تحديث القوانين من أهم إنجازات القضاء الشرعي
الحلقة الرابعة : مشروع قانون الأحوال الشخصية/4
وهذا هو الجزء الثاني المكمل للحلقة الرابعة والأخيرة من هذه السلسلة
1- نظراً لما تتعرض له المرأة في مجتمعنا الفلسطيني من حرمانها حقوقها الإرثية ، وبسبب ما يقوم به بعض الناس من تحايل على النصوص الشرعية للتهرب من إعطائها إرثها ؛ فليجأون إلى إقناعها بالتخارج الشكلي ، وهو بيع حصصها الإرثية مقابل ثمن بخس أو بلا مقابل غالباً ؛ فقد شدد مشروع القانون على شروط التخارج بهدف تضييق دائرته قدر المستطاع ، جاء في الفقرة الثانية من المادة (206) [ لا يتم التخارج بين الورثة إلا بعد علم كل وارث لحصصه الإرثية في تركة مورثه علماً تاماً نافياً لكل غبن وجهالة وتحديدها عن باقي حصص الورثة ] .
ومثل التخارج الوقف الذُّرِّيّ ؛ حيث يلجأ بعض الناس إلى وقف أموالهم على الذكور من ذرياتهم فقط ، واستناداً إلى بطلان الشروط إذا عارضت أحكام الشرع وخالفت فرائض الله تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم { ... ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط ... } رواه البخاري ، وبناء على الفهم الدقيق للقاعدة الفقهية [ شرط الواقف كنص الشارع ] الذي بينه العلاَّمة ابن القيم بأن شرط الواقف إذا كان مخالفاً لحكم الله ورسوله فهو حري بالإبطال ، لأن هذا الوقف سيترتب عليه قطع ما أمر الله به أن يوصل بسبب هذا الشرط الفاسد مما يجعله باطلاً من أصله غير منعقد انظر إعلام الموقعين لابن القيم 1/237 ، لكل ذلك فقد جاء في المادة (212) من مشروع القانون [ يمنع تسجيل أية حجة وقف ذري تخالف أحكام الفريضة الشرعية ] .
2- الوصية الواجبة : أخذت قوانين الأحوال الشخصية في بعض الدول العربية بالوصية الواجبة منها جمهورية مصر العربية ، وهو قول الظاهرية الذين يوجبونها للأقارب إن لم يكونوا من الورثة انظر المحلى لابن حزم 8/353 ؛ وقد استندوا إلى قوله تعالى { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ } البقرة 180
رأى فريق كبير من العلماء المعاصرين أن أبناء المتوفَّى في حياة أبيه أحق الأقارب بالوصية في ميراث جدهم أو جدتهم ؛ زمن مسوغات ذلك لديهم اجتماع اليتم والحجب من الميراث لهؤلاء الأحفاد ؛ هذا بالإضافة إلى ما يسود اليوم من تقصير أقاربهم في صلتهم وبرهم وإحاطتهم بالحنان والرعاية والكفالة ، لكن القوانين اشترطت لهذه الوصية شروطاً محددة ومنصوصاً عليها في موادها .
بدأ العمل بالوصية الواجبة في فلسطين عام 1976 في المحافظات الشمالية (الضفة الغربية) ، وأخذ بها مشروع القانون ؛ إلاَّ أنه ساوى بين أبناء البنت وأبناء الابن في هذه الوصية ؛ وحصرها في الطبقة الأولى منهم فقط باعتبارها ليست من الميراث ، جاء في المادة (208) من مشروع القانون [ إذا توفي شخص وله أولاد ابن أو بنت مات قبله وجب لهم في ثلث تركته الشرعية وصية بالمقدار والشروط التالية ... ] .
3- السنة القمرية : يرى فريق من العلماء المعاصرين وجوب اتباع التقويم الهجري والسنة القمرية في التأريخ ، واستدلوا على ذلك بعدة أدلة ؛ منها قوله تعالى { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم } التوبة 36 ، ووجه استدلالهم أن الآية تنص صراحة على وجوب اعتبار الأشهر القمرية ، ومنها قوله سبحانه أيضاً { هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب } بونس 5 ، فالآية صريحة في النص على أن منازل القمر موصلة إلى التأريخ واحتساب الأزمان والسنوات.
ويرى فريق آخر منهم جواز اتباع التقويم الميلادي والأشهر الشمسية ، واستدلوا على رأيهم بعدة أدلة منها قوله تعالى { فالق الإصباح وجعل الليل سكناً والشمس والقمر حسباناً } الأنعام 96 ، فالآية صريحة في اعتبار كلٍّ من القمر والشمس حسباناً ، وبناء على ذلك فقد أجازوه في ضرب الآجال في العقود والبيوع وغيرها ما دامت معلومة .
وعلى الرغم من أن هذه المسألة اجتهادية ؛ إلاَّ أن القانون التزم التقويم الهجري ، فقد نصت المادة (214) من مسودة القانون [ لأغراض هذا القانون يقصد بالسنة أينما وردت السنة القمرية ] ، هذا باستثناء ما نصت عليه المادة (7) من اعتماد السنة الشمسية في سن أهلية الزواج .
4- فسخ عقد الزواج قبل الدخول : تسجل الحالة الاجتماعية لكل شخص (رجل أو امرأة) في هويته الشخصية حسب نصوص قانون الأحوال المدنية ، فمن الأشخاص من هو عزب ومنهم من هو متزوج ، وهناك من هو أرمل ومن هو مطلق قبل الدخول أو بعد الدخول ، ومن حق كل طرف عند إبرام عقد الزواج أن يكون على علم بالحالة الاجتماعية للطرف الآخر ، ولو أخفيت عنه فهي من التدليس الممنوع .
والرجل العزب والمرأة العزبة هما من لم يسبق لهما الزواج أصلاً ، والمطلق والمطلقة هما من انفصمت عرى زواجهما وانحل عقدهما الصحيح بإحدى طرق التفريق المنصوص عليها في قانون الأحوال الشخصية ، أما الأرمل أو الأرملة فهما من توفي عنه زوجه ولم يتزوج بعده .
ولكن هناك حالة اجتماعية أخرى تواجهنا وموجودة لكنها لا تسجل في الهوية الشخصية هي حالة الفسخ ، والفسخ يعني انحلال عقد الزواج غير الصحيح سواء في ذلك الفاسد والباطل وسواء ما وقع قبل الدخول وما وقع بعده ، وسمي عقداً تجاوزاً فقط ، ونظراً لخصوصية المرأة في مجتمعنا ولحساسية وضعها فقد نصت المادة (46) من مسودة القانون في فقرتها الثالثة [ في جميع الأحوال إذا تم فسخ عقد الزواج قبل الدخول ، تسجل الحالة الاجتماعية للمرأة في الوثائق الرسمية عزباء ] .
وفي ختام هذه الحلقات أقول : إن الأفراد واللجان التي أخرجت مسودة القانون إلى الوجود بذلت جهوداً جبارة للوصول إلى هذه الغاية ، وحرصت كل الحرص على انتقاء نصوصها وصياغاتها التي لا تخالف أي حكم شرعي قطعي ولا تتعارض مع ثوابت ديننا الإسلامي الحنيف .
يضاف إلى ذلك أن ورشات العمل المتعددة والمكثفة التي عقدت لمناقشة نصوص مسودة هذا القانون والتي حضرتها أعداد كبيرة من المشاركين ـ على تعدد وتنوع اختصاصاتهم ووظائفهم وأدوارهم في المجتمع ـ أسهمت في تحقيق قدر كبير من التوافق على معظم قواعده ومبادئه ونصوصه ؛ بما قدموا من ملاحظات ومداخلات ومقترحات وأفكار أعنت الحوارات والنقاشات أثناءها ، فكان هذا العمل ثمرة جهد جماعي ؛ لكنه مع ذلك من إعداد وصياغة البشر المتصفين بالنقص والخطأ والتغيُّر ، فلا كمال إلاَّ لله سبحانه وتعالى ، فما كان فيه من صواب فهو بتوفيقٍ وفتحٍ من المولى عز وجل نسأل ربنا سبحانه أن يجعله يوم الدين في ميزان كل من شارك فيه بإخلاص ، وما كان فيه من خطأ فمن الشيطان نسأل الله العلي القدير أن يغفره ويمحوه من صحائفهم ، وقد قال صلى الله عليه وسلم { إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْر } رواه البخاري ، وكلنا أمل أن يلتمس إخواننا لنا العذر فيما أخطأنا أو خالفناهم فيه ، فإننا نعذر بعضنا في عباداتنا وصلواتنا حال اختلافنا في فروعها وجزئياتها .
وكلنا أمل أن يأخذ مشروع القانون هذا طريقه إلى الإقرار والنفاذ في فلسطين ، ونحن على يقين حينها أنه سيلبي القدر الأكبر من احتياجات الأسرة الفلسطينية التي لها الدور الأكبر في تماسك وارتقاء مجتمعنا .
الشيخ الدكتور تيسير التميمي قاضي قضاة فلسطين/رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت