امام المرحلة الحرجة من الصراع التناحري غير المتوازن مع العدو الصهيوني/الأمريكي ، سواء في فلسطين أو في بقية أرجاء وطننا العربي ، فان الشعور بالقلق والتربص ينتاب قطاعات واسعة من أبناء شعبنا الفلسطيني ، في الوطن والشتات إزاء مجرى ما يسمى بالعملية السياسية التي انطلقت من أوسلو وما تلاها من اتفاقات ، وما رافق كل ذلك من تصعيد للسياسة العدوانية الصهيونية التي تستهدف تدمير مقدرات شعبنا ونهب ومصادرة أرضنا عبر المستوطنات والمعازل والجدار الفاصل بين أبناء شعبنا على أرضنا المحتلة ، إلى جانب إمعان العدو الصهيوني في تحدي قرارات الشرعية الدولية والتنكر للحقوق الوطنية لشعبنا في مقابل سعيه لتوفير الشروط اللازمة لإدامة الاحتلال ، وتوطين اللاجئين من ابناء شعبنا خارج وطنهم ، وتمزيق وحدة شعبنا وتجزئة قضيته الوطنية .
ان مواصلة هذه العملية وفق الشروط الامريكية الاسرائيلية ، سيلحق المزيد من الضرر بمنجزاتنا الوطنية والسياسية ، كما ان التعاطي مع هذه المشاريع سيؤدي الى تدمير منجزاتنا الوطنية التي تحققت على اكثر من صعيد على امتداد اكثر من سبعين عاما من النضال الوطني المعاصر لشعبنا ، وبالتالي فإن نضال شعبنا من اجل استقلاله وحقه في العودة وتقرير المصير والحياة الديمقراطية الحرة على ارض وطنه هو الخيار الوحيد الذي يجب التمسك به في مواجهة المخطط الامريكي الصهيوني الذي يستهدف تصفية حقوقنا الوطنية والتاريخية .
وفي ظل هذه الظروف نتوقف امام اجيالا من المناضلين ، ضمت الجد والجدة والاب والام والابناء من جماهير الشعب الفلسطيني ، اجيال تعاقبت على حمل الراية ، راية التحرر ، راية الوطن ، راية الشعب ، راية العمال والكادحين الفقراء والفلاحين والمثقفين الثوريين على امتداد عشرات السنوات ، وانتمت للثورة من اجل طرد المحتل وتقرير المصير وحق العودة واقامة الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس ، كما ناضلت من اجل حقوق الفقراء من العمال والفلاحين في سبيل لقمة اطفالهم ، علاوة على نضالها اليوم من اجل الحرية والديمقراطية ومن اجل المساواة بين المرأة والرجل في كافة الحقوق والواجبات .
لقد قدم الشعب الفلسطيني المناضل مئات الاف من الشهداء والاسرى والمعتقلين والمعتقلات ، وتحمل الكثير من ابنائه كل اشكال المعاناة والاغتراب والاضطهاد والتشريد والمحاربة في لقمة العيش ، ان هذه التضحيات تشكل تراثا خالدا نعتز به ، ويعتز به كل المناضلين في المستقبل ، فإنه ايضا يشكل احد اهم ركائزنا في اوساط جماهيرنا الشعبية في كل مدننا وقرانا ومخيماتنا للارتقاء بالعملية النضالية ، صوب هدف مركزي هو اهمية المساواة بين المناضلين والعمل من اجل البناء الديمقراطي والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص للجميع.
لقد أثبت الفلسطينيون تاريخياً أنهم مستعدون لبذل أرواحهم ودمائهم والتضحية بالغالي والنفيس لإنقاذ الأرض والعرض، ولاسترداد حقوقهم الوطنية المسلوبة، فلماذا يحظى الدم الفلسطيني في هذه الأيام (على أهميته)، بالأولوية على الأرض، وهل باتت السلطة تحظى بالأولوية على التحرر الوطني، والمشاريع الفئوية الفصائلية على المشروع الوطني الذي بات في خبر كان، وهل اصبحت منظمة التحرير في خبر كان ، هذه المنظمة التي حظيت باعتراف عربي وعالمي، وهي الكيان والخيمة والوطن المعنوي للشعب الفلسطيني وممثله الشرعي والوحيد ، صحيح ان المطلوب تطوير وتفعيل مؤسساتها ورسم رؤية استراتيجية طويلة المدى، تنظم الشعب الفلسطيني في كفاحه من أجل تحرير الارض والانسان.
يختلط في أذهان العديد من المناضلين تجربة نضالهم وخاصة كيفية استنهاض العمل النضالي بكافة اشكاله على المستوى التنظيمي ،ومن الطبيعي ومن الواجب أن نولي هذا الموضوع الاهتمام الكبير من اجل الخروج من المأزق التي تعاني منه مختلف القوى نتيجة التأثيرات الانفعالية، بل ننظر إلى جماهيرنا بأنها مؤلفة من أفراد أحرار من مواطنين واعين لارتباطهم بقضية أمتهم وملتزمين بهذه القضية ومصممين على بناء المستقبل ، فإذن المناضل هو أساس الجماهير التي تقوم عليها حركة النضال التي نؤمن بأنها هي صانعة التاريخ.
بين الحين والآخر علينا أن نرجع إلى الكلمات والشعارات التي ننادي بها ونعلنها لنرى إذا كانت لا تزال حية ، تنبض فيها الحياة بكل قوتها وحرارتها او إنها أصبحت أشكالا فارغة ولم تعد تعني شيئا كثيرا وإنها قد أفرغت من محتواها وان الحياة في جهة والكلمات في جهة أخرى.
اذن ان اي تنظيم تقوم حركته على الصدق وعلى التجدد وعلى أن تبقى دوما قريبة من اهداف الجماهير ، لذلك علينا ان نعيد النظر بين الحين والآخر لنتوقف امام المواقف والشعارات والبرامج ولنرى هل لا تزال قريبة من الواقع ، وما زالت تعبر فعلا عن الأفكار والأهداف التي انطلق من اجلها هذا التنظيم او ذاك
لذلك، لا يجوز أن نعطي فترة التراجع والتردي، التي نشهدها، واين اخطأنا وكيف نطبق برامجنا ،هذه المنطلقات ستبقى أقوى وأمضى سلاح في يدنا في مواجهة ما يتعرض له المناضلين من سياسة التيئيس، شريطة أن نعزز مصداقيتها بالاستبسال والتضحية في سبيلها، لكي يتجدد فعلها في كافة المواقع ويتعمق أثرها ويتسع ليشمل كل المناضلين.
ان بناء التنظيم يقتضي الاعتماد على القاعدة الحزبية باعتبارها معادلة أساسية النضال الديموقراطي بدل ان تبقى مجرد احتياطي يتم اللجوء إليه لتغليب كفة هذه الجهة أو تلك وصولا لممارسة نفس السياسة , وهو يحول دون تحقيق ديموقراطية حقيقة على المدى القريب والبعيد .
لذلك فإن تجسيد الالتزام الذاتي والموضوعي بمبادئ تعبر عن ممارسة الأخلاق الرفاقية الثورية التي تحلى بها شهدائنا وقادتنا يتطلب الحرص على ان تكون فصائلنا وتنظيماتنا حضناً دافئاً لكل المناضلين استناداً والتزاماً من اجل تحقيق مقومات النهوض على طريق تحقيق واستعادة دورهم الطليعي ليس في فلسطين فحسب بل في كافة مواقع تواجد الشعب الفلسطيني.
ونحن نعلم اهمية مشقة النضال وتضحياته وعذاباته وهي تنغرس في نفوسنا وضمائرنا ، حيث ان هنالك مناضلون يتابعون الطريق، يحكون لأمتهم، لشعبهم، لرفاقهم واخوانهم، حول اهمية النضال الذي يقوده .. بكل منجزاته وبكل إبداعاته ليس إلا وليد الفضائل، بل وليد الصمود، وليد المبدئية، وليد التجربة التي يكتسبها المناضل في أيام المحن والشدائد إذ يبلو نفسه ويبلو محيطه وينمو وينضج من خلال هذه التجربة ويتسلح بما يميزه عندما يقوم به ، يتسلح بالأخلاق التي تميزه من خلال تجربته النضالية حيث تكمن في أعماق النفس وترفع نفس المناضل كلما كادت المغريات تنال منه أو تؤثر عليه، فإذا النضال وحدة لا تتجزأ في شطرها السلبي وشطرها الإيجابي... النضال هو الحياة الحقة وأكاد أقول بأن الأساس هو ذلك الشطر، هو البداية، هو الامتحان، هو التشبع بالفكرة والمبادئ والانصهار فيها، في نار التضحية والألم... تلك الفترة هي التي تحدد شخصية المناضل ومصيره وجدارته وأصالته.
ان التحدي الذي باتت تواجهه جبهة التحرير الفلسطينية الآن أكثر من أي وقت مضى، ومعها جميع القوى الديمقراطية والوطنية ، هو بلورة البديل النظري والعملي من الخيارات المعتمدة بعد وصولها إلى حائط مسدود، وتجسيد ذلك بفعالية كاملة على جميع المستويات والصعد، فلا يكفي تسجيل المواقف للتاريخ، إنما يجب أن تقدم نموذجا فاعلا مبادرا مستمرا قادرا على إحداث التراكم الكفيل بإحداث التغيير المنشود، فإذا كانت جبهة التحرير الفلسطينية على سبيل المثال تعارض العودة الى المفاوضات بشرط وقف الاستيطان والاعتراف بالدولة الفلسطينية على حدود 67، كما هي فعلا، فانما هذا الموقف يتناقض مع برنامجها السياسي اذ لم تقترن موقفها بان هذا جزء من الهدف المرحلي التي صاغته الجبهة ، حيث اكدت الجبهة انها تخوض النضال بأشكاله المختلفة من أجل تحقيق أهداف شعبنا بالعودة وتقرير المصير واقامة الدولة المستقلة ، واكدت بأن العلاقة بين أهداف شعبنا المرحلية والاستراتيجية هي علاقة جدلية ، وأن أية محاولة لاستبدال الاهداف الاستراتيجية بالهدف المرحلي ستصطدم برفض الشعب الفلسطيني ومن هنا اكدت على الاصرار بمتابعة مسيرة الكفاح حتى تحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني.
ان اي تنظيم له معايير حول أدائه وبناءه، فأنه يرتقي برؤيته وممارسته السياسية ، الفكرية ،الكفاحية، وبالتالي إدارة الصراع بكفاءة وبراعة، وهي عملية حيوية واستراتيجية بكل معنى الكلمة، وما دام الأمر كذلك، فيجب الارتقاء بالنقاش والتصدي للمعضلة التنظيمية بكل أبعادها.
ان جبهة التحرير الفلسطينية التي استحقت المكانة التي احتلتها في التاريخ ولدى الشعب الفلسطيني، فهي تستجيب بشكل دائم وتلقائي لاتجاه الشعب الفلسطيني العام، وإذ لم تستطع قيادة الشعب، لكنها أدت دورا ملموساورئيسيا وما زالت، ولم تعاكس ارادته ومصالحه وأهدافه، وتغلب في البداية أو النهاية مصالحه العليا على مصالحها الفئوية والفصائلية، لذلك فكان الشهيد القائد المؤسس ابو العباس الشخص الاستثنائي على مستوى النضال الفلسطيني وفي جبهة التحرير الفلسطينية، فكان وطنيا وقوميا بنهجه وسلوكه السياسي، كان وطنيا فلسطينا مخلصا وصادقا في وطنيته، ، ولعل هذا هو السر الذي كان يجمعه والرئيس الشهيد ياسر عرفات، على الرغم من بعض نقاط الاختلاف في بعض الأمور،كان الشخصية السياسية والفكرية والنضالية للجبهة، حيث كان يستظل دائما بخيمة البيت الفلسطيني الواحدة الموحدة، لأنه كان يجدها أدفأ وأحن من قصر أي زعيم عربي. وقد اضفى على الجبهة ومسيرتها الكفاحية نكهة خاصة.
إننا في الجبهة إذ نعي هذه الحقائق ، ندرك صعوبة وتعقيدات الواقع الراهن ، لكننا ندرك وبعمق أكثر أن وجودنا هو وجود تغييري لهذا الواقع ، وجود يتطلع نحو المستقبل ، عبر إدراكنا لمعنى الالتزام الحقيقي الفكري والتنظيمي والسياسي الذي لا معنى للانتماء بدونه ، وهذا يتطلب توسيع ، وتعميق دور جبهتنا وكافة القوى الوطنية عبر اثبات وجودها في الانتخابات الديمقراطية واصرارها على عقد هذه الانتخابات في مواعيدها بصورة دورية، بما يستجيب للشروط الموضوعية ، ويحقق أهداف شعبنا في الحرية والاستقلال والعودة .
ان تجربتنا النضالية علمتني الكثير، حيث انتميت لفلسطين من موقعي القومي ولم اكن من المنتفعين ، لانني مؤمن بعدالة قضية فلسطين حيث لا املك سيارة، وليس لدي مرافقين ،وما زلت استقل سيارة الاجرة واتنقل من مكان الى اخر ، بل واعيش هموم الناس في المخيمات ،هذا الكلام لا احد يصدقه الا القليل ، وخاصة ان هذه التجربة الثمينة التي هي خلاصة تجارب ، باعتبارها أمل لنا لكي نجعل منها الوعي والطموح ، هذه التجربة تختزن في مضمونها مشوار نضالي لأن شعبنا بحاجة ماسة لها .
ان الإنسان الثائر، المناضل، يجب ان يحمل فكر وممارسة، ولا أبالغ وانا ارى البعض يناله الغرور، ويريد ان يتسلط وكأنه مناضل وهو لا يمت للنضال بصله ، وكان يراودني الشك في بعض القضايا لأنه لا يلمس حب شعبه ، فالانسان المناضل يجب ان يكون مشهودا له بالرصانة والنضج، والأخلاق ..
إن جوهر الإنسان هو حب الآخرين، حب الغير، ذلك الحب الذي يتحول تلقائيا إلى تفانٍ في خدمة الآخرين واستعدادا للبذل والعطاء المستمرين، بكرم وطيب خاطر وتضحية بدون حساب، وإلى اعتبار الآخرين في رأس أولويات الحياة وإيثارهم بالعطاء والاهتمام ولو على حسابه الخاص، الشخصي والعائلي، فلا المنصب ولا المركز أو الموقع، ولا سعة العيش ورغدها، تسمح له بأن يحيل الآخر إلى درجة مؤجلة إلى أن يحقق شؤونه الخاصة.
ختاما : ان الدرب النضالي يهون امام السجن والاعتقال والتشرد، تعتبرالقضية أهم بكثير من حماية الذات والأشخاص، والاستعداد لبذل التضحيات بلا شكوى ولا تذمر ولا أنين ولا عتب ولا نفاد صبر، فهكذا يكون الانسان متصالح مع نفسه وعليه الاستمرار بالعطاء والشقاء، لتحقيق القِيَم الإنسانية للمجتمع ورفعته وعدالته والمساواة بين أبنائه .
كاتب سياسي
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت