أي دولة تبنى بمؤسساتها القوية وتسير نحو الاستقلال كما يَدّعى أصحاب القرار وهي لا تملك أن تدفع الرواتب لموظفيها وتنتظر من الآخرين أن يسددوا لها ديونها ويدفعوا عنها مستحقاتها، فهل نستطيع أن نسمى هذه دولة ذات سيادة قادرة على أن تتحمل أعباء مواطنيها وتوفر لهم حاجاتهم ومتطلباتهم العديدة والمهمة والتي لا تقف عند توفر رواتب موظفين ولكن حجم المسؤولية أعظم بكثير من ذلك .
ومن العجيب أننا نسمع كل فترة وجيزة أن هناك دعم قُدم للصندوق المالي للسلطة الفلسطينية يتعدى في كثير من الأحيان المليارات من الدولارات، وفي كل مرة تنفرج أسارير المواطنين ويغمرهم الأمل أن تلك الأموال سوف تُسخر لفتح مشاريع وأعمال ومصانع تزيد من حجم الإنتاج المحلي في السوق، وتُشكل بناء ذاتي من الموارد المحلية التي تجعلنا نستغني عن مساعدات الآخرين وتوسلاتهم، ولكن تأتي النتيجة مخيبة لآمال المواطنين فلا يُعرف أين تم تسريب الأموال واستهلاكها، ولا يظهر على سطح المجتمع أية مشاريع حقيقة تعمل على تنمية المجتمع وزيادة في تحسين مستوى الاقتصاد، ولا يزداد فيه إلا الفقر والبطالة وصعوبة الحياة بأطرافها المختلفة، وبالذات ارتفاع الأسعار في وجه المستهلك الفلسطيني ورفع الضرائب في وجه المستثمر.
وتبقى شريحة الموظفين العموميين هي الشريحة الأقوى والأكثر استغلالاً لتوضع في فوهة التسول المالي وطلب المساعدات الخارجية، ففي كل مرة تجد الخزينة المالية للسلطة نفسها في مأزق مالي وزيادة في تراكم الديون والعجز المتفاقم فيكون الموظفين العموميين هم الوسيلة الأسهل والأنجع لطلب الرحمة العالمية والعربية من أجل النجدة والاستغاثة المالية، فتبدأ التصريحات الإعلامية والتحذيرات من وقوع أزمة إنسانية وضياع مجتمع بكامله في حالة تأخرت أو لم تقدم أي مساعدات مالية للخزينة المالية، كأن الموظف العام بات الشماعة التي يُعلق عليها مصير هذه الدولة ومستقبل استقرارها فإن تم إشباع الموظف وإطعامه لقمة خبزه وعيشه يبقى المجتمع في سلام واستقرار، أما إن تم تجويع الموظف وقطع لقمة عيشه ورزقه فسوف تحدث الكارثة المجتمعية التي لا تحمد عقباها .
وتُنسى من ذهنية أصحاب القرار المالي شرائح كبيرة من المجتمع الفلسطيني الذين ينتظرون الأموال لتحسين ظروفهم وإشباع لقمة عيشهم، فشريحة الموظفين هي جزء من المجتمع الفلسطيني الكلي الذي يتشكل من شرائح عديدة تعاني الكثير دون أن يُسمع لها صوت ولا يستجاب لأناتها، فهناك العمال العاطلين عن العمل الذين يفتقدون لوجود معامل ومشاغل ومصانع تستقبلهم وتوفر لهم الحياة الكريمة،وهناك شريحة الشباب الخريجين الذين لا يجدون وظائف تليق بهم وبشهاداتهم فتًقتل طموحاتهم وأحلامهم ويبقى الشارع والوقوف على الطرقات مصيرهم، وهناك المزارع الذي يكافح لوحده للثبات على أرضه دون أن يجد من يمده بنبته جديدة يزرعها ولا قطرة ماء يسقى بها أرضه، وهناك التجار الذين أرهقوا بالضرائب وارتفاع الأسعار والتي تعود على المستهلك بكثير من الأضرار وزيادة في الحرمان والفقر، وهناك القضايا الوطنية الكبرى من الأسرى في السجون الإسرائيلية الذين يحتاجون لمناصرة في قضاياهم والمرضى الذين لا يجدون من يدفع لهم تكاليف العلاج ولا يملكون التحويلات الخارجية لارتفاع التكاليف العلاجية، وهناك الأطفال الذين يتساقطون كل يوم في أحضان الموت والإعاقة والمرض نتيجة عدم توفر الأماكن الآمنة لتفريغ طاقاتهم وإبداعاتهم، وهناك أصحاب الإبداع والعقول المفكرة التي لا تجد من يتبنى إبداعاتها وطموحاتها لتحسين حياة مجتمعهم وتفعيل الإنتاج وتحسين الاقتصاد والتنمية، وهناك الكثيرين من أبناء المجتمع الفلسطيني يعانون الألم اليومي من نير الاحتلال الصهيوني ومن التقصير المالي للخزينة الفلسطينية وتهميشها لمصالح المواطنين الحقيقية .
ومع هذا الألم المجتمعي العام نحتاج لإعادة تقييم لواقعنا، وأن نقوم بمعرفة أين تذهب الأموال التي قُدمت وتُقدم كل فترة لخزينة الحكومة ولا يُرى أثرها على واقع المجتمع الفلسطيني إلا قليلا، نحتاج إلى من يستطيع أن يُمسك هذه الأموال ويحركها نحو التنمية الحقيقة والبناء المجتمعي دون أي هدر لقرش واحد منها كي نعرف كيف ندير حياتنا ونبني أنفسنا ونستغني عن أموال الآخرين ومساعداتهم، نحتاج إلى الالتفات إلى مواردنا المتوفرة وبالذات الأرض الزراعية وأيدي الشباب العاملة والعقول المفكرة والخبرات المتميزة وأصحاب الاستثمارات والأموال المحلية والخارجية ليقوم الجميع معا على التخطيط لأجل مصلحة المجتمع والبناء حسب أولوياته وحاجاته والانفكاك عن الحاجة للآخرين وانتظار المساعدة والرحمة منهم .
فيا أصحاب السلطة المالية والقرار الإعلامي المالي لا تقوموا باستغلال شريحة الموظفين من أجل ملء خزينتكم لأموال لا تعرف أين يتم توريدها، ولا تجعلوا من الموظف السلعة الرخيصة التي يتم عرضها لأجل الحصول على الغنيمة الكبرى، ولا يحق لكم أن تستغيثوا الآخرين للمساعدة دون إذن ممن تستغيثون لأجله، ولا تهينوا الموظفين وتظهروا صورتهم وشخصيتهم أنهم فئة جائعة تعتاش على لقمة الوظيفة والراتب وفي حالة غيابها يقع الموظفين ضحية الجوع والتشرد، فكفى استهتاراً بحقوق الموظفين وكرامتهم، وكفي استهتاراً بحقوق الشعب والمواطنين الذين يستحقوا أن يروا أثر أموالهم التي تدفقت منذ سنوات عديدة إلى خزينة الدولة ولم يجدوا لها أثرا حقيقياً في واقع حياتهم إلا زيادة الفقر والبطالة والمعاناة وتراكم الديون وإفراغ الصندوق .
فاستفيقوا يا أصحاب القرار من نومكم وأعيدوا حساباتكم مع المواطنين قبل أن تنفجر في وجوهكم حناجر القهر التي كبتت منذ سنوات ولم تجد منكم أذان تسمع ولا عين ترى .
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت