من يصنع هؤلاء؟

بقلم: محمد السودي


لكل ظاهرة اجتماعية خصوصية معينة لا يمكن تطابقها مع التجارب الاخرى عبر التاريخ الانساني ، بينما تتوفر سمات مشتركة عامة في كل الاحوال ترتبط بالواقع الاجتماعي الذي يكون الوعي الجمعي انعكاسا له ، اما قياس نجاح او اخفاق عملية التطور اذا ما نضجت الظروف الموضوعية والذاتية للتحولات الكبرى مردّه اساسا الى عدم المبالغة بالخصوصية الوطنية على حساب المبادئ العامة ، وبالتالي يبرز هنا دور القوى المحركة العامل الحاسم وكذا طبيعة الاهداف المرسومة المراد انجازها من خلال المنظومة السياسية والتنظيمية العملية يضاف اليها الاشكال والاساليب المساعدة ، ثم القراءة الواقعية للامور التي لا ينبغي ان يشوبها عيوب جوهرية ، من اجل ضمان ديمومتها ، في حالة الحركة الوطنية الفلسطينية تفردّت عن غيرها من اخواتها بفعل الواقع الاستعماري القديم ادى الى تهجير الجزء الاكبر من اصحاب الارض الحقيقيين خارج وطنهم الاصلي فلسطين جراء الظلم التاريخي الذي وقع على شعبها واقامة كيان دخيل يشكل رأس الحربة للدفاع عن المصالح الرأسمالية الغربية وضرب حركات التحرر العربية الناشئة حينها ، هكذا انطلقت الثورة الفلسطينية المعاصرة كنتيجة حتمية لاستعادة حقوق الشعب الفلسطيني المسلوبة وتقرير مصيره بنفسه وعودة لاجئيه الى ارضهم وديارهم التي شردوا منها الى المنافي البعيدة والشتات .

لاشك ان المسار الوطني الفلسطيني واجه انعطافات حادة حرفته عن الاهداف المشروعة للشعب الفلسطيني ادت به الى توقيع اتفاق مليء بالعيوب والنواقص سواء كان ذلك ممرا اجباريا لا بد منه كما يراه البعض ، او انه مبرر للتنازل حسب وجهة نظر اخرين ، بغضّ النظر عن مواقف الاطراف المختلفة ظلّت القضية الفلسطينية محور اهتمام العالم بكونها مفتاح السلم والحرب في المنطقة ، تجاوزت خلالها المقولات الصهيونية التي تتنكر للحقوق الفلسطينية ، واضحى من المسلمات قبول الدولة الفلسطينية المستقلة بعاصمتها القدس لكن عملية الصراع تزداد حدّه باشكال متعددة يحاول كيان الاحتلال من خلالها تكريس سياسة الامر الواقع في ظل انشغال العالم العربي بالتحولات الجديدة ، وايضا مرارة الانقسام الاسود الذي جعل القضية الفلسطينية تتراجع عقود الى الوراء .

ان المشهد الفلسطيني المأزوم لا يخلو من المفاجآت غير البريئة تندرج في اطار سلسلة الفضائح السياسية ذات العيار الثقيل التي من شأنها احداث حالة من الارباك وخلط الاوراق وصرف الانظار عن القضايا الجوهرية للصراع الرئيس مع الاحتلال ، حيث يطلّ علينا بين الفينة والاخرى احد الرؤوس المصطنعه كي يدلي بدلوه المليء بالقاذورات التي تربى على ارصفتها لينضح ما بداخله من روائح كريهة لعلّها تدنس طهارة قضية شعب بأكمله عانى ويلات الاحتلال وظلم ذوي القربى وتجاهل المجتمع الدولي ، هؤلاء شاءت الاقدار ان يكونوا من اصحاب القرار النافذ المطلّعين على كل شاردة وواردة ضمن الدائرة الضيقة بشكل يتجاوز كل ماهو مألوف ، إذ لا يعلم الا الله وحده كيف استطاع هؤلاء تخطي كل الحواجز التي مكنتّهم من التموضع داخل القرار الفلسطيني ، بل تعدى ذلك الى ان اصبحوا جزءا لا يتجزأ من المطبخ السياسي الذي يقرر اتجاهات البوصلة السياسية للمشروع الوطني ، طالما غابت المؤسسات الفلسطينية عن دورها المصادر الا من حالات الاستخدام واضحى الحال الذي هو عليه ، لم يخضع هؤلاء للانظمة والقوانين الداخلية التي تحتم عليهم المرور بالتدرج التنظيمي ولا يملكون الامكانيات الخارقة بحيث تجعلهم من عداد الافراد الاستثنائيين في التاريخ كما يحصل عادة اثناء الطفرات الاجتماعية الاقتصادية الفاصلة التي مرت بها الشعوب حتى يكون لهم دور الضرورة الانسانية الانتقالية من مرحلة لاخرى ، بل وجدوا الطريق سالكة امامهم للوصول الى مبتغاهم دون عناء يذكر ثم اضحوا محط اهتمام كبير ومراكز استقطاب لقيادات وكوادر لها وزنها النضالي المشهود له دفعتهم الحاجة الى احضان هؤلاء للاستعانة بهم على قساوة الحياة ومتطلباتها الكثيرة ، لكن احدا لم يسأل عن الكيفية التي جمعوا بها الثروات الطائلة ومصادرها وكذلك الاهداف الكامنة وراء استخدام الاموال الا بعد فوات الاوان .

خلال مسيرة الثورة الفلسطينية المعاصرة برزت اسماء لامعة يعرفها الكثيرين من المناضلين الذين لا زالوا على قيد الحياة لديها الموهبة والمقدرة في مجالات عديدة خاصة ما يتعلق ببلاغة الخطاب الشعبوي بالاضافة الى الخصال الحميدة التي لا يمتلكها الانسان العادي التلقائي ، لكن خلفيات هؤلاء السياسية والاجتماعية كانت غامضة الى حد كبير ، يعرفون كيف يسيطرون على مشاعرهم يلبسون ثوب التواضع المفرط بما يتلائم وسيكولوجية العامة من الناس ، تبوأ بعضهم المواقع المتقدمة للاطر الوطنية الفلسطينية بمختلف مشاربها واطيافها السياسية ، الكثير منهم تم اعدادهم من قبل دوائر الاستخبارات الاسرائيلية والدولية والغربية التي رسمت لهم اهداف استراتيجية خطيرة ومختلفة لا زالت آثارها ماثلة للعيان ، حيث نشأت هذه الظاهرة مع البدايات وتطورت وفقا لطبيعة كل مرحلة من المراحل ، منها ما يتعلق باستهداف منظمة التحرير الفلسطينية الكيان والهوية الوطنية وخلق بدائل لها ، هذه المحاولات مستمرة باشكال وطرق متعددة ، وايضا تكريس نهج الانشقاقات ثم الانقسام التي اثبتت الوقائع بالملموس انها جزء اصيل من عمليات استخبارية محكمة مصادرها دوائر خارجية تستند الى الادوات الداخلية المنفذّة وما غضب حكومة الاحتلال وتهديداتها خشية استعادة الوحدة الوطنية وانهاء الانقسام سوى تعبير حي عن ضلوعها المباشر بتغذية الانقسام وادامته بما يمكنها من تنفيذ مخططاتها الاستعمارية الاستيطانية ، وايضا تشمل مهمات هؤلاء اغتيالات قادة ورموز العمل الوطني اضافة الى مهمات توفير المعلومات التقليدية ، ثم توسع نطاق الاختراقات عاموديا وافقيا لقاء تسهيلات معينة تمس مباشرة حياة المواطن مثل الحصول على جواز سفر والمرور دون منغصات وغيرها الكثير من المفردات العمول بها على اكثر من صعيد .

يذكر الكثيرون كيف كان احد القادة المهمين الذي تنقل من فصيل لاخر عندما تم اكتشاف امره واعترف نفسه بذلك ، واوكلت له مهمات عديدة ساهم فيها بشكل رئيس من قبل جهاز مخابراتي عربي كيف اوقع الصدمة لدى شعبنا في مخيمات لبنان حيث لم يصدق احد ان هذا الرجل الملاك يمكن ان يكون له ارتباطات مشبوهة بل ذهب العديدون الى اعتبار وجود مؤامرة تستهدفه ، ثم توالت الوفود المؤلفة من اللجان الشعبية للمخيمات آنذاك تطالب باطلاق سراحه ، لكن الامر لم يكن يتعلق بقضية سهلة يمكن التغاضي عنها ، والغريب فعلا ان قضية هذا العميل انتهت بشكل درامي اذ قصفت الطائرات الاسرائيلية المكان الذي كان يحتجز به اثناء اجتياح العاصمة اللبنانية بيروت ، واستطاع الهروب من تحت الانقاض .

ان هذه الظاهرةتشكل تحديات كبيرة امام فصائل العمل الوطني والمؤسسات الفلسطينية جميعا لما لها من اثر بالغ الخطورة على مستقبل القضية الفلسطينية وبالتالي لا بد من اعادة النظر بالطرق القديمة التي يتم فيها الاستقطاب ووضع صيغ مناسبة والتعلم من تجارب الماضي لان الوضع الفلسطيني لا يحتمل مفاجآت اخرى تزيد من حالة الاحباط والواقع المأزوم ....

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت