هذا الزواج ؛ مما قد يضر بمصلحتها ، لذا فقد حصر مشروع القانون ولاية تزويج المرأة البكر في الدرجتين الأولى والثانية .

جاء هذا التحديد نظراً لما نشهده اليوم من نقص شفقة الولي على المرأة في الدرجات البعيدة ، وتعود هذه الظاهرة إلى قلة التقوى والتأثُّر بالأهواء والمصالح ، أو الخوف على الثروات والمكانة الاجتماعية ، أو لمحض التحكُّم في المرأة وفرض القول عليها ورغبة بإيقاع الضرر والكيد بها ؛ مما يدعوه إلى إكراهها على الزواج أو عضلها دون اعتبار رضاها ؛ وبالأخص أن عوامل الصغر والحياء والعرف والخوف تحرمها التعبير وإبداء الرأي ومخالفة الولي .

3- تبليغ الزوجة بزواج زوجها : لم يمنع الإسلام تعدد الزوجات ولم يوجبه ، بل أباحه ونظم أحكامه ؛ فقيد العدد فيه بأربع ، واشترط له شروطاً منها العدل بين الزوجات . ولم تتدخل قوانين الأحوال الشخصية النافذة في المحاكم الشرعية الفلسطينية فيه ، أما مشروع القانون فقد جاء في المادة (21) أن [ على القاضي عند إجراء عقد زواج المتزوج الذي يرغب بالزواج من امرأة أخرى أن يتحقق من إعلام الزوجة الأولى/الزوجات بالذات مع ضرورة معرفة الزوجة الجديدة بوجود زوجة/زوجات قبلها ] .

ليس في هذا النص منعاً أو تحديداً للتعدد ، ولا اشتراط موافقة الزوجة عليه لأنه ليس من حقها ، لكنه إذا وقع رتب لها حقوقاً جديدة ، ففي هذا النص حفظ لحقوق سائر الزوجات ؛ وضمان تحقيق العدل المطلوب في القَسْمِ بينهن ، ومحاولة للتغلب على بعض آثاره السلبية من احتمال ضياع حقوق الزوجة الأولى أو حقوق أولادها عند تقصير الزوج في أدائها . ومن جانب آخر فيه حماية للزوجة الثانية من التدليس والتغرير الذي قد يوقع الضرر بها .

4- نفقة الزوجة العاملة : الأصل عدم خروج الزوجة من البيت إلاَّ بإذن الزوج ، فإذا خرجت فهي ناشز لا نفقة لها عند الجمهور (انظر كتاب المغني لابن قدامة 8/189) ، لكن بسبب التغير في حياة الناس ومشاركة المرأة على نطاق واسع في مجالات العمل والوظائف العامة ، فإنَّ استمرار ربْطَ عملها بإذن الزوج وفي جميع الأحوال قد يوقع بها ضرراً بالغاً بفوات مصلحتها ، أو بضياع حقوقها المالية والإدارية والوظيفية حال تركها العمل ؛ وبالأخص أن زواجها ربما انتهى بالطلاق ، هذا بالإضافة إلى أن بعض الأزواج يتعمدون التقصير في الإنفاق على زوجاتهم وأولادهم ؛ فتحتاج الخروج إلى العمل لتحصيل قوت الأسرة ومتطلباتها ، وفوق ذلك فالملاحظ أن المرأة العاملة غالباً تنفق كسبها على احتياجات الأسرة وبيت الزوجية ويندر أن تدَّخره لنفسها ، لذا نصت الفقرة الأولى من المادة (82) من مشروع القانون على أنه [ تجب نفقة المرأة العاملة على زوجها بشرط أن يكون العمل مشروعاً ، وأن يوافق عليه الزوج صراحة أو ضمناً ، ولا يجوز له الرجوع عن موافقته إلا لظرف استثنائي يهدد استقرار الأسرة ودون أن يلحق بها ضرراً ] ، وجاء في الفقرة الثانية منها [ إذا عملت الزوجة دون إذن الزوج لتقصيره في الإنفاق فلا يسقط حقها في طلب النفقة ] .

أخذ المشروع في هذا النص بقول الجمهور الذين يجيزون للمرأة الخروج بغير إذن الزوج لقضاء حوائجها إذا لم يقضها هو لها ؛ أو للوفاء بالتزاماتها المالية أو الوظيفية كالديون وكالقابلة (انظر كتاب البحر الرائق لابن نجيم 4/212) ، وكالمرضعة التي أجَّرَتْ نفسها قبل الزواج ، وأخذ أيضاً بقول الظاهرية الذين يرون أن نفقة الزوجة تجب بإزاء العقد ولا يسقطون نفقة الزوجة الناشز أصلاً (انظر كتاب المحلى لابن حزم 9/114) .

5- زيادة الغرامة المالية على الطلاق الغيابي : صان الدين الإسلامي ميثاق الزواج عن التلاعب به ، وضيّق فرص العبث بمبادئه ، وحذر من هدم أسسه ؛ بل لقد أبغض الإقدام على نقضه بالطلاق إلا لظروف قاهرة ، لأن فيه إفساداً كبيراً لمصالح الدين والدنيا المتحققة بالزواج ، فالأصل فيه الحظر ولا يباح إلا للضرورة ، ولهذا الغرض ، وبهدف زيادة التدابير التي تحد من الطلاق وبالأخص الغيابي وتردع الأزواج عنه فقد جاء في الفقرة الثانية من المادة (107) من المشروع [ إذا طلق الزوج خارج مجلس القضاء فعليه مراجعة المحكمة خلال خمسة عشر يوماً لتسجيل الطلاق ، ويعاقب بغرامة مالية لا تقل عن خمسمائة دينار أردني ولا تزيد عن ألف دينار ] .

رفعت هذه المادة المقترحة قيمة الغرامة المالية على مخالفة الشرط القانوني في تسجيل الطلاق الذي جرى خارج المحكمة الشرعية ؛ حيث إن الغرامة المنصوص عليها في المادة (281) من قانون العقوبات لعام 1960 (أي منذ أكثر من نصف قرن) والذي ما زال نافذاً في فلسطين حتى الآن لا تزيد عن خمسة عشر ديناراً أردنباً .

6- التعويض عن الطلاق التعسفي : اختلفت مواقف العلماء المعاصرين من مسألة التعويض عن الطلاق التعسفي بين مؤيد ومعارض ، ولكل فريق وِجهة نظره ودليله . تبنى قانون الأحوال الشخصية النافذ حالياً في الضفة الغربية مسألة التعويض عن الطلاق التعسفي ، لكن قيمته المنصوص عليها ضئيلة جداً بالقياس إلى مقدار الضرر الواقع على المرأة بسبب الطلاق ، كما أن القانون صادر منذ عام 1976م أي قبل أكثر من ثلاثة عقود .

وللحد من تعسف الزوج في إيقاع الطلاق ـ وبالأخص بعد مرور سنوات طويلة على الزواج ـ فقد جاء في المادة (119) من مشروع القانون [ تجب المتعة للمطلقة بعد الدخول ، ويقدر القاضي قيمتها مراعياً حال الزوج شريطة ألا تزيد عن نفقة سنة ] ، و في الفقرة الأولى من المادة (120) من المشروع [ للمطلقة طلب التعويض إذا تعسف المطلق في استعمال حقه في الطلاق ، ويفرض القاضي قيمة التعويض حسب تقدير الخبراء مراعياً حالة الزوج ومقدار الضرر الذي وقع على المطلقة دون أن يؤثر ذلك على الحقوق الزوجية الأخرى شريطة ألاَّ يقل التعويض عن نفقة سنة ] ، وجاء في فقرتها الثانية [ يحكم القاضي بأجرة مسكن للمطلقة تعسفاً ما لم تتزوج إذا لم يكن لها مأوى أو معيل وكان حجم الضرر الواقع عليها يبرر ذلك على ألاَّ تزيد المدة عن سنة ] .

أخذ المشروع في هذا النص بقول الظاهرية (انظر كتاب المحلى لابن حزم 10/3 ) والشافعي في مذهبه الجديد (انظر كتاب مغني المحتاج للشربيني 3/241) ؛ حيث أوجب كل منهما المتعة لكل مطلقة ؛ استناداً إلى قوله تعالى { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ } البقرة 241 ، وإلى قوله سبحانه في تخيير الرسول صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين بين الطلاق والإمساك { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً } الأحزاب 28 .

أما تقدير قيمة المتعة فهو متروك إلى ولي الأمر لأنه من المسائل الاجتهادية أخذاً بالقول الراجح عند الشافعية (انظر كتاب مغني المحتاج للشربيني 3/242) ، وبإحدى الروايتين عن أحمد (انظر كتاب المغني لابن قدامة 7/171) .
وبناء على أن للمرأة ذمة مالية مستقلة ، وبناء على أنها ليست ملزمة بتجهيز بيت الزوجية ولا بالإنفاق ، ونظراً إلى أن المعهود المشاهد في الواقع والحياة الاجتماعية أن المرأة العاملة تنفق أموالها غالباً على الأسرة والبيت ؛ فقد أخذ مشروع القانون هذه المسائل في حالة الطلاق بعين الاعتبار ، فقد جاء في المادة (121) من المشروع [ تشارك المطلقة بالطلاق البائن أو الرجعي الذي آل إلى بائن مطلقها في الأموال المنقولة وغير المنقولة إذا أثبتت أنها أسهمت في امتلاكه لها ونسبة ما أسهمت به فيها ] .

7- التفريق للمرض النفسي العضال : تمتاز الشريعة الإسلامية بصلاحيتها للتطبيق في كل زمان ومكان وفي سائر المجتمعات ، وتتسع أحكامها الشرعية لتشمل كافة الأحوال والوقائع الحادثة نتيجة تطور العصور والأزمان .
ولئن عرف سلفنا الصالح تأثير العيوب الجسمية والعقلية والأمراض المنفرة في استقرار الحياة الزوجية ؛ فقد عرف العالم اليوم تأثير الأمراض النفسية وخطورتها على أفراد الأسرة وعلاقاتهم فيها ، لذا فقد نصت المادة (130) من المشروع على أنه [ تسري على التطليق بسبب المرض النفسي العضال نفس أحكام التطليق للعيوب الجنسية أو الجنون الواردة في هذا القانون ] ، أخذاً بقول ابن تيمية الذي يجيز التفريق لأيّ عيبٍ منفرٍ في أحد الزوجين (انظر كتاب زاد المعاد لابن القيم 5/182-183 ) .

الشيخ الدكتور تيسير التميمي قاضي قضاة فلسطين/رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت