مهلاً يا قوم ..فالبقيةُ من الخير باقيةٌ ، والله هو الحفيظ..!

بقلم: الشيخ ياسين الأسطل


الصلاحُ هو السابقُ على كل فساد ، والإصلاح هو الملاحِقُ لكل إفساد ، وهذا ما قرره القرآن الكريم ، ونطقت به السنة المطهرة ، وقامت عليه شواهد التاريخ ، ولكن الفساد والإفساد يوجد في غفلةٍ و ضعفٍ من الناس ، على أنه لا يزال في الأمة من يقوم بالتوجيه والبيان ، يحتسب الأجر من الله لا من خلقه ، كما لا يزال فيها ما يُقَوِّمُ الاعوجاج ، ويقطع اللَّجاج ، فيتعلم الجاهل ، ويتذكر الناسي ، ويُكبَتُ المُبطِل ، ويفرحُ المحزون ، فالحقُّ أحقُّ أن يُتَّبَع ، والحكمةُ ضالَّةُ المؤمن ، أنى وجدها فهو أحقُّ بها ، فالبَقِيَّةُ من الخير والصلاح والإصلاح باقيةٌ ، وأولو البقية باقون قولاً وعملاً ، ولكن بالتي هي أحسن ، فمهما ارتفع الظلمُ فهو إن شاء الله مُتَّضِع ، ومهما اتضع العدلُ فهو بفضل الله مرتفع ، والناسُ مابين غالٍ في الحقِّ وجافٍ عنه ، والصواب الوسطُ بين الأمرين والعدلُ ، فبالله عليك يا أيها المستعجلُ للخير مهلاً مهلا ، ويا أيها المُتباَطِئُ قد انبسط الدربُ فاتْبَعْ وسِرْ سَهْلاً فَسَهْلا ، وأنت يا أيها المُسْتَعْلِي معجباً برأيك لتتقِ الله ، أنت بإخوانك ، رويدَك بعضَ قولك فالله أجلُّ منك وأعلى ، ويا أيها الداعي إلى الله اصبر على صراط الله ، واتق فهو بك أحرى وأولى ، ولنذكر ولنتذكر جميعاً ما قال جل وعلا : { وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) } .
قال الإمام عبد الرحمن بن ناصر السعدي في تفسيره [ تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ] : ( لما ذكر تعالى، إهلاك الأمم المكذبة للرسل، وأن أكثرهم منحرفون، حتى أهلِ الكتب الإلهية، وذلك كله يقضي على الأديان بالذهاب والاضمحلال، ذكر أنه لولا أنه جعل في القرون الماضية بقايا من أهل الخير يدعون إلى الهدى، وينهون عن الفساد والردى، فحصل من نفعهم ما بقيت به الأديان، ولكنهم قليلون جدا وغاية الأمر، أنهم نجوا، باتباعهم المرسلين، وقيامهم بما قاموا به من دينهم، وبكون حجة الله أجراها على أيديهم، ليهلك من هلك عن بيِّنة ويحيا من حيَّ عن بيِّنة { وَ } لكن { اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ } أي: اتبعوا ما هم فيه من النعيم والترف، ولم يبغوا به بدلا.{ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ } أي: ظالمين، باتباعهم ما أترفوا فيه، فلذلك حق عليهم العقاب، واستأصلهم العذاب. وفي هذا، حث لهذه الأمة، أن يكون [ ص 392 ] فيهم بقايا مصلحون، لما أفسد الناس، قائمون بدين الله، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، ويبصرونهم من العمى، وهذه الحالة أعلى حالة يرغب فيها الراغبون، وصاحبها يكون، إماما في الدين، إذا جعل عمله خالصا لرب العالمين ) اهـ .
إخوة الإسلام والإيمان: وجاء أيضاً يا عباد الله قول الله تعالى في سورة هود :{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) }.
قال الإمام المفسر أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي في تفسيره [ النكت والعيون ] : ( .. قوله عز وجل : { بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين } فيها ستة أقاويل :أحدها : يعني طاعة الله تعالى خير لكم ، قاله مجاهد . الثاني : وصية من الله ، قاله الربيع .الثالث : رحمة الله ، قاله ابن زيد .الرابع : حظكم من ربكم خير لكم ، قاله قتادة .الخامس : رزق الله خير لكم ، قاله ابن عباس .السادس : ما أبقاه الله لكم بعد أن توفوا الناس حقوقهم بالمكيال والميزان خير لكم ، قاله ابن جرير الطبري ) اهـ .
عباد الله ، يا أهل التوحيد : الله جل وعلا يحفظ دينه ، * ومن حفظه لدينه أنه يحفظ النبي صلى الله عليه وسلم وأمته هذه الأمة الإسلامية ، فهم عباده الموحدون الذين يعبدونه وحده ولا يشركون به شيئا ، يدل عليه قوله جل شأنه في سورة الحجر:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) }. قال الإمام أبو عبد الله محمد القرطبي في [ الجامع لأحكام القرآن ] :( ..قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} يعنى القرآن. {وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ} من أن يزاد فيه أو ينقص منه. قال قتادة وثابت البناني: حفظه الله من أن تزيد فيه الشياطين باطلا أو تنقص منه حقا، فتولى سبحانه حفظه فلم يزل محفوظا، وقال في غيره:" بِمَا اسْتُحْفِظُوا "، فوكل حفظه إليهم فبدلوا وغيروا. - وذكر قصة أحد أحبار اليهود قبل وبعد إسلامه- قال: قرئ على الشيخة العالمة فخر النساء شهدة بنت أبى نصر أحمد بن الفرج الدينوري وذلك بمنزلها بدار السلام في آخر جمادى الآخرة من سنة أربع وستين وخمسمائة، قيل لها: أخبركم الشيخ الأجل العامل نقيب النقباء أبو الفوارس طراد بن محمد الزيني قراءة عليه وأنت تسمعين سنة تسعين وأربعمائة، أخبرنا على بن عبد الله بن إبراهيم حدثنا أبو على عيسى بن محمد بن أحمد ابن عمر بن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المعروف بالطومارى حدثنا الحسين بن فهم قال: سمعت يحيى بن أكثم يقول: كان للمأمون- وهو أمير إذ ذاك- مجلس نظر، فدخل في جملة الناس رجل يهودي حسن الثوب حسن الوجه طيب الرائحة، قال: فتكلم فأحسن الكلام والعبارة، قال: فلما أن تقوض المجلس دعاه المأمون فقال له: إسرائيلي؟ قال نعم. قال له: أسلم حتى أفعل بك وأصنع، ووعده. فقال: ديني ودين آبائي! وانصرف. قال: فلما كان بعد سنة جاءنا مسلما، قال: فتكلم على الفقه فأحسن الكلام، فلما تقوض المجلس دعاه المأمون وقال: ألست صاحبنا بالأمس؟ قال له: بلى. قال: فما كان سبب إسلامك؟ قال: انصرفت من حضرتك فأحببت أن أمتحن هذه الأديان، وأنت مع ما تراني حسن الخط، فعمدت إلى التوراة فكتبت ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت، وأدخلتها الكنيسة فاشتريت منى، وعمدت إلى الإنجيل فكتب ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت، وأدخلتها البيعة فاشتريت منى، وعمدت إلى القرآن فعملت ثلاث نسخ وزدت فيها ونقصت، وأدخلتها الوراقين فتصفحوها، فلما أن وجدوا فيها الزيادة والنقصان رموا بها فلم يشتروها، فعلمت أن هذا كتاب محفوظ، فكان هذا سبب إسلامي. قال يحيى بن أكثم: فحججت تلك السنة فلقيت سفيان بن عيينة فذكرت له الخبر فقال لي: مصداق هذا في كتاب الله عز وجل. قال قلت: في أي موضع؟ قال: في قول الله تبارك وتعالى في التوراة والإنجيل:" بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ"، فجعل حفظه إليهم فضاع، وقال عز وجل:" إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ" فحفظه الله عز وجل علينا فلم يضع. وقيل:"وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ" أي لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أن يتقول علينا أو نتقول عليه. أو{وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ} من أن يكاد أو يقتل. نظيره: { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ }..) اهـ .
عباد الله أيه المؤمنون :* ومن حفظ الله لدينه وعباده ما روى ابن ماجة والإمام أحمد واللفظ لابن ماجة قال : حَدَّثَنَا أَبُو عَبْد اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ حَدَّثَنَا الْجَرَّاحُ بْنُ مَلِيحٍ حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ زُرْعَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عِنَبَةَ الْخَوْلَانِيَّ وَكَانَ قَدْ صَلَّى الْقِبْلَتَيْنِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( لَا يَزَالُ اللَّهُ يَغْرِسُ فِي هَذَا الدِّينِ غَرْسًا يَسْتَعْمِلُهُمْ فِي طَاعَتِهِ ) اهـ .
و لا يجوز في الشريعة يا عباد الله أن يقول قائلٌ : ( هلك الناس ) ، بينما هو يزكي نفسه ومن معه من حزبه من دون الناس ، فقد روى الإمام مالك في الموطأ ومسلم في الصحيح وأبو داود والترمذي في سننهما وأحمد في المسند الحديث قال الإمام مسلم: ( بَاب النَّهْيِ عَنْ قَوْلِ هَلَكَ النَّاسُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح و حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِذَا قَالَ الرَّجُلُ هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ " اهـ .
ومن يزكي نفسه وحزبه دون المسلمين فهذا العمل من خطوات الشيطان ، وإن الله تعالى يقول في سورة النور :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)}.
فلنكن يا عباد الله من هذا الغرس الذين يستعملهم الله في طاعته برحمة عباده وتطهير بلاده ، فطوبى لمن كان الخير على يديه ، والويل لمن كان الشر على يديه ، ولنتب التوبة النصوح ، ولنجتنب السبيل الذي سالكه مفضوح ، يا أهل فلسطين : قد كنا مضرب مثل الخير والقدوة في الأعمال الصالحات وشتى أنواع المجاهدات ، وأضحينا مضرب مثلٍ للشر في الاختلافات والمخالفات ، فلنتق الله ولنراجع أنفسنا في لم شملنا ، واجتماع كلمتنا ورص صفوفنا ، والتحابب والتعاون على الخير و الأخلاق الفضيلة ، والبعد عن الشر والأخلاق الرذيلة ، فأهل الإسلام هم أهل الاتباع للسنة والجماعة ، وحسن السمع لولي الأمر والطاعة و ما أحرانا ونحن على الله قادمون ، وبين يديه بما عملنا مجزيون ، فمن أحسن فله حسنُ الثواب إحساناً ورضوانا ، ومن أساء فله بالإساءة ما يكفيه ذلاً وخسرانا ، ما أحرانا أن نلزم طريق الأولين ، الناجين من أوضار المعاصي والذنوب ، وأن نجتهد ونجهد أنفسنا في النصح والتذكير لجميع الناس من عامة المسلمين وخاصتهم ، ليَصْبِرُوا أنفسهم على سبيل المؤمنين ، الذين هم السواد الأعظم ، أهل السنة والجماعة منذ عهد الآل والأصحاب ومَنْ بعدَهم ، ومِن بعدِهم إلى يومنا هذا ، الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ، فلا تعد أعينهم تريد الحياة الدينا وزينتها ، اتباعاً للأهواء ، وتنكباً للسبيل الغراء ، فيا إخواننا : دونكم السنةَ والسبيلَ والكتاب ، وإياكم والبدعةَ والتفرقَ في الدين كالأحزاب ، الله الله في دينكم ودنياكم ، وإياكم وأصحاب المثالب والعيوب ، الذين يبهتون الأولين السابقين ، ممن يلعنون ويسبون المسلمين من السلف من الصحب الصالحين ، والخلف المهتدين ، .. فإن هذا لا إصلاح فيه لدنيانا ، بل هو فساد أولانا وأخرانا ، و ومالها من دون الله من واقية .
يا إخواننا المختلفين : البقية الباقية ..البقية الباقية ، أتموا صلحكم وأوفوا بعهد الله عند بيته الحرام ، وأعطونا ما حملناكم من الأمانات العظيمة ، في الدين والدنيا ، في مسجدنا وقدسنا والمسلمين وسائر الرعية ، لا تتبادلوا السيئ من القول والكلام عبر وسائل الإعلام ، فدين الله أعظم ، وفلسطين أكبر ، والمسئولية عظيمة ، ونحن جميعاً أهلها ، أنتم لستم وكلاء الله علينا لا ديناً ولا وطنا ، وإنما أنتم وكلاء الأمة ، فإن لم تفعلوا فإن حسبنا وحسبكم الله وحده لا شريك له فانتظروا وارتقبوا إنا منتظرون ومرتقبون.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت