تردد في الآونة الأخيرة خبر في وسائل الإعلام حول اتفاق بين كل من إٍسرائيل والفاتيكان على إخضاع المقدسات المسيحية في القدس للسيادة الإسرائيلية ؛ في خطوة تعني إعلان حرب صليبية جديدة من الفاتيكان ضد مدينة القدس ومقدساتها الإسلامية والمسيحية التي هي ملك للشعب الفلسطيني مسلميه ومسيحييه ، يؤكد ذلك أن الخليفة عمر بن الخطاب يوم فتحها ألزم المسلمين الدفاع عنها .
إن هذا الاتفاق يشكل مساساً بمكانة المدينة المقدسة ، وخطوة سياسية خبيثة تهدف إلى شرعنة احتلالها وتهويدها ، وإخلالاً ببنود العهدة العمرية التي تحرم مثل هذا الاتفاق حسب طلب صفرونيوس بطريرك القدس آنذاك ، ومخالفة صريحة لقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي التي نصت على أن القدس مدينة محتلة ، وأبطلت كافة التغييرات التي نفذتها وتنفذها سلطات الاحتلال الإسرائيلية فيها .
إن هذا الخبر يعتبر تفسيراً واضحاً لموقف الفاتيكان الغاضب من كلمتي أمام البابا في القدس قبل ثلاث سنوات ، ففي شهر أيار عام 2009 كان البابا بنديكت السادس عشر في زيارة للأراضي الفلسطينية المحتلة ، ويفترض أن تكون هذه الزيارة رحلة دينية للحج ، ولكن الاحتلال الإسرائيلي جعل منها زيارة سياسية بامتياز لتحقيق مكاسبه ، فبتاريخ 11/5/2009 دعيتُ للمشاركة في جلسة للحوار بين أتباع الأديان الثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلام بحضور البابا ألقيت أثناءها كلمة في استقباله ؛ تضمنت الترحيب به باعتباره من أعلى المرجعيات المسيحية في العالم التي تزور فلسطين ، وأكدت العلاقة المتميزة والتعايش المشترك بين المسلمين والمسيحيين في هذه الديار المقدسة ، ونقلت إليه معاناة الشعب الفلسطيني جراء ممارسات الاحتلال القمعية وعدوانه ضد البشر والأرض والمقدسات .
لكن يبدو أن هذا النوع من الحوار لا يرغب بسماع الحقيقة ، بل يريد أن يصم أذنيه عنها ، فقد طُلِبَ مني ألاَّ أتكلم ، كيف ذلك ونحن في جلسة لحوار الأديان أنا المسلم الوحيد فيها ، فهل من المنطق ألاَّ تكون لي كلمة ؟ هل تكون مشاركتي في الحوار بمجرد الصمت والاستماع ! هل الحوار فقط أن نتلقَّى ما يملى علينا من غير أن نبدي رأينا ونبين ما عندنا !
تحدثتُ في هذا اللقاء باسم المسلمين ، فإذا لم أتحدث بالحقيقة الساطعة ، وإذا لم أفضح الجرائم البشعة والعدوان الإرهابي الذي وقع على شعبي ومعاناته من ممارسات الاحتلال واعتقال الآلاف من أبنائه رجالاً ونساء وأطفالاً ظلماً وعدواناً ، وانتهاك مقدساته وتدنيس حرماته فسأكون قد قصرت تقصيراً كبيراً في أداء رسالتي الوطنية والدينية .
وإمعاناً في سياسة تكميم الأفواه حاول كثيرون منعي الحديث ، وإسكات صوتي والتشويش علي ؛ مما اضطرني إلى أن أصدع بالحق عالياً ليرتفع فوق محاولات المنع والإسكات وليصل إلى الآذان والأسماع ، وهذا نص كلمتي كاملاً :
[ أرحب بقداسة البابا في مدينة القدس عاصمة دولة فلسطين السياسية والوطنية والروحية ، مسرى محمد صلى الله عليه وسلم ، ومهد المسيح عيسى عليه السلام .
فتحها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه خليفة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم المبعوث رحمة للعالمين دون أن تراق فيها قطرة دم واحدة ، وكتب وثيقة الأمن والسلام "العهدة العمرية" استناداً إلى التعاليم التي أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم ، وأرسى أسس العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين فأمن المسيحيين على كنائسهم وصلبانهم وأموالهم وأنفسهم وحرية عباداتهم ، ونحن نسير على هديها في علاقة متميزة نفاخر بها العالم ، فنناضل معاً ونعاني معاً إجراءات الاحتلال الإسرائيلي التعسفية وظلمه ، ونتطلع معاً إلى الحرية والاستقلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها الأبدية القدس بمقدساتها أرض النبوات ومهبط الرسالات ومهد الحضارات .
حررها صلاح الدين الأيوبي من الغزاة المحتلين بجيشه الذي ضم المسلمين والمسيحيين جنباً إلى جنب ، واستمرت رمزاً للتسامح والسلام حتى سقطت تحت الاحتلال الإسرائيلي عام 67 ، فضمها إلى كيانه متحدياً الشرائع الإلهية ومدنساً لمكانتها الروحية والأعراف والقوانين الدولية ، وتنكر لكل القيم الإنسانية :
* فهدم البيوت وشرد أهلها وصادر عشرات آلاف الدونمات من أراضيها فأقام عليها المستوطنات لإسكان الغرباء المحتلين بعد أن طرد أهلها الأصليين منها .
* وعزلها بجدار الفصل العنصري الذي حولها إلى سجن كبير .
* ومنع المسلمين والمسيحيين من دخولها والصلاة في كنائسها ومساجدها
* وأجرى الحفريات تحت أساس المسجد الأقصى المبارك بقصد هدمه وتدميره لإقامة الهيكل المزعوم مكانه ، وأقام الكنس في محيطه ، وسرق الآثار الإسلامية ونبش قبور الموتى .
* واعتدى بالضرب على على المصلين والرهبان في كنيسة القيامة في عيد الفصح
* وانتهك حرمة السبت حينما استغل فتوى الحاخامات بقتل الأطفال والنساء والشيوخ وهدم عشرات المساجد وآلاف البيوت على أهلها ودمر المشافي والمؤسسات التعليمية في حربه القذرة على قطاع غزة في انتهاك صارخ لحقوق الإنسان لم يسبق له مثيل في هذا العصر ، واهتز له كل صاحب ضمير حي .
قداسة البابا
وبصفتي رئيس الهيئة الإسلامية المسيحية لنصرة القدس ومقدساتها والمنتخب من كل قياداتها الإسلامية والمسيحية ؛ أناشدكم باسم الله الواحد الأحد الفرد الصمد إدانة هذه الجرائم والضغط على الحكومة الإسرائيلية لوقف عدوانها على الشعب الفلسطيني ، وإطلاق سراح آلاف المعتقلين من زنازين الاحتلال ، وهدم جدار الفصل العنصري وإزالة المستوطنات ، وإعادة الأراضي المصادرة إلى أهلها ، ووقف هدم المنازل في القدس وتهجير أهلها ، لتحقيق السلام العادل الذي يعيد الحقوق إلى أهلها ، والاعتراف بكامل حقوق الشعب الفلسطيني في نيل الحرية والاستقلال وعودة اللاجئين إلى ديارهم التي هجروا منها ، وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف .
إن نجاح الحوار بين أتباع الديانات يقتضي إدانة أي إساءة إلى نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم ، أو إلى الدين الإسلامي وسائر الأنبياء والرسل والكتب السماوية التي أنزلها الله عليهم
أكرر ترحيبي بكم في مدينة القدس محور معجزة الإسراء والمعراج ، والتي هي جزء مهم من عقيدة مليار ونصف مسلم ، وأكثر من ملياري مسيحي في هذا العالم ، فيتوجب عليهم جميعاً الدفاع عن مكانتها وهويتها ]
أثارت هذه الكلمة ردود فعل غاضبة لدى إسرائيل لأنها فضحت جرائمها البشعة ضد الشعب الفلسطيني الصابر المصابر في أرضه ، وبدا الغضب للمجتمع الدولي كله ، ونقلته وسائل الإعلام ونشرته حول العالم ، فعلى سبيل المثال :
* نقلت وكالة "معا" الإخبارية الفلسطينية بتاريخ 12/5/2009 أن وزارتي الخارجية والسياحة الإسرائيليتين أصدرتا بياناً مشتركاً ينص على أن إسرائيل تشجب أقوالي بشدة وتصفها بأنها تتسم بالحقد وتعمل على بثِّ الذعر والكراهية بين الإسرائيليين والفلسطينيين وبين اليهود والمسلمين والمسيحيين . وهذا ليس مستغرباً على إسرائيل ، فقد اعتاد المجتمع الدولي نهجها في قلب الحقائق واختلاق الأكاذيب وممارسة التعتيم الإعلامي لتضليل العالم .
* ونقلت الوكالة ذاتها قرار المدير العام للحاخامية الكبرى الإسرائيلية عوديد فينر بأن الأعضاء اليهود لن يشاركوا بعد الآن في الحوار بين الأديان الثلاثة القائم منذ فترة طويلة إلى أن أمنع حضور جلساته ، وقال [ الحاخامية الكبرى لن تواصله ما دام التميمي جزءاً من الوفد الفلسطيني ] .
* بل بلغ بهم التدخل في الشأن السيادي الفلسطيني أكثر من ذلك ، فبتاريخ 12/5/2009 نقل الاتحاد الكاثوليكي العالمي للصحافة عن وكالة رويتر تأكيد الحاخامات الإسرائيليين أنهم سيقاطعون منتدى الحوار ما لم يتم عزلي من منصبي .
* وفي تاريخ 18/5/2009 أي بعد عدة أيام من إلقاء كلمتي أمام البابا نشرت وكالات الأنباء من بينها شبكة فلسطين الإخبارية نبأ حول نشر سلطات الاحتلال صوري على المعابر المؤدية إلى مدينة القدس ومداخلها بهدف مضايقتي واعتقالي في حال دخولي مدينة القدس ، وقد اعتقلت سلطات الاحتلال الإسرائيلية فعلاً إحدى الشخصيات الدينية الفلسطينية ، فلما تبين لها أنه ليس الشيخ التميمي أطلقت سراحه .
* أما المواقع الإخبارية ووكالات الأنباء الإسرائيلية الرسمية وغير الرسمية فقد هاجمت كلمتي ونشرت ضدي ما هو أعجب وأغرب من ذلك ، ويمكن لمن أراد الاستزادة الرجوع إلى أرشيفها للاطلاع على مضمون التحريضات والإجراءات التي تدعو سلطات الاحتلال إلى اتخاذها بحقي .
قد يكون غضب إسرائيل من كلمتي متوقعاً ، لكن ردود فعل الناطق باسم الفاتيكان غير متوقعة ، فإذا كان البابا الذي يتمتع بمكانة مرموقة قادماً إلى جلسة الحوار من زيارة عائلة شاليط والنصب التذكاري للمحرقة فلماذا لا يتاح للفلسطينيين إسماعه الحقيقة عن آلامهم لعله يساعد في إنهاء جرائم الاحتلال الإسرائيلي ؟ إن لم يقل البابا لا لجرائم إسرائيل بحق الإنسانية في فلسطين ، وإن لم يكن مستعداً لسماع صوت الحقيقة ، ولتفهم معاناة الفلسطينيين ويلات الاحتلال وبطشه فلمن سيستمع ؟ وإن لم تتبرأ الشخصيات الدينية من جرائم السياسيين والعسكريين فأين العدل في الأرض !
الشيخ الدكتور تيسير التميمي قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت