في شهر الله الحرام ، شهر رجب الفرد قبل أكثر من أربعة عشر قرناً وقعت أحداث معجزة إيمانية على ثرى فلسطين الطهور ، ففي ليلة السابع والعشرين منه أسرى الله عز وجل برسوله محمد صلى الله عليه وسلم من الأرض المقدسة إلى الأرض المباركة ، ثم عرج به إلى السماوات العلا ، فتوثَّقت الصلة بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى وما يرمز إليه كل منهما ، واتضحت الرابطة بين الرسالات السماوية في وحدة مصدرها وربانية منبعها .
وثق الله سبحانه معجزة الإسراء في قوله تعالى { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } الإسراء 1 .
ووثق المعراج بقوله سبحانه في سورة النجم { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى } النجم 5-18 .
كان الإسراء والمعراج حدثاً فريداً ورحلة لها دلالاتها العديدة :
* ففيها تجلت مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم عند الله تعالى ، فقد نال ببلوغه سدرة المنتهى منزلةً لم يحظَ بمثلها أحد من أهل السموات والأرض ، وارتقى إلى درجة لم يرقَ إليها أحد من الرسل أو الأنبياء ، ونال بإمامتهم مكانة رفيعة كونه خاتم الرسل والأنبياء .
* وفيها ظهر صدق المؤمنين ونقاء صفهم وصدق يقينهم وثبات عقيدتهم ، وكانت تدريباً وتوطيناً لنفوسهم على حسن الاستجابة لله عز وجل ، واستعداداً للمراحل القادمة من مسيرة الدعوة وترك الأهل والوطن هجرة لإقامة دولة الإسلام .
* وفي هذه الرحلة درس عظيم لكل مهموم مغموم ، ولكل قلب مكلوم أن لا يلجأ إلاَّ إلى الله عز وجل في شدته ، يطلب تفريج كربته وإزالة غمته وإنزال سكينته ، فالرسول صلى الله عليه وسلم ماتت زوجه التي كانت تخفف متاعبه ، ومات عمه داعمه وناصره ، وردته ثقيف ردًّا ساخراً شائناً مؤلماً ، فمن له الآن وهو محزون غير ربه الرحيم يفيء إليه ويقف على بابه راجياً مناجياً { اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس.. إلهي أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى مَن تكلني إلى بعيدٍ يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري أعوذ بنور وجهك الذي أضاءت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل عليَّ غضبك أو أن تحل بي عقوبتك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بالله } فما خيب الله دعاءه ، فجاءت الرحلة المباركة إيناساً له وإشعاراً له بمعية الله وقربه منه .
* وفي رحلة الإسراء تجلت مكانة أرض فلسطين وبالأخص المدينة المقدسة والمسجد الأقصى المبارك ، وما تقتضيه هذه المكانة من الأمة تجاهه ، بالعمل على استعادته ، وممارسة دورها في استعادة أرض فلسطين ، وقد تأكدت هذه المكانة باتخاذ النبي صلى الله عليه وسلم بيت المقدس قبلة له وللمسلمين في صلاتهم لسبعة عشر شهراً أو يزيد .
إذن كانت هذه رحلة ربانية ربطت بين مقدسات الإسلام بجميع وقائعها ودقائق تفاصيلها ، فقد كان مبتدؤها البيت العتيق في مكة المكرمة ؛ ومحورها المسجد الأقصى المبارك ، وجاوز منتهاها سدرة المنتهى ، فقد تواصل ارتقاء الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في السماوات العلا حتى وصل إلى حيث توقف الأنبياء والملائكة ، ثم مضى بعد ذلك إلى لقاء مالك الملك ذي الجلال والإكرام ، لينال الشرف والسمو والرفعة ، ويضفيه على أمته لتكون بحق أمة الخيرية والوسطية والشهادة ، فكأن الله عز وجل يقول لحبيبه ومصطفاه : لا تحزن أن اعرض عنك أهل الأرض فقد أقبل عليك أهل السماء ، قال صلى الله عليه وسلم { أُتِيتُ بالبراق فركبته حتى أتيت بيت المقدس قال فربطته بالحلقة التي يربط به الأنبياء قال ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال جبريل عليه السلام اخترت الفطرة ؛ ثم عرج بنا إلى السماء } رواه مسلم .
عاد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من هذه الرحلة لأمته بأثمن هدية من ربهم ، عبادة هي عمود دينهم وركن إسلامهم ، فريضة تصل المسلم بربه خمس مرات في يومه وليلته ، في رحلة عروج روحية تترك أثرها في نفسه رضاً وطمأنينة يستلهم بها الصبر والعزيمة والثبات في مواجهة الصعاب والشدائد ، فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبَهُ أمر قال { يَا بِلالُ أَقِمِ الصَّلاةَ أَرِحْنَا بِهَا } رواه أبو داود .
ونغتنم مناسبة الإسراء والمعراج العزيزة على قلوب المؤمنين :
1- لتوجيه نداء إلى الأمتين العربية والإسلامية شعوباً وحكاماً ومنظمات ؛ بتحمل مسؤولياتهم تجاه مسرى رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم والتحرك الجدي العاجل لتحريره والدفاع عنه والتصدي للمخططات التي تحيكها سلطات الاحتلال الإسرائيلي ضده .
2- ولنحذر من الخطر الحقيقي الذي يهدد المدينة المقدسة جراء تهويدها بإقامة البؤر الاستيطانية فيها وتسارع وتيرة بناء الوحدات السكنية لغلاة المستوطنين ، والخطر المحدق بالمسجد الأقصى المبارك جراء الحفريات المستمرة تحت أساساته وفتح الأنفاق أسفله وإقامة الكُنُس اليهودية بالقرب منه ، إضافة إلى هدم جميع المباني الإسلامية الملاصقة له والمجاورة لحائط البراق من مساجد ومدارس ومساكن ومقابر ، واقتحام الجماعات اليهودية المتطرفة لأداء صلواتهم التلمودية في ساحاته في الوقت الذي يمنع فيه المسلمون دخوله والصلاة فيه ، وهذا اعتداء سافر على حق الإنسان الفلسطيني في أداء شعائره التعبدية وتدخلاً غير مبرر في شؤونه الدينية ، وسعياً من سلطات الاحتلال الإسرائيلية إلى الاستفراد به لنسفه أو هدمه وتقويض بنيانه بعيداً عن أنظار العالم لتحقيق الأسطورة والحلم اليهودي بإقامة الهيكل المزعوم على أنقاضه .
3- ولنؤكد اختصاص المسلمين وحدهم بالمسجد الأقصى المبارك ؛ فهو مسجد إسلامي خالص بكل مكوناته لا حق لأحد غيرهم فيه من قريب ولا من بعيد بقرار رباني من فوق سبع سماوات ، ونحمل سلطات الاحتلال الإسرائيلية المسؤولية الكاملة عن مضيها في الانتهاكات والإجراءات بغير مبالاة بمشاعر المسلمين ، وتقديمها الدعم والحماية الكاملة للمجموعات المتطرفة التي تدخل ساحاته وتمارس فيه الأعمال الفاضحة والمخلة بالآداب العامة والمتنافية مع قدسية المكان .
4- ولنذكر الجميع بأن أي مساس بالمسجد الأقصى المبارك سيؤدي إلى تفجير الموقف مما ينذر بنتائج وآثار لا تحمد عقباها ، فعندها ستنطلق الأمة كافة لاستعادة هذا الأسير وتحريره من قيوده استجابة لقول ربها عز وجل مخاطباً بني إسرائيل { وَلِيَسُوؤوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ } الإسراء 7 .
بقلم الشيخ تيسير رجب التميمي/ قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت