تحديث القوانين من أهم إنجازات القضاء الشرعي
الحلقة الرابعة : مشروع قانون الأحوال الشخصية/3
1- التفريق لعقم الزوج : البنون زينة الحياة الدنيا وامتداد ذكر الإنسان فيها ، فالذرية من مقاصد الزواج التي حث الشرع على حفظها ، وحق لكل من الرجل والمرأة ، فإذا ظهر عقم الزوجة فللزوج أن يطلقها أو يتزوج عليها أو يصبر ، أما إذا تأكد عقم الزوج فلا تملك الزوجة إلاَّ المخالعة ؛ وهنا قد يلجأ الزوج إلى ابتزازها ، ومن الظلم أن تدفع المرأة الثمن على أمر ليس من كسبها ولا ذنبها ، لذا جاء في المادة (132) من مشروع القانون أن [ للزوجة طلب التفريق من زوجها إذا ثبت عقمه بتقرير قطعي موقع من طبيبين ثقتين من أهل الاختصاص، معتمد من الجهات المختصة بوزارة الصحة مؤيد بشهادتهما ] ؛ وذلك قياساً على التفريق للعيوب الجنسية المانعة من الوطء ؛ واستدلالاً بما روي أن [ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث رجلاً في مهمة فتزوج امرأة وكان عقيماً ؛ فقال له أعلمتها أنك عقيم لا يولد لك ؟ قال لا ، قال فانطلق فأخبرها وخيِّرْها ] رواه عبد الرزاق في المصنف ؛ وهو قول ابن تيمية والإمام أحمد الذي قال عن الزوجة [ عساها تريد الولد ] انظر المغني لابن قدامة 7/142 ، يضاف إلى ذلك ما نص عليه الفقهاء من أن الزوج ليس له أن يعزل عن زوجته الحرة إلا بإذنها ، انظر كشاف القناع للبهوتي 5/189 .
2- التفريق للهجر : من المعلوم أن للزوجة الحق بأن يكون زوجها مقيماً عندها ويساكنها في بيتها ؛ لذا لا يصح له أن يهجرها خارجه ولو بهدف التأديب المنصوص عليه في قوله تعالى { وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ } النساء 34 ؛ فالآية الكريمة حددت مكان الهجر وهو المضجع أي مكان النوم ، وفي ذلك قال صلى الله عليه وسلم موجهاً الزوج { ... لا تضرب الوجه ولا تقبِّح ولا تهجر إلاَّ في البيت } رواه أبو داود ، فالخلاصة أنه لا بد من علمها وإذنها إذا غاب عنها ، ولأن الهجر مختلف عن الغياب والفقدان ، ولأنه يشبه الإيلاء في مآله ؛ فقد أفرده مشروع القانون في مادة مستقلة عن مادة الفقدان والغياب ، جاء في المادة (137) [ إذا أثبتت الزوجة هجر زوجها لها مدة لا تقل عن أربعة أشهر بلا عذر مقبول ، جاز لها أن تطلب من القاضي تطليقها بائناً إذا تضررت من هجره لها ] .
3- الحكم بالخلع : لحكمة أرادها الله عز وجل جعل الطلاق بيد الرجل ؛ ومنح المرأة الحق في افتداء نفسها بالمخالعة ، ويمكن تكييفها بأنها فراق بين الزوجين بإرادتهما المشتركة ، وهو جائز بدليل قوله تعالى { فإن خفتم ألاَّ يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به } البقرة 229 . هذا في حالة الاتفاق ، أما إذا أصرت الزوجة على الخلع وأصر الزوج على رفض الطلاق (وهو المعروف بالخلع القضائي) فلا معنى للخلع إذا ارتبط بإرادة الزوج المنفردة ، لذا فقد أجاز مشروع القانون تدخَّل القاضي نظراً لما يتمتع به من سلطة تقديرية في إصدار الأحكام القضائية ، فهو مخوَّل بإصدار الحكم بالتفريق بين الزوجين في هذه الحالة إذا اقتنع باستحالة الحياة بينهما بعد التحكيم ، ففي قصة المختلعة أَلْزَمَ الرسول صلى الله عليه وسلم زوجها أن يطلقها ويقبل العوض بقوله له { ... اقبل الحديقة وطلقها تطليقة } رواه البخاري ، لذا فقد جاء في الفقرة الأولى من المادة (161) [ إذا لم يتراضَ الزوجان على الخلع ورفض الزوج الاستجابة لطلب الزوجة ، فيحكم القاضي للزوجة بذلك إذا ثبتت استحالة الحياة الزوجية بينهما ] ، ونصت في فقرتها الثانية على أنه [ يكون بدل الخلع في هذه الحالة المهر وتكاليف الزواج ] .
4- الحضانة : هي حق للطفل بمقتضى الحنوّ الفطريّ ، وحق لله سبحانه وتعالى لأن إهمال الطفل وتركه يعرضه للتشرد والهلاك ، وهي حق للحاضن وفيها صلة للقربى ، وهي ولاية ثابتة بالشرع تُقَدَّم فيها النساء على الرجال لأنهن أشفق وأرفق بالطفل . وهي ليست مجرد خدمة للصغير ليس أكثر تنتهي عند قيامه بشؤونه بنفسه ، وهذا غير صحيح إذ إن أيَّ خادم يمكنه القيام بها ، لذا نص مشروع القانون في المادة (172) على أن [ الحضانة حفظ الولد وتربيته وتعليمه ورعايته ، وهي حق للمحضون يراعى عند الحكم بها مصلحته ويلزم بها من تقررت عليه] ، فالنص صريح في اعتبارها واجباً ومسؤولية يحاسب الحاضن المقصر فيها من خلال دعوى الحق العام الشرعي يحركها وكيل نيابة الأحوال الشخصية .
ومثلها الولاية ؛ حيث نص المشروع على محاسبة الولي حال تقصيره ؛ فقد نصت المادة (179) من مسودة القانون على أنه [ يجب على الولي النظر في شؤون المحضون وتأديبه وتوجيهه ، مع مراعاة ألا يبيت إلا عند حاضنته ] .
أكدت هذه المادة على أن الأصل مبيت الطفل عند حاضنته ، ولكن هذا لا يعني أن والد الطفل أو أقاربه الآخرون ممنوعون من رؤيته ومشاهدته ، فهذا حق لهم وحق للطفل لسلامة بناء شخصيته وحفظ نفسيته سليمة خالية من العقد والاضطرابات النفسية التي تنشأ من استخدام أحد الأبوين له أداة للضغط على الآخر والإضرار به .
ونظراً إلى أن المشاهدة كانت تتم سابقاً في قاعات المحاكم الشرعية أو في مراكز الشرطة أو دوائر التنفيذ مما يترك أثراً سلبياً عميقاً في نفسية الطفل ، ويعيق في الوقت ذاته تحقيق الهدف من رؤيته فقد أصدرتُ تعميماً قبل بضع سنوات بتخصيص مراكز في جمعيات محددة في كل محافظة لاستقبال الأطفال ومستحقي المشاهدة فيها ، ونظراً لأهمية اختيار مكان المشاهدة فقد جاء في المادة (186) من مشروع القانون [ ينشأ في كل محكمة بيتاً للضيافة يخصص لمشاهدة الصغار تحت إشراف القاضي الشرعي ] ، ولحين صدور القانون وتنفيذ هذه المادة فقد كان العزم معقوداً عندي على تخصيص مقر قسم الإرشاد والإصلاح الأسري في المحكمة الشرعية لهذه الغاية .
أما سن الحضانة فهو من المسائل الاجتهادية التي اختلف فيها العلماء تبعاً للعرف السائد في مجتمعاتهم ، وقد استرشد مشروع القانون في تحديده بقول المالكية الذين يرون أن حضانة البنت تنتهي بالزواج انظر حاشية الدسوقي 2/526 ، وبرأي الشافعية الذين قالوا إن الحضانة تنتهي بالتمييز ثم يُخَيَّرُ الصغير بعدها انظر المهذب للشيرازي 2/171 ، فإن اختار الأبوين معاً أُقْرِعَ بينهما ، وإن امتنع عن اختيار أحدهما فالأم أولى استصحاباً للأصل وهو أحقِّيِّتها بالحضانة ، لذا فقد نصت المادة (175) في فقرتها الثانية على أن للقاضي بناء على الطلب والدعوى الحكم باستمرار [ حضانة الأم التي حبست نفسها على تربية وحضانة أولادها إلى سن الرشد ] .
جاء هذا النص حرصاً على مصلحة الطفل لأنه بأمس الحاجة إلى رعاية الأم وتوجيهها ومتابعتها وحمايتها العاطفية والنفسية ؛ وبالأخص في هذا الزمان الذي كثرت فيه المؤثرات المتناقضة في شخصية الطفل ، إضافة إلى أن نزع الأطفال من حضانة الأم في سن مبكرة يؤدي إلى مشكلات نفسية واجتماعية معقدة ، منها مثلاً أن الصغير سيكون عند زوجة الأب أو الأخ أو العم حقيقة ؛ ولا يمكن أن تكون هذه أولى بالصغير من أمه ، ومنها أن الأطفال أحياناً يُنزع من حضن أمه ويلقَى به في مؤسسات رعاية الأيتام ؛ ولا يمكن أن تكون هذه المؤسسات أحرص على مصلحة الصغير وعلى تربيته من أمه ، وفوق ذلك فإن الآباء اليوم منشغلون بأعمالهم عن دورهم التربوي تجاه الأطفال وتتولاه الأم وحدها .
5- ضم الأنثى : حماية للمرأة من تحكّم الولي البعيد أو كيده بها ، وبسبب تفاوت شفقة الأولياء على المرأة حسب الجهات والدرجات ، ولتقصيرهم تبعاً لذلك في رعايتها وتأمين حقوقها ، فقد جاء في المادة (182) من مشروع القانون [ للولي المحرم حتى الدرجة الثانية من القرابة النسبية أن يضم إليه الأنثى البكر التي لم تبلغ الأربعين إذا كانت غير مأمونة على نفسها ما لم يقصد بالضم الكيد والإضرار بها ] .
ليس في ضم المرأة إلى وليها أي مساس بمكانتها الاجتماعية أو انتقاص لشخصيتها واعتبارها الإنساني ؛ وإنما فيه حرص بالغ على كرامتها وتأمين حقوقها ، يضاف إلى ذلك أن امتناعها عن الانضمام إليه ليس مسقطاً لنفقتها ، فنحن نعلم أن نفقة المرأة الفقيرة واجبة على وليها ولا تسقط عنه إلا إذا امتلكت المال الذي تنفق منه على نفسها ، أما عدم إثارة هذه المسألة في المحاكم الشرعية نتيجة قوة تأثير الأعراف الاجتماعية فلا يعني أن ليس لها حل في الشرع أو القانون .
6- نظراً لما تتعرض له المرأة في مجتمعنا الفلسطيني من حرمانها حقوقها الإرثية ، وبسبب ما يقوم به بعض الناس من تحايل على النصوص الشرعية للتهرب من إعطائها إرثها ؛ لئلاَّ يؤول إلى زوجها وأبنائها فليجأون إلى إقناعها بالتخارج الشكلي ، وهو بيع حصصها الإرثية مقابل ثمن بخس أو بلا مقابل غالباً فقد شدد مشروع القانون على شروط التخارج جاء في الفقرة الثانية من المادة (206) [ لا يتم التخارج بين الورثة إلا بعد علم كل وارث لحصصه الإرثية في تركة مورثه علما تاماً نافياً لكل غبن وجهالة وتحديدها عن باقي حصص الورثة ] .
ومثل التخارج الوقف الذُّرِّيّ ؛ حيث يلجأ بعض الناس إلى وقف أموالهم على الذكور من ذرياتهم فقط ، واستناداً إلى بطلان الشروط إذا عارضت أحكام الشرع وخالفت فرائض الله تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم { ... ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط ... } رواه البخاري ، وبناء على الفهم الدقيق للقاعدة الفقهية [ شرط الواقف كنص الشارع ] الذي بينه العلاَّمة ابن القيم بأن شرط الواقف إذا كان مخالفاً لحكم الله ورسوله فهو حري بالإبطال ، لأن مثل هذا الوقف سيترتب عليه قطع ما أمر الله به أن يوصل بسبب هذا الشرط الفاسد مما يجعله باطلاً من أصله غير منعقد انظر إعلام الموقعين لابن القيم 1/237 ، لكل ذلك فقد جاء في المادة (212) من مشروع القانون [ يمنع تسجيل أية حجة وقف ذري تخالف أحكام الفريضة الشرعية ] .
7- الوصية الواجبة : أخذت قوانين الأحوال الشخصية في بعض الدول العربية بالوصية الواجبة ، وهو قول الظاهرية الذين يوجبون الوصية للأقارب إن لم يكونوا من الورثة انظر المحلى لابن حزم 8/353 ؛ وقد استندوا إلى قوله تعالى { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ } البقرة 180
رأى فريق كبير من العلماء المعاصرين أن أبناء المتوفَّى في حياة أبيه أحق الأقارب بالوصية في ميراث جدهم أو جدتهم ؛ حيث اجتمع لهم اليتم والحجب من الميراث ؛ بالإضافة إلى ما يسود اليوم من تقصير أقاربهم في صلتهم وبرهم وإحاطتهم بالحنان والرعاية والكفالة ، لكن القوانين اشترطت لهذه الوصية شروطاً محددة ومنصوصاً عليها في موادها .
بدأ العمل بالوصية الواجبة في فلسطين عام 1976 في المحافظات الشمالية (الضفة الغربية) ، وأخذ بها مشروع القانون ؛ إلاَّ أنه ساوى بين أبناء البنت وأبناء الابن في هذه الوصية ؛ وحصرها في الطبقة الأولى منهم فقط باعتبار أنها ليست ميراثاً ، جاء في المادة (208) من مشروع القانون [ إذا توفي شخص وله أولاد ابن أو بنت مات قبله وجب لهم في ثلث تركته الشرعية وصية بالمقدار والشروط التالية ... ] .
الشيخ الدكتور تيسير التميمي قاضي قضاة فلسطين/رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت