ضحايا الانقسام...معالجة موضوعية

بقلم: أسامة الوحيدي


لعلنا قد استبشرنا خيرا بهذا الحراك المحموم لإنجاز اتفاق المصالحة بين الإخوة فرقاء الوطن الواحد وطي هذه الصفحة السوداء من تاريخ شعبنا والتي بلغت مضامينها حد الشذوذ عن المسار التاريخي المشرق لقضيتنا الوطنية العادلة منذ بداياتها، حيث كان الحوار الديمقراطي والاستشعار الحقيقي لمخاطر الفرقة والانقسام يشكلان أصل العلاقة بين فصائل العمل الوطني في كيفية التعاطي مع الاشكالات والخلافات التي من الطبيعي ان تنشا في وجه أي مشروع تحرري يشارك في صياغته سيل جارف من الأفكار والاجتهادات التي قد تتطابق أحيانا وقد تتعارض أحيانا أخري،وعليه فقد كان يتم تجاوز الخلافات الطارئة بمنتهي السلاسة واليسر وعلي قاعدة نتفق علي ما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه ، وهذا يسجل بمداد من الفخر والاعتزاز لتلك القيادة التاريخية المتميزة والتي اتسمت بالحكمة وغلبت المصلحة العليا للوطن والقضية علي مصلحة الحزب الفئوية ، وشكلت علي الدوام صمام الأمان لوحدتنا الوطنية والراعي الأمين لحقوق شعبنا الثابتة في كافة أماكن تواجده .

لا أود هنا الاسترسال كثيرا في كيل المديح والغناء علي أطلال الماضي القريب ، فربما يختلف معي الكثيرون في وصف المراحل التاريخية المتعاقبة علي الوطن والقضية من منظور النجاح والفشل وهناك بالتأكيد من هو أجدر في تحليل تلك الحقب وسبر غورها ،لكنني أردت من وراء هذه الإطلالة السريعة علي محطات الخلاف السياسي التاريخي استخدام بعضا من ترياق الماضي لعلاج بعضا من سموم الحاضر ، فبرأيي أيا كان هذا الماضي بما يحمله من منعطفات سلبية إلا أن ايجابياته تفوق من حيث الأفضلية ما يشهده واقعنا الحالي وما يشوبه من سقطات مدمرة كادت في لحظة من اللحظات أن تطيح بأسس القضية الوطنية وتلقيها في مهب الريح .

وأري أن أعود من جديد للخوض في ما بدأت به والتوقف عن التعمق في مقارنة وتحليل ما فات فمن الأجدر والأجدى أن ندخر كل ما في حوزتنا من اجتهادات فكرية للبحث بدقة في كيفية الخروج من عنق الزجاجة وايجاد الحلول الممكنة لتعقيدات الحاضر المستعصية ، ولعل هذا المنطلق نفسه الذي دفع بالمتخاصمين أخيرا إلي تسريع الخطي نحو المصالحة وإنهاء الانقسام بعد أكثر من خمس سنوات من التمزق والشقاق شهدت خلالها القضية الوطنية الفلسطينية تراجعا خطيرا أسهم بلا شك في فقدان البوصلة والانجراف نحو المجهول .

إن الوصول إلي توافق وطني يكرس مبدأ الشراكة السياسية ويؤسس لعهد جديد من الوحدة والوئام يتطلب المراجعة الحرفية والدقيقة لأسباب الانقسام وإزالة تداعياته من الجذور لضمان اندثاره وعدم تكراره ، فالغفلة عن أو إهمال أي من تلك المسببات قد يكون بمثابة القشة التي قد تقسم ظهر البعير ، وتكون سببا في تفجير الاتفاق وانهياره لا سمح الله ،وقد ثبت ذلك واقعا ملموسا في تجارب سابقة ليست عنا ببعيد ، ومن الأمثلة لتلك التداعيات الناجمة عن الانقسام و التي تعتبر من وجهة نظر الكثيرين الأشد خطرا من بين الافرازات الكارثية له ... ملف ضحايا الانقسام خاصة من الشهداء والجرحى الذين تجاوز عددهم الثمانمئة شهيد وأكثر من ألفين جريح حسب الإحصائات المتداولة، فهناك رزمة من التساؤلات المشروعة حول كيفية تعاطي المتصالحين مع هذه القضية الشائكة ومدي نجاحهم في إيجاد وصفة علاجية ناجعة تضع حدا للشرخ الاجتماعي والكراهية الممتدة الذي تسبب بهما من ذهبوا بعيدا في التعدي عل حرمة الدم الفلسطيني والذي شكل علي الدوام خطا أحمرا ما كان مسموحا باختراقه علي هذا النحو السافر والذي أضر بصورة النضال الوطني وشوه معالمه ، وأعتقد أن المعالجة الموضوعية والمجدية في هذا السياق يجب أن تتضمن الالتفات بعين ثاقبة إلي المطالب الملحة للمتضررين جراء هذا الملف والتي تندرج تحت شعار استرداد الحقوق ورد المظالم إلي أهلها وفقا لما تنص عليه الشرائع والقوانين التي أقرت أصلا بهدف الحفاظ علي الحقوق وتحقيق العدالة ، فلا يجوز أبدا بحسب ما تردد علي ألسنة من يحملون هذه المطالبات تعطيل الاجراءات القضائية الواجبة بحق من ارتكبوا مخالفات جسيمة تخللتها الاشتباكات المؤسفة التي وقعت بين المتحاربين واستبدالها بدفع تعويضات مالية أو ما يعرف بالدية التي أقرها ديننا الحنيف فقط في حالة القتل الخطأ ، فوفقا لما تناهى الي علمنا حسب الاتفاق فإن مهام لجنة المصالحة الداخلية تتمحور في محاولة استرضاء أهالي الضحايا وإقناعهم بضرورة التسامح والعفو والقبول بالدية في إطار تغليب المصلحة الوطنية دون الحديث عن آليات للملاحقة القانونية لمرتكبي تلك المخالفات كتقديمهم للمحاكمة ومحاسبتهم هم ومن كان خلفهم طبقا لما ينص عليه القانون ، وهذا حرفيا يمثل جزءا من تلك المخاوف التي عبر عنها العديد ممن حاولت الولوج في مكنونات خواطرهم من الأهالي المكلومين والذين أكدوا أنهم لا يقفوا أبدا علي نقيض المصالحة والوفاق الوطني أو أنهم لا تتوفر لديهم الرغبة في التسامح والعفو الذي من الممكن أن يمارسوه قولا و فعلا في حالة منحهم حرية الاختيار لتحديد موقفهم حيال من تثبت ادانتهم ، مشددين علي أن كل ذلك قد يتم بعد تفعيل كافة الاجراءات القانونية واستنفاذها بحق من أدينوا، عندها سيكون وبالتأكيد خيار التسامح والعفو هو الفيصل ، غير انه قد قرر بإرادة ذاتية خالصة دون ضغط أو تأثير من أحد ، فالقيم والأعراف السائدة لدي شعبنا المعطاء لا تخلو من روح التسامح والمحبة والتعالي علي الجراح خاصة إذا كان الأمر يتعلق بمصير أمة ومستقبل وطن قد يتوقف علي كلمة من هؤلاء الذين يحملون سلطة معنوية مؤثرة قادرة علي تقرير مصير اتفاق المصالحة الوليد ومن خلالهم يتم القياس الحقيقي لقدرته علي التماسك والاستمرار لكونهم هم من دفع الثمن الحقيقي للانقسام من أرواح ودماء أحبتهم ، ناهيك عما ترتب علي ذلك من تداعيات نفسية واجتماعية قاسية قد قوضت أمنهم وافسدت عليهم معيشتهم ، لأجل ذلك لابد من دراسة متأنية وإعادة تقييم شاملة للحلول المتعلقة بهذا الملف والمتضمنة في صيغة الاتفاق الحالية ومحاولة تعديلها وتطويرها بما يضمن معالجة جذرية لهذه القضية الجوهرية ، مع الأخذ بعين الاعتبار أهمية التواصل مع ذوي الضحايا وإشراكهم ، في محاولة جادة لاستنباط وجهات النظر ذات العلاقة بغية الخروج بحلول ونتائج ترضي جميع الأطراف ،وتكسب المصالحة جوهرها الحقيقي القائم علي قواعد راسخة،وأسس واضحة لا يكتنفها أي غموض أو لبس ، ربما نكون بهذا الشكل قد طوينا بصدق صفحة قاتمة من تاريخ شعبنا وقضيته الوطنية العادلة ، وألقينا وراء ظهورنا عهدا ظلاميا مفعما بالكراهية والعداء الي غير رجعة .

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت