الدكتور الأسير …أمجد قبها وأشواق لتسنيم الصغيرة

بقلم: فؤاد الخفش


لا يمكن أن أنسى تلك الليلة التي جمعتني بالأسير الدكتور أمجد قبها في معبار سجن الرملة بعد رحلة معاناة طويلة وصعبة استمرت أكثر من خمسة عشر ساعة, ومع لقاء الدكتور الأسير زال كل التعب ووقفت على باب زنزانة معبار الرملة وهو على باب زنزانة أخرى غير مقابلة وبتنا نتحدث من صلاة المغرب حتى الثانية فجراً.

كانت معرفتنا دون لقاء, فقط يسمع عني كما أسمع عنه, وهذا عالم جديد لا يعرفه من لم يدخل الأسر ، فكثير من العلاقات التي تبنى ما بين الأسرى تكون من خلال حديث أسير عن صديق له لأسير آخر فتبنى ما بين الأسير وصديق الأسير علاقة قوية دون لقاء ، فقط نقل أخباره ومواقفه .

كثيرة هي العلاقات التي تبنى ما بين الأسرى وأسرى آخرين لم يلتقوا بهم إطلاقاً من خلال حديث الصديق لصديقه عن صديقه البعيد فينتقل الحب والعلاقة الطيبة وتنسج علاقة تصبح قوية ، فالسجون تفرّق وتجمع وكباب دوار هي الحياة في هذه السجون يتنقل الأسرى وينقلون معهم قصصهم ونكاتهم ومواقفهم وبطولاتهم وكل شيء حتى المحرج منها .. تاريخ طويل من القصص وعدد لا حصر له من الروايات تلك التي يحفظها الأسرى عن بعضهم البعض فيا له من عالم يحب الإنسان فيه الآخر دون أن يلقاه أو يلتقيه .

بمثل هذه الطريقة بنيت بيني وبين هذا الرجل هذه العلاقة والتي لا أريد أن أتحدث عنها وأريد أن أسلط الضوء على هذا الإنسان .. وآه ما أعظم وصف إنسان ، كتلة من المشاعر هي التي لمستها وسمعتها من هذا الرجل والله يشهد وهو كذلك يشهد بذلك أننا في وقت واحد وفي أقل من دقيقة بكينا وضحكنا .

بكينا حين حدثني عن زيارة أبيه الأخيرة له قبل موته بأسبوع ، حيث حضر له أباه وكان التعب بادياً عليه وجلس الوالد قبالة ابنه يسأله عن أخباره فحدثه كيف يمضي وقته ما بين القراءة ومساعدة الشباب ومعالجتهم طبياً ، وحدّثه الوالد عن صغيرتهم (تسنيم) وعن أمه وعن العائلة ، وكان أمجد يوصي والده ببعض الأمور الصحية وكيف يعتني بنفسه أكثر .. انتهت الزيارة وأدار ظهره الوالد ، وقال لي أمجد كنت أشعر أنها المرة الأخيرة التي أراه فيها وهو ما كان .

أذكر تلك الكلمات التي قالها وأبكتني حينما قال:" مات أبي وبكيته بحرقة دون أن أتمكّن من ضمّه وعناقه", وبكى مرة أخرى وهو يحدثني عن مشاعره وحزنه ولم أملك أن أربّت على كتفه فبكيت لبكائه ومشاعره ودعونا له بالرحمة .

انتقلت للحديث معه عن ابنته التي رزق بها بعد شهر ونصف من اعتقاله في 4/7/2002, كان يتحدث عن روحه, عشقه, حبه, تحدث عن كل ما يملك ، حديثه كان كله مشاعر فكان قلبه هو الذي يتحدث عنه, عيونه كانت تلمع وكان ينظر إلى سقف الزنزانة كان يهرب بنظراته منا ..تسنيم .. كل شيء تسنيم ، قال لي أول مرة شاهدت تسنيم كانت كبيرة كانت الزيارات ممنوعة قبل ذلك ، كانت لا تريد تقبّلي ، كانت خجولة أمضيت الزيارة بالكامل أحاول أن أضحكها أن أسرق منها قبلة بسمة دون فائدة ، معها حق .. فهي لا تعرفني إلا من خلال الصور ، والصور قديمة وقد كست الأيام رأسي بالشيب .

حدثني أنها مع الوقت والسنين أصبحت تسنيم تتقبّل والدها وقال لي اخترعت طريقة للتواصل معها من خلال الزجاج حيث تقوم بوضع أصبعها على الزجاج وأقوم بملاحقة أصبعها من خلال أصبعي ونرسم سوياً وردة أو من خلال كتابة اسمها وهذه طريقة من طرق التواصل وتقوية العلاقات دون أن ألمسها أو أضمها لصدري تطفئ نار وشوق كل هذه السنين .

حدثني عن زوجته الصابرة وعن تضحياتها وروحها الطيبة وصبرها وأدبها وخلقها وحبه لها وعن حسن تربيتها لصغيرتهما تسنيم والتي ستدخل عامها العاشر بعد أيام قليلة ...واتفقنا وإياه أن صبر الزوجات على بعد أزواجهن في السجون أعظم من صبر الأسرى على ظلم السجن والفراق .

حدثني عن سبب وجوده بالمعبار (الرملة ) وسبب نقله لسجن السبع من سجن مجدو ، لمنعه من التواصل مع شقيقه المهندس الأسير وصفي قبها الذي منع من الالتقاء به والجلوس معه وعناقه فكان القرار تفريقهما ما بين السجون واحد في أقصى الشمال والآخر في أقصى الجنوب.

قد يكون هذا الحديث السابق مدخلاً صغيراً وبسيطاً أسلّط فيه الضوء على نفس الأسير وإنسانيته وحسه المرهف وجمال روحه ، فالإنسان كتلة مشاعر وأحاسيس وما أجمل الإنسان الرقيق الحساس صاحب المشاعر.

أمجد قبها طبيب فلسطيني درس الطب في روسيا وعاد ليخدم في بلاده فكان طبيباً مميزاً بكل ما تحمل الكلمة من معنى بشهادة الجميع ، وكان أمجد الدكتور يساعد كل أبناء البلدة دون مقابل وكان يقدم العلاج لجميع المصابين برصاص الاحتلال إبان الانتفاضة الأولى وكان ممن قدّم العلاج للشهيد نصر جرار الذي بترت قدماه بعد قصفه بالطائرات .

اعتقل أمجد وكان الحكم الذي صدر بحقه جائراً ومجحفاً وكبيراً .. ثمانية عشرة عاماً كاملة والسبب علاج المجاهدين وتقديم الخدمات الطبية للمطاردين .


أمجد في سجنه وزنزانته موسوعة طبية بكل ما تحمل الكلمة من معنى يقدم المشورة والعلاج لكل من يحتاجها من الأسرى ويشرح للمريض حالته ومضاعفاتها وطرق علاجها فأن تعيش مع طبيب في زنزانته أو في ذات القسم وأن يكون هذا الطبيب كأمجد يحب مساعدة الآخرين وتقديم النصيحة والخدمة لهم أمر عظيم رائع يتمنّاه جميع الأسرى في السجون .


أمجد قبها أقسم أني احببتك من كل قلبي رغم أننا لم نتصافح أو نلتقي ولكن كما قلت بنيت لك في محيّاي صورة رائعة مما سمعته عنك من رفاق الأسر ومن الساعات القلائل التي جمعتنا بك ، واليوم من خلال هذا المقال أنقل حبّي لقلب كل من سيقرأ هذه الكلمات فالناس في بلادنا وهناك خارج بلادنا يعشقونكم ويحبونكم وها أنا أنقل لهم قصصكم وحكاياتكم في محاولة لتوثيق هذه الحالة الإنسانية الفريدة .

بقلم فؤاد الخفش كاتب باحث مختص في شؤون الأسرى الفلسطينيين

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت