إلى متى هذا العجز عن الثورة الكاملة؟

بقلم: ماجد الشيخ


تؤكد مجتمعاتنا في مخاضها التاريخي الراهن، مناهضتها المطلقة للاستبداد السياسي، لكنها لم تثبت بعد جدارتها وكفاحيتها في مناهضتها المطلقة للاستبداد الثيوقراطي، من حيث هو الوجه الآخر للاستبداد السلطوي السياسي، على الرغم مما شهدته وتشهده من تقلب أنظمة استبداد طغيانية على السلطة السياسية والسلطة المجتمعية في بلادنا، وفي ما يجاورها من بلاد جرى فيها تنصيب "الفقهاء" أولياء ورعاة لكليات الدولة والدين والسياسة، وكل ما يتعلق بشؤون البلاد و"العباد". كما تجري اليوم محاولات تنصيب المجلس العسكري في مصر، وتحالفه في وقت ما، أو فض هذا التحالف في أوقات أخرى مع قوى دينية، هي الأقرب إلى كونها قوى ثورة مضادة، وتكريسهم رعاة للدولة وأوصياء عليها، على أن خيارات المجتمعات والشعوب اليوم هو التخلص من أنظمة استبداد طغيانية لا التبرير لها، أو الدعوة للحفاظ عليها، تحت ذرائع وشعارات عفا عليها الزمن، أو انكشفت سوءاتها وعوراتها الواحدة بعد الأخرى..

من هنا وجب التأكيد أن الثورة ضد النظام، ليست ولا يمكن لها أن تكون ضد الدولة، وليس بريئا من يذهب إلى إقامة مثل هذا التماهي بين النظام والدولة، ناهيك عن أن ذلك ليس من الصحيح بالمطلق، وهدف القائمين به هو الدفاع عن النظام لا الدولة، لأن النظام الذي يختزل الدولة في شخص زعيمه، وكان قد صادر الدولة وأقصاها أو طوّعها لمصلحة فردية ضيقة أو نخبوية أكثر "تخصيصية"، هذا النظام ليس خليقا بأن يكون دولتيا أو كفؤا لقيادة الدولة، خاصة بعد أن فقدت الدولة الراسخة مؤسساتها لمصلحة نظام تبجيلي، تجميلي، توريثي، وتأجيلي على الدوام، يتخيل أنه أقوى و "أقدس" من الدولة، لذلك كان استسهاله في أن يتجاوز كل منطق حقوقي وقانوني، محلي أو دولي في الاستيلاء واستباحة كل ما يحلو له، أو تزيّنه له مصالحه ومصالح تحالفاته المحلية والإقليمية، وأتباعه وأشياعه من حلفاء طبقيين، أو من طبقات هامشية رثة أدمنت الإيمان بـ "الاستقرار"، فكانت بلطجتها وتشبيحها هي الطريقة الأحادية والدموية المُثلى، لدفاعها عن مصالحها ومصالح نظام يؤمّن الحماية لها.

هكذا جرى إخضاع الدولة وأخذها رهينة لاستبداد طغياني، من قبل نخب سلطوية بونابرتية، ما عادت ترى سوى ذاتها في مرآة الدولة؛ كونها الدولة بنظامها الذي أضحى نظام دولة بلا دولة، بلا شعب، بلا مجتمع، بلا سياسة وبلا قانون وقضاء نزيه. والثورة في هذه الحالة تكون قد استحقت أن تكون تحولا تغييريا للنظام، وليس استبدال نظام بنظام شبيه أو مغاير؛ ولكن من طبيعة ثيوقراطية أو عسكرية أو أمنية، وذلك بهدف استعادة الدولة إلى أحضان الشعب.

الثورة التي نعنيها هنا ليست الفورة أو الهبة غير المنظمة، وليست هي المعنية باستبدال نظام بنظام، نعني بالثورة هنا تلك التي تقلع النظام وتبقي على الدولة، وتخلصها من براثنه. النظام أو الأنظمة ليست وليدة الدول بمؤسساتها الراسخة، كتلك الأنظمة التي لا تكون وليدة مجتمعاتها وشعوبها، فمثل هذه الأنظمة لا تمثل سوى ذاتها والمستفيدين والمنتفعين منها في الداخل وفي الخارج، والهدف الأبرز للثورة هو إعادة تخليق أولويات الدولة ومرجعياتها المدنية الشعبية؛ كدولة مواطنين متساوي الحقوق والواجبات. لذلك فإن طبيعة الثورة ليست سياسية فقط، بل هي إقتصادية وإجتماعية متكاملة ثقافيا، ومتماثلة مع أهداف شعبها وقيمه الوطنية الجامعة.

لقد شرعت ثورات الربيع العربي الأبواب أمام التغيير، لكنها لم تحققه في أي من بلدان هذه الثورات، فهي جميعها بدت وتبدو عاجزة عن إنجاز خطوات التغيير الحقيقية المطلوبة؛ كانعكاس لثورات شعوب ركنت للاستبداد طويلا، في ظل أنظمة كرست ذاتها حارسة على صمت وخوف مجتمعاتها من أي تغيير ممكن أو محتمل، وتحت مقولات ومزاعم وذرائع استقرار مزمن، أدى إلى تجميد وتكلس كل مفاصل الحركة في بلاد هي الأكثر تطلبا واحتياجا للحرية والعدل والتنمية والديمقراطية، واستنقاذ كرامات شعوبها ومجتمعاتها كمواطنين تجمعهم وطنية مجتمعية ودولتية واحدة وموحدة.

ولئن أنهت الثورات ذاك النظام القديم وتلك المحاور التي بناها وتبناها دفاعا عن كينونته ومصالح أطرافه، من دون خدمة مصالح وتطلعات شعوبه، فإنه وإذ لم يتبلور جراء هذه العملية حتى الآن أي شكل جديد لنظام أكثر جدة، فلأن النظام القديم لم يسقط بركائزه السياسية والاجتماعية الطبقية، ولا الاقتصادية الطفيلية حتى، وما زال النظام القديم يعمل، ولكن في ظروف ومعطيات غير مهيأة تماما لاستمرار هيمنته السلطوية المطلقة، وفق ما كانت تعمل سابقا، وعلى الرغم من فقدانه لكل شرعية ومشروعية اتصاله وتواصله مع أسياده من مشغّلي النظام الدولي.

وهنا منبع عجز الثورات عن إحداث التغيير الجذري المنشود لأسباب لها علاقة بغياب قيادة متبلورة ومتماسكة لتلك الثورات، وغياب التحديد الواضح للبرامج السياسية، وضرورة إقامة تحالفات تكتيكية وإستراتيجية محلية، من دون التطلع إلى الخارج كحام ومساند وراع لثورات تتناقض أهدافها وأهداف ذاك الخارج بالكامل، وإن اتفقت في جزئيات هنا أو هناك، أبرزها نقطة التخلص من أنظمة الاستبداد الطغيانية المحلية، وهي مهمة شعوب ومجتمعات هذه البلاد؛ بغض النظر عن اتفاقها أو اختلافها مع قوى الخارج الإقليمي و/أو الدولي. فإلى متى تبقى ثورات شعوبنا عاجزة عن الثورة الكاملة؟.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت